مقاومة 70 عاما تهزم الرفض الذكوري: المرأة على منصة السنهوري.. النساء يحسمن معركة القضاء
حلم عائشة راتب وهانم محمد يتحقق بعد محاولات 70 عاما.. ورضوى حلمي أول سيدة فوق منصة مجلس الدولة
رضوى حلمي بعد اعتلائها منصة مجلس الدولة: “الزمن يتغير”.. وناصر أمين: الموقف المجتمعي ساهم في تأخر الحق
المركز المصري يدخل المعركة عام 2010 بحملة وكتاب بالمشاركة مع المرأة الجديدة وأمنية جادالله تكمل الطريق في 2014
كتبت – أسماء زيدان:
بين ما اعتبره المستشار محمد حسام الدين، حدثا تاريخيا مرحبا بالقاضية رضوى حلمي باعتبارها أول قضية تعتلي منصة محاكم مجلس الدولة” وحكم مجلس الدولة في بداية الخمسينيات بأن الوقت لم يحن لتتولى المدعية عائشة راتب منصبا في إدارة القضايا أو في النيابة العامة” مشيرا أن هذا التقدير لم يثبت للمحكمة أنه قد شابه تعسف أو انحراف”، معركة طويلة خاضتها النساء من أجل الانتصار لحقهن في اعتلاء منصات القضاء .
ولم يكن حسم المعركة وتحقيق حلم المساواة على صعيد القضاء وليد منحة أو صدفة لكنه جاء تتويجا لنضال 70 عاما، خاضته النساء رفيقات وبنات وحفيدات عائشة راتب وهانم محمد على كافة الأصعدة، ضمن معارك كثيرة لتحقيق المساواة في ساحات مختلفة. وهي المعارك التي جاءت لتؤكد جدارتهن وقدرتهن على انتزاع النصر، الكامل وحسم المعارك الباقية، لتبقى كلمة السر هي “النضال النسوي”
أخيرًا، جلست المستشارة رضوى حلمي، كأول قاضية في تاريخ مجلس الدولة، منذ إنشائه في عام 1946، وكأنها تعلن انتصار معركة عائشة راتب بعد 7 عقود من المحاولات المتواصلة. معلنة أن “الزمن يتغير” وداعية النساء لمواصلة المعركة ، لـ ” الالتحاق بأماكن متميزة، تظهر فيها براعة ومهارة المرأة”.
ففي يونيو 2021، قرر المجلس الأعلى للهيئات القضائية، برئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسي، بدء عمل العنصر النسائي في مجلس الدولة والنيابة العامة اعتباراً من أول أكتوبر المقبل، مع اعتباره يوما للقضاء المصري.
وفي خطوة تالية في نوفمبر 2021 أصدر السيسي قراراً جمهوريا بتعيين 98 قاضية بمجلس الدولة بآلية النقل من هيئتي قضايا الدولة والنيابة الإدارية، كما أعلن المجلس مؤخراً حاجته لتعيين خريجات من دفعة 2021 بكليات الحقوق والشريعة والقانون والشرطة بدرجة مندوب مساعد- أولى درجات السلك القضائي بالمجلس- ليفتح بذلك المجال أمام المرأة لتقلد ولاية القضاء بمجلس الدولة بعد سنوات عديدة من الرفض.
بعدها بشهرين أصدر مكتب رئيس مجلس الدولة إعلانه الأول للعام 2022 والخاص بتعيين خريجات كل من كليات الحقوق والشريعة والقانون وكلية الشرطة وانضمامهن للسلك القضائي، وذلك وفق الاشتراطات المعمول بها طبقا للمادة 73 من قانون المجلس. وهو القرار الذي كان قد سبقه قرار آخر في مارس 2021 بالتزامن مع يوم المرأة، بتعيين عناصر نسائية في تشكيلة كل من مجلس الدولة والنيابة العامة، من خلال الموافقة على تعيين عدد من عضوات النيابة الإدارية وعضوات هيئة قضايا الدولة بطريق النقل لمجلس الدولة. لشغل وظيفة (مندوب) أو وظيفة (نائب) بالمجلس.
كانت هذه هي قرارات إعلان انتصار النساء وحسم معركة تولي المناصب القضائية كاملة لصالحهن، ولكن قصة هذه القرارات لم تكن وليدة اللحظة لكنها وليدة نضال ومقاومة 70 عاما من المطالبات والضغط بكافة السبل والوسائل ضمن معركة المطالبة بالمساواة والتي بدأتها جدات عائشة راتب نفسها ضمن سلسلة طويلة من النضالي النسوي، فمتى بدأت معركة الـ 70 عاما ؟
معركة عائشة راتب والسنهوري.. الشرارة الأولى
شهدت الخمسينيات أول مطالبة نسائية للعمل بالقضاء، وساير مجلس الدولة وجهة النظر التي تحظر على المرأة تولي منصب القضاء عندما أثيرت أول مرة عام 1951، حيث تقدمت الدكتورة عائشة راتب، وزيرة الشئون الاجتماعية السابقة وأستاذة القانون الدولي العام بكلية الحقوق جامعة القاهرة، وسفيرة مصر السابقة للتعيين في مجلس الدولة ورفضها طلبها، بحسب تقرير صادر في 2015 عن الهيئة العامة للاستعلامات، بعنوان (المرأة المصرية والقضاء).
لجأت عائشة إلى القضاء الإداري، الذي قضى في 2 فبراير سنة 1952 برئاسة الدكتور عبدالرازق السنهوري، بعدم أحقيتها على أساس أن قصر بعض الوظائف كوظائف مجلس الدولة والقضاء على الرجال دون النساء لا يعدو هو الآخر أن يكون وزنا لمناسبات التعيين في هذه الوظائف تراعي فيه الإدارة بمقتضى سلطتها التقديرية شتى الاعتبارات من أحوال الوظيفة وملابساتها وظروف البيئة وأوضاع العرف والتقاليد، دون أن يكون في ذلك حط من قيمة المرأة ولا ينال من كرامتها، ولا إنقاص من مستواها الأدبي والثقافي، ولا يحط من نبوغها وتفوقها ولا إجحاف بها، وإنما هو مجرد تخيير الإدارة في مجالس تترخص فيه لملاءمة التعيين في وظيفة بذاتها بحسب ظروف الحال، وملابساتها كما قدرتها هي، وليس في ذلك إخلال بمبدأ المساواة قانونا، ومن ثم فلا معقب لهذه المحكمة علي تقديرها ما دام قد خلا من إساءة استعمال السلطة.
وأثيرت هذه القضية للمرة الثانية في قضية هانم محمد حسن، الموظفة الإدارية بمجلس الدولة عام 1978، عندما تقدمت للتعيين في إحدى الوظائف الفنية به، ورفض مجلس الدولة طلبها، ولجأت إلى محكمة القضاء الإداري، ورفضت طلبها وقضت المحكمة الإدارية العليا بعد أحقيتها لذات الاعتبارات التي أوردها حكم محكمة القضاء الإداري في عام 1952.
ووفقا للأحكام المتقدمة كان القضاء الإداري يرى أن مبدأ المساواة بين الجنسين في تولي الوظائف العامة لا يمنع من أن تقصر بعض الوظائف على أحد الجنسين، بحسب ظروف الحال وملابساتها التي ترجع إلى عوامل البيئة، وأحكام التقاليد أو إلى طبيعة الوظيفة ومسؤولياتها وما تتميز به من مشقة أو ما يكتنفها من مخاطر وتتمتع الإدارة في ظل هذه الظروف بسلطة تقديرية لا تخضع فيها لرقابة القضاء إلا بالنسبة لإساءة استعمال السلطة.
أكثر من نصف قرن من محاولات انتزاع الحق
مضي ما يزيد على نحو نصف قرن والمرأة المصرية تسعي بشتى السبل لنيل حقها في أن تترأس منصة القضاء، فعلي الرغم من عدم وجود نص دستوري يمنع تولي المرأة القضاء فقد ظلت منصة القضاء منصبًا عصيًا على المرأة لسنين كثيرة، وظلت المرأة المصرية تنادي بأحقيتها في اعتلاء منصة القضاء كأقرانها من الرجال، وناضلت المرأة كثيرا من أجل هذا الحلم.
كما أن الشريعة الإسلامية لا تمنع تولي المرأة منصب قاضية، ففي فتوى أصدرتها المؤسسة الدينية في مصر بتاريخ 22-10-2002 موقعة من كل من شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي، ومفتي الجمهورية السابق وشيخ الأزهر الحالي الدكتور أحمد الطيب، ووزير الأوقاف الأسبق الدكتور محمود حمدي زقزوق، حين خاطب وزير العدل الأسبق المستشار فاروق سيف النصر هذه الجهات مجتمعة من أجل معرفة الموقف الشرعي من قضية تعيين المرأة في القضاء.
ونصت الفتوى على أنه لا يوجد نص صريح قاطع من القرآن الكريم أو من السنة النبوية المطهرة يمنع المرأة من تولي وظيفة القضاء، لكن بالرغم من أنها فتوى صريحة وواضحة وضوح الشمس، فإن كثيرًا من القضاة وللأسف شيوخهم الرافضين لتولي المرأة القضاء دائما ما يرددون في حجتهم لرفض تعيينها أنه أمر مخالف للشريعة الإسلامية.
دفوع دستورية وقانونية
وبالنظر للنصوص الدستورية والقانونية فلا يوجد فيها من النصوص ما يمنع من تولي المرأة وظائف القضاة، ونص الدستور الصادر سنة 1971 في المادة 40 منه على أن “المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة”.
بل نص فى مادة 8 على أن ” تكفل الدولة تكافؤ الفرص لجميع المواطنين”، كما تنص المادة 11 منه على أن “تكفل الدولة التوفيق بين واجبات المرأة نحو الأسرة وعملها في مجتمع ومساواتها بالرجل في ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية”.
كذلك تنص المادة 14 من الدستور علي أن” الوظائف العامة حق للمواطنين”، وأن العمل حق وواجب وشرف تكفله الدولة للمواطنين (مادة 12)
ولما كانت القوانين يجب أن تدور في فلك الدستور، فإن قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972 لم يشترط من بين الشروط التي تطلبتها المادة 38 منه فيمن يعين في القضاء أن يكون من الذكور، وسارت على ذلك النهج باقي القوانين المنظمة للهيئات القضائية، فلم تضع أي حظر علي التحاق المرأة بالعمل فيها.
ناصر أمين: الموقف المجتمعي ساهم في تأخر الحق
يؤكد الحقوقي ناصر أمين، رئيس المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة، أن مجلس الدولة الذي رفض إصدار قرارات تلزم وزارة العدل والحكومة بتعيين النساء.
ويضيف أن مجلس الدولة اعتبر أن الأمر شأن قضائي يختص به مجلس القضاء الأعلى، الذي رفض بدوره وجود آلية للطعن على قراراته، وبهذا أصبحت النساء لا تجد وسيلة لوقف هذا التمييز، حيث تخلت الجهتان المعنيتان بالمسألة عن دورهما، وحينها تحججت تلك الهيئات بأن العمل القضائي (شاق لا يصلح للمرأة).
ويتابع أمين أنه في عام 1997 أطلق المركز العربي حملته لتولي المرأة المناصب القضائية، والتي قامت بالعديد من الأنشطة من لقاءات وندوات وحمل الرأي العام على تقبل الفكرة، وتوجت تلك الجهود عام 2003 حين تولت عضو مجلس أمناء المركز العربي -تهاني الجبالي- أول منصب قضائي في المحكمة الدستورية.
ويؤكد أن الحملة اتخذت قرارها حينها بالاستمرار بغرض توسيع المشاركة النسائية بحيث لا يقتصر الأمر على تعيين الراحلة تهاني الجبالي والمحكمة الدستورية.
ويقول ناصر أمين إن الموقف المجتمعي الجامد تجاه القضية ساهم في تأخر الحصول على الاستحقاق، خاصة على المستوى الرأي الديني الممثل في الأزهر والكنيسة- كما أن استطلاعات الرأي قام بها المركز عام 2004 أوضحت أن نسبة النساء الرافضة لتعيين المرأة في السلك القضائي أكبر من الرجال في العينة العشوائية.
وتابع: لم يكسر هذا الجمود سوى قرار تعيين القاضية تهاني الجبالي، وبالتزامن مع الحرج الذي تعرض له النظام عالميًا.
ويضيف ناصر أمين: يجب أن نحيي المستشار فتحي نجيب، الذي قرر تحطيم هذا الجدار، وهو رئيس المحكمة الدستورية آنذاك لأنه تحدى الهيئات القضائية، واتخذ القرار على مسؤوليته الشخصية.
المركز المصري في قلب معركة مجلس الدولة
المركز المصري خاض معركة حصول السيدات على هذا الاستحقاق بالتعاون مع مديرة مركزة المرأة الجديدة، والذي بدأ بحملة أطلقها المركز عام 2010 اتخذت منحى جديدا، حيث ركزت الاهتمام على الاعتراض على رفض مجلس الدولة تعيين المرأة، فضلا عن محدودية أعداد المنضمات للسلك القضائي.
وكان المركز المصري اشتبك مع محاولات المجتمع المدني للحصول على حق المرأة في التعيين بالقضاء، فبادر برفع دعويين قضائيتين، وذلك في أعقاب قرار الجمعية العمومية الرافض لتلك الخطوة.
وكان رفض الجمعية العمومية قد سبقه موافقة من المجلس الخاص بمجلس الدولة، وهو أعلى سلطة إدارية به، والذي قضى باستكمال إجراءات تعيين من تقررت صلاحيتهم بإجماع المجلس الخاص من خريجي وخريجات 2008-2009 تمهيدا لإصدار رئيس الجمهورية قرار التعيين.
وعليه ساد صراع داخل أروقة المجلس، ووفقا لورقة أصدرها المركز آنذاك -وزعها على المعنيين- قام وزير العدل بناء على طلب رئيس الوزراء بطلب تفسير للمحكمة الدستورية العليا لتفسير بعض النصوص التي تتعلق بالأزمة، وصاحب هذا الطلب موجة احتجاج من بعض قدامى قضاة مجلس الدولة حول عدم اختصاص المحكمة الدستورية بهذا الشأن واعتباره مخالفة صريحة للقانون، ووصل الأمر إلى اتهام المجتمع المدني المعارض لحرمان المرأة من تولي منصب القضاء آنذاك بمحاولة تمكين السلطة التنفيذية من مجلس الدولة.
وبينما كان الصراع على أشده أصدر المركز المصري كتابه (المرأة ومنصة القضاء)، والذي قام عليه كل من نيفين عبيد والمحامي خالد علي والشيخ أحمد عبد الهادي ممثلا لوجهة النظر الدينية.
وتضمن ذكر ما جرى في أزمة تعيين المرأة قاضية بمجلس الدولة وموقف الفقه الإسلامي من عمل المرأة بالقضاء، فضلا عن مواقف المنظمات الحقوقية من القضية.
واستعرض الكتاب الخلفية التاريخية لكفاح المرأة، وخوضها غمار الاشتغال بالقانون علي يد الأستاذة نعيمة إلياس الأيوبي، أول محامية مصرية والتي كان اشتغالها بالمحاماة خطوة غير مسبوقة في حد ذاتها في ذاك الوقت.
أمنية جادالله.. على خطى عائشة راتب
مع حلول 2014 ظهرت المحامية أمنية جادالله التي تقدّمت بطلب للعمل كمندوبة مساعدة في مجلس الدولة عقب إعلان الأخير إعلان التعيين لخرّيجي الدفعة ذاتها، ومع رفض مجلس الدولة طلب أمنية كغيرها من خرّيجات كليات الحقوق، بادرت من جانبها برفع دعواها أمام القضاء الإداري للمطالبة بوقف التمييز ضدّ النساء ورفض تعيينهنّ بمجلس الدولة.
وفي 2016 رفعت دعوى ثانية تطعن فيها بدستورية بعض نصوص قانون مجلس الدولة ولائحته لتعارضهما مع الالتزام الدستوري بتعيين النساء في كافّة الهيئات القضائية، المنصوص عليه بالمادة (11) من دستور 2014.
ورفض القضاء الإداري الدعويين اللتين تختصم فيهما أمنية المجلس، وتطالبه بالفصل بينها وبين نفسه، وهو ما يضعها في حلقة مُفرغة على حد وصفها، معتبرة أنّ اختصام المجلس في حالتها غير دستوري.
لم تتوقف أمنية عند هذا الحد. ففي عام 2018 أسست مبادرة حقوقية تحمل اسم (المنصة حقها) تختص بمكافحة التمييز ضدّ المرأة وحرمانها من تولي المناصب القضائية.
وبعد عقود انتصرت معركة عائشة راتب، وهانم محمد وأمنية جاد الله واستطاعت المرأة المصرية أن تحصل على حق طال انتظاره، وكأنها تؤكد أنه ما ضاع حق وراؤه مطالب.