مدن.. محمد العريان يكتب: هنا القاهرة (4).. من أين تأتي البهجة (حكايات قاهرية)
ستظل المدينة قاهرة، ويظل ساكنوها عظماء بالصبر والجلد، وقدرات التكيف والتطور، عظماء بكل محاولات النجاة الفاشلة التي منحت لهم النجاح، بكل الأمل الذي ما أن يختفي وتظلم الدنيا يتفتح من جديد في كل إشارة ربانية تهب لنا أملا جديدا.
القاهريون صامدون أمام قوانين الانتخاب الطبيعي، يعبرون من كل اختبار بنكتة، يغزلون من هموم النهار ابتسامات بعدد كراسي المقاهي وفناجين القهوة.
كيف نتحمل القاهرة؟
المواطن السوبرمان ليس قدرات خارقة فقط ولكن روح تبحث عن الجمال والبهجة، ورغم أن الحياة في القاهرة حسابات معقدة لا تنتهي، إلا إنها كتلة من الونس حتى لو أنكرناها.
في القاهرة كل ركن مميز ومختلف، كل مكان له روح، ورغم مساوئ العشوائية إلا أنها تعجن المباني والطرقات بروح البشر، فحي إمبابة مختلف عن شبرا عن الدويقة عن الهرم، والمناطق القريبة من القاهرة القديمة مختلفة تماماً عن الأحياء بالقرب من الامتداد العمراني للمدينة التي تتسع كل يوم بهجرة الريف، أما المدن الجديدة مثل التجمع الخامس والشروق و6 أكتوبر رغم أنها آدمية – نوعاً ما- إلا أنها أحياء ممسوخة بلا روح أو حياة، كتل خرسانية متشابهة وشوارع فارغة تشبه بعضها أشبه بوحشة القبور.
كل منطقة يمكن أن تميزها بل ويمكن أن تميز كل شارع فيها لأنه مختلف عن الآخر حتى لو كانا متوازيين وبنفس الاتساع لكن ليسا متشابهين، هناك بروز أو اعوجاج أو شجرة أو علامة في شرفة تعبر عن وجود بشر مختلفين عن حياة مدنية طبيعية، غير منتظمة متراصة كطابور الجنود، كالفرق بين الغابة الخلابة الخلاقة والحدائق المقلمة الجامدة، ولأنها قاهرة ستجدهما متجاورين متجاوزين الخلافات كعاشقين.
جدد روحك
هذا ليس اسم برنامج، هذا ما يحدث يومياً في القاهرة التي ترهقك كل لحظة لتحصل على ما تريد، ولكن يكفيك أن تشرب شاياً في مقهى الفيشاوي بالحسين أو تصلي ركعتين فى السيدة زينب أو ترى نظرة حب وابتسامة خجل على كورنيش النيل، يكفي مثلاً أن ترى أيدٍ ممدودة لراكب يجري خلف أتوبيس، أو تسمع عجوزاً يدعو لك بعد أن منحته مكانك فى المترو.
فى كل لحظة تستمتع حتى لو بقبلة على رغيف سقط على الأرض وأنت تأكل من على عربة فول، يمكنك ببساطة أن تأكل سندوتش طعمية ساخنة من مطعم مجهول لا تثق في مكوناته وتنسى الدنيا كاملة.
في القاهرة المزارات مفتوحة تنتقل في المكان عبر الزمن من شياكة المعادي إلى حواري الدويقة من ارستقراطية مصر الجديدة إلى تاريخ الجمالية، تكتشف بنفسك جدعنة ولاد البلد في السيدة زينب ويتنصب عليك في شوارع إمبابة.
المناسبات
مثل الأماكن تحتفي القاهرة دائماً بالزمن، المدينة لها طقوس خاصة في المناسبات -التي لا تنتهي- في كل شهر تقريباً موسم ينتظره القاهري ليحتفل، والاحتفال ليس بالشراء فقط ولكنه بتجمع الأحباب، ورمضان أعظمه، فى رمضان يظهر وجه القاهرة الذي أحبه، شهر كامل لن تأكل فيه يوماً بمفردك، وإذا تأخرت في الشارع قبل الإفطار ستجد ألف قاهري يتمنى لو تأكل معه، في رمضان تسهر المساجد والمقاهي، وتفرش الموائد ويلتقي الأحباب.
رمضان هو الصورة الأكبر لكل الموالد المبهجة، ومواسم مولد النبي وعاشوراء وغيرها، وكل موسم له ما يميزه تبهجك تفاصيله التي لا تنتهي من أول عروض التجار وفصال البشر إلي سهرة الأحباب وانتظار الموسم المقبل.
في القاهرة كل البهجة تتذكرها فقط بعد أول خطوة على الحدود، حنين يجتاحك إلى مكانك المفضل على المقهى، فضفضة مع صديق وابتسامة أمك، حينما تترك القاهرة تهرب روحك إلى أقرب حجر كنت تلعب بجوارة الكرة، أو خلف شجرة كنت تتسلقها، القاهرة، أكرهها بعشق زي الداء.