من أين بدأنا وإلى أين وصلنا (2)| 71 عامًا على حركة يوليو: مقارنة من ثلاثة وجوه.. كيف كانت أوضاع الفلاح وإلى أين انتهت في 2023؟
كتب – أحمد سلامة
مازالت “حركة الضباط الأحرار” عام 1952، مثارًا للانتقادات تارة ومثارًا للتأييدات تارةً أخرى، في ظل حديث يتجدد مع كل مناسبة حول الأثر المستمر لانتقال السلطة من الملكية إلى الجمهورية.
يرى الكثيرون أن حركة الضباط في 23 يوليو هي سبب أساسي ومباشر من أسباب الأزمات التي لاحقت البلاد على مدار 71 عامًا، بينما يُجادل آخرون بالقول إن تلك الفترة الممتدة على مدى عقود ليس كُلًا واحدًا، وإنما مرت مراحل مختلفة لا يجب وضعها جميعًا على قدم المساواة خاصة مع اختلاف التوجهات المحلية والدولية.
يتناول موقع “درب” في سلسلة تقارير بعض الجوانب التي تتعلق بحركة يوليو، لنعرف من أين بدأنا وإلى أين وصلنا، وكيف يمكن أن نتدارك الأخطاء.
🛑 كيف كانت الرقعة الزراعية قبل 1952؟
في سياق المقارنة ذات ثلاثة أوجه، طرحت “درب” التساؤل على عددٍ من خبراء الاقتصاد حول الرقعة الزراعية وملكية الفلاح المصري قبل يوليو 1952، وبعد 23 يوليو، والآن في يوليو 2023.. في محاولة للإجابة على سؤال “متى بدأ التراجع؟”.
يقول الباحث الاقتصادي إلهامي الميرغني “في الريف المصري، كانت الزراعة المصرية قائمة علي المحاصيل التقليدية مثل القمح والشعير والذرة والكتان والسمسم، وفي عام 1820 أدخل محمد علي زراعة القطن لتوفير القطن طويل التيلة لمصانع النسيج في إنجلترا، ثم أدخل إبراهيم باشا ابن محمد علي زراعة قصب السكر في الصعيد. وعلى الرغم من ذلك كان الريف المصري يعاني الفقر وسيطرة الاقطاع على المساحات الكبيرة من الأرض”.
يضيف الميرغني “لما جت ثورة يوليو كان في مصر 2.8 مليون مالك زراعي: – 2.7 مليون فلاح بيملكو أقل من 10 أفدنة ونسبتهم 98.8% من الملاك وحيازاتهم 54.9% من المساحة المزروعة، – أما من يملكون 20 فدان فأكثر فعددهم 33 ألف مالك فقط بيمثلوا 1.2% فقط من الملاك ويملكوا مساحات تمثل 45.1% من ارض مصر الزراعية”.
ويستكمل “لذلك كان الريف المصري يعاني، وأول ما فعلته حركة يوليو هو إصدار قانون الإصلاح الزراعي بعد أقل من شهرين حيث تم تحديد الملكية الزراعية بـ 200 فدان في القانون رقم 178 لسنة 1952 و 100 فدان ثم 50 فدان بالقانون 50 لسنة 1969 وتم توزيع أراضي الإقطاع على الفلاحين على أن تسدد قيمتها على أقساط وعوضت ملاك الأراضي عن قيمة الأرض التي تم الاستيلاء عليها”.
لكن الدكتور فؤاد سراج الدين، الباحث والخبير الزراعي، يقول “إن الحقبة التي تلت ثورة يوليو لم تقتصر فقط على توزيع أراضي الإقطاع، فقد تم استصلاح كثير من الأفدنة الزراعية بمناطق مختلفة”.
يشرح فؤاد سراج الدين ذلك بالقول “فعلى سبيل المثال في الفترة التي تلت ثورة يوليو تم استصلاح مليون فدان في مديرية التحرير ووزعت الأراضي على المهندسين الزراعيين والحاصلين على دبلوم الزراعة (يعني أعطى العيش لخبازه) كما يقول المثل”.
يشير سراج الدين أيضًا إلى أن الأمر لم يقتصر على توسيع الرقعة الزراعية، ولكن امتد إلى تنمية وتطوير حياة الفلاح بشكل أوسع، وضرب مثلا بالقول “تم تطوير بنك التسليف الذي أعطى الفلاح قروضًا عينية ونقدية بفائدة 5%، كانت الجمعية يحكمها الفلاحين من خلال مجلس الإدارة المنتخب من أصحاب الحيازات الصغيرة، كما كانت الجمعية التعاونية هي حلقة الوصل بين البنك والمزارعين”.
ويستكمل “تم توفير جميع مدخلات الزراعة من أسمدة كيماوية ومبيدات، إلى جانب الاهتمام بالبحث العلمي حيث كان لكل جمعية مندوب من البحوث العلمية كحلقة وصل لتزويد الفلاح بكل جديد وخاصة البذور عالية الإنتاج وهذا المندوب ينقل مشاكل الفلاحين أولا بأول للبحوث العلمية للعمل على حلها.. تم تطوير التسويق التعاوني للمحاصيل مع الحفاظ على سعرها بحيث تصل للمستهلك بالسعر المناسب مع هامش ربح معقول للفلاحين”.
وأردف “زود الفلاحين بأعلاف الماشية وعلاجها البيطري للحفاظ على أسعار اللحوم، وأدخلت الميكنة الزراعية، فبعد أن كان الفلاح يستغرق يومين في حرث فدان واحد، حرثه الجرار التشكوسلافي في ساعة واحدة وحُلت مشاكل الري بالساقية وانتقلت إلى الري بالماكينة”.
ويشدد فؤاد سراج الدين على أن مصر حققت نحو 70% من الاكتفاء الذاتي من حبوب الغذاء في تلك السنوات، مضيفًا “بالتأكيد كانت هناك طفرة على مستوى الإنتاج الزراعي”.
🛑 هل نجح الإصلاح الزارعي.. وماذا عن تفتيت الرقعة الزراعية؟
يرد على ذلك التساؤل الباحث إلهامي الميرغني بالقول “منذ بداية الاصلاح الزراعي وقانونه الأول، راعت الثورة المخاطر المترتبة على تفتيت الملكية الزراعية فأفردت الفصل الثاني من القانون لجمعيات التعاون الزراعي كشكل لتجميع الأرض الزراعية وعدم تحولها لمساحات قزمية كما حدث الآن، وضع ضوابط للحد من تجزئة الأراضي الزراعية (الباب الثالث من القانون) ثم تحديد الضرائب الإضافية وأخيرًا تحديد العلاقة بين المالك والمستأجر واشترط ألا يزيد الإيجار على سبعة أمثال الضريبة وبما شكل حماية كبيرة لصغار الفلاحين وخاصة المستأجرين.
ويقول الميرغني “لم يكن الإصلاح الزراعي إلا خطوة على طريق تحديث علاقات الانتاج، والعلاقة بين المالك والمستأجر والدورة الزراعية والتوسع في الميكنة الزراعية والإرشاد الزراعي، كما شهد الريف المصري طفرة تنموية شاملة بعد تولي الدكتور النبوي المهندس وزارة الصحة عام 1961 حيث وضع استراتيجية للصحة من خلال إنشاء شبكة من الوحدات الصحية في الريف بواقع وحدة صحية في كل قرية، ومجموعة صحية في القرى الكبرى ومستشفى مركزي في كل مركز، ومستشفى عام في عاصمة كل محافظة، ليبلغ عدد الوحدات الصحية في ذلك الوقت 2500 وحدة لتمتلك مصر واحدة من كبرى الشبكات الصحية في العالم”.
ويتابع “ولم يقتصر الأمر علي الوحدات الصحية بل تم إنشاء وحدات مجمعة في أكثر من ألف قرية تضم كل وحدة مجمعة وحدة زراعية ووحدة اجتماعية ومدرسة ووحدة صحية لمواجهة ثالوث الريف المصري (الفقروالجهل والمرض) ولكن توقف المشروع مع نكسة 1967 ثم بدأت الردة من مايو 1971”.
🛑 إلى أين وصلت أوضاع الفلاح الآن؟
يجيب الدكتور فؤاد سراج الدين، “وضع الفلاح بائس حاليا، انتهى دور الجمعية الزراعية وتحول البنك الزراعي إلى بنك تجاري، ارتفعت وتضاعفت جميع أسعار مدخلات الزراعة من سماد وبذور ومبيدات، اختفى دور الأبحاث والإرشاد الزراعي تقريبًا، كما أن الاعلاف ارتفعت أسعارها بشكل مخيف مما رفع أسعار اللحوم البيضاء والحمراء.. ولا يخفى علي أحد ما يعانيه المنتج الزراعي من مضاعفة أسعار إيجار الأرض الزراعية ومدخلات الزراعة وحتى الإنتاج يتراجع وبسبب سوء عمليات التسويق أدى إلى إهدار حوالي 30% من إنتاج الخضروات”، ويختتم الخبير الزراعي بالقول “شتان ما بين عصر عبدالناصر في مراعاة الفلاح المنتج والعصور التي أعقبته”.
أما الباحث الاقتصادي إلهامي الميرغني فقد قال “الآن وبعد مرور 71 سنة على قانون الإصلاح الزراعي والردة على كل منجزات يوليو إلى أين وصل هيكل الملكية في الريف المصري حسب إحصائيات عام 2015؟! 95% من الملاك يملكون 58% من الأرض الزراعية، من يملكون 20 فدانًا فأكثر يملكون 32% من الأرض الزراعية ويمثلون 3% من الملاك. أصبح لدينا 2.6 مليون مكلفة تمثل 59% من إجمالي المكلفات الزراعية في 2015 ويملكون مساحة أقل من فدان”.
يضيف الميرغني “تم الارتداد علي كل مكتسبات الفلاحين من قانون الإصلاح الزراعي حيث تم طرد الفلاحين من الأرض التي دفعوا ثمنها وتمت إعادتها للإقطاعيين الذين استلموا تعويض من الدولة وتم إلغاء الدورة الزراعية وتغيير قانون العلاقة بين المالك والمستأجر، ووقف دور الدولة في الميكنة الزراعية والارشاد الزراعي وإطلاق أسواق المحاصيل الزراعية والبذور والتقاوي. وبدلا من قيام الفلاح كما كان يفعل منذ الالاف السنين بإكثار البذور لزراعتها في الموسم التالي تم سرقة الأصول الوراثية للمحاصيل والطيور والحيوانات المصرية. وأجبر الفلاح على شراء بذور تُستخدم لسنة واحدة ليضطر إلى الشراء في العام التالي وهكذا أصبح الفلاح رهينة عند المستوردين. وتم تحويل بنك التسليف التعاوني إلى بنك التنمية والائتمان الزراعي ثم البنك الزراعي المصري الذي أصبح بنكًا تجاريًا وبدلا من إقراض الفلاحين قروض بسعر فائدة رمزي أصبحت كل سجون مصر مليئة بفلاحين اقترضوا وعجزوا عن السداد لنعيش مرحلة أشد قسوة على الفلاحين من المُرابي في نهاية القرن الماضي ومطلع القرن العشرين”.
لكن متى كانت نقطة التراجع؟ ومتى بدأ التجريف؟
للحديث بقية…