مدن.. محمد العريان يكتب: هنا القاهرة (3).. ماذا يأكل سوبرمان في المحروسة؟ (حكايات قاهرية)
توزع كل مدينة جزءاً من روحها على سكانها، فتعزف المباني والشوارع والبشر سمفونية واحدة، كل مدينة لها لحن، وروح، ورائحة مميزة، كبصمة الأصبع لا تتطابق، كل مدينة لها شخصية شكلتها تجربتها مع السكان، دبيب أقدامهم على شوارعها، سبابهم وغنائهم، رائحة طيبتهم وغضبهم، مجاريهم في قلبها ومخلفاتهم على أطرافها، كل هذا يجعلها متفردة، تجردها السنين من نزق الصغار وضعف القلوب الطرية وتمنحها حنين الأم القاسية وحكمة الجدة .
إذا كنت ساكناً جديداً لا بدّ أن تتعامل بحذر؛ فالمدينة -أي مدينة- تختبرك لتعطيك ختم الإقامة أو الجنسية أو المرور فقط.
ستندهش في البداية، ثم تطوعك قوانينها، تشد عودك بالحوادث، وإذا كنت عصياً لفظتك، إما أن تعود لموطنك أو تتكيف وتسير على مسارات البشر.
القاهرة
ليس كل شخص يستطيع الحياة فى القاهرة، فلها من اسمها نصيب، المواطن السوبرمان بالتأكيد يعيش في القاهرة، في القاهرة كل المواطنين سوبرمان، ويستحقون جميعاً جائرة القدرة على الحياة فى أصعب الظروف، ففى المدينة تناضل كل يوم لكي تحصل على ما يحصل عليه أي إنسان في الدنيا ببساطة، المدينة هي تجسيد لـ كبد الإنسان ونموذج حي للانتخاب الطبيعي للبشر.
في المقال السابق تحدثنا عن قاموس الفصال وآداب الشراء في القاهرة، والطرق المتبعة لاختيار البائع، وفي هذا المقال سنتحدث عن الأكل أهم نعم وملذات الحياة.
نظرية المتور
كل ما أفكر في الأكل في القاهرة أتذكر المعركة بين بطل فيلم الفار الطباخ ووالده. البطل كان يريد لقبيلته من الفيران أن يأكلوا طعاما نظيفاً مثل البشر، ووالد الفار زعيم القبيلة يتعامل بشكل عملي، يقول: “الأكل زي البنزين، احنا لو نقعد ندور عن أيه اللي المفروض يتاكل متورك مش هيدور، كل الزبالة وانت ساكت”، يرد الابن: “طالما بنسرق يبقى نسرق أكل نظيف ومش متسمم كمان”.
في القاهرة يعلم الجميع أن الطعام فاسد بدرجة ما، صديقي لديه مزرعة موالح وكان يريد شراء مبيدات لمعالجة الآفات التي انتشرت بشدة في مزرعته، ذهب مباشرة إلى أحد كبار تجار المبيدات وسألة عن مبيد قوى لأشجار البرتقال واليوسفي، قال التاجر ببساطة: “أنا عندي جاحة كويسة جداً، لسه جاية من برة بتستخدمها شركة.. اللي بتزرع الأكل الأورجانيك!
حوادث ضبط محلات لحوم شهيرة تذبح قططاً أو كلاباً أو حميرآً يتم التعامل معها في القاهرة بنوع من السخرية لا الجدية، نحن نعلم مسبقاً أن اللحوم التي نأكلها ليست سليمة، بالنظر فقط إلى ثمنها المنخفض، فليس من الطبيعي أن يكون سعر كيلو اللحم البلدي 80 جنيها –مادة خام- وتشتري رغيف كفتة يزن ربع كليو بـ 5 جنيهات فقط، بالتأكيد ليست لحماً طبيعياً أو حتى شبه طبيعي أو لحم بالأساس، في حادث شهير منذ سنوات في ميدان رمسيس كان محل مشهور -بين الطبقات الفقيرة- يقلى قشر البطيخ ويضيف عليه كركماً ودقيقاً وبعض النكهات ليصبح طعمه في فمك سمك فيليه، وكان الإقبال تاريخي مع العلم أن من يأكل غير مقتنع إلا بنظرية المتور، “هتتشرط إيه اللي يملى التنك متورك مش هيدور وهتتعب”.
يقول بهظ بيه في فيلم الكيف للفنان يحيى الفخراني قولاً مشهوراً: “صحة هنا (القاهرة) غير صحة برة (الدول الأوروبية) هات واحد أجنبي ياكل شوية فول أو يشرب شوية ميه يروح فيها على طول (يموت)، ويدلل على نظريته بسؤال: “فيه في بلاد بره هرم؟”، يرد الفخراني: “لا”، يقول: “احنا عندنا تلاتة، احنا فراعنة مبنتأثرش بحاجة”. وهكذا يتعامل القاهري مع أهم القضايا الحياتية، أنا سوبرمان.
جميعاً نعلم أن مصادر الطعام غير آمنة ولهذا نتفنن في نسيان هذه المعلومة أو نواجهها بما نتصوره مفيداً، فلفل حار، ينسون يغسل المعدة، توابل تضبط فساد الطعم وتوهم العقل أن ما تناولته حقيقي، وفي النهاية كوب الشاي ينهي المسألة تماماً.
كل حاجة
أنتم تأكلون كل عضو في جسد البقرة، هكذا قال بريطاني لصديقي عقب زيارته لمصر في عيد الأضحى المبارك، وفعلاً صدق، الجلد فقط لا يؤكل في مصر والباقي له طرق ووصفات، لا شيء يترك للصدفة أو حتى للحيوانات الأليفة، وما ينطبق على البقرة ينطبق على كل مأكول، سواء كان نباتاً أو حيواناً، لا نترك فيه شيئاً.
لا أعرف من أين جاءت فكرة مصمصة الكائنات في القاهرة، مثلا تخيل جاراً أو صديقاً يعزمك على الغداء ويقول لك ستأكل أوراق شجرة فاكهة بالرز والصلصة، بالتأكيد ستتعفف ولكن إذا أخبرك أنك ستأكل “محشي ورق عنب” ستتحرك فوراً مع هذه الأكلة الشهية، الأمر نفسه ينطبق على المومبار والعكاوي، والفشة وغيرها.
وأعتقد أن الطعام في القاهرة مر بمراحل تجارب انتخبت الطعام الشهي الذي نأكله الآن، عبر ملايين التجارب بطبخ جميع أجزاء وقطع الكائنات وخلطها مع قطع وأجزاء أخرى حتى في النهاية تم اكتشاف الكشري مثلاً.
نحن نأكل كل شيء بأكثر من طريقة، الفول والطعمية والبصارة والفول النابت والسوداني عبارة عن حبوب الفول نتفنن في طهيها وتقديمها ساخنة وباردة وفي سندوتشات وأطباق، اخترعنا وضع المكرونة في العيش وسندوتشات وأكياس الكشري.
والطبيعي في القاهرة الحيرة، فمع كل أصناف الطعام الذي نعلم مسبقاً أنه غير سليم، ومع قدرتنا على خلق أصناف وأكلات جديدة تختبر في معدة المصريين، يصبح الهم اليومي لسيدات مصر في البيت “هناكل إيه النهارده؟!”، سؤال صعب كل فترة تجرب مع أفراد الأسرة اللعبة اللطيفة “تاكلوا إيه النهارده؟”، والإجابة معروفة طبعاً: “أي حاجة”. الأمر نفسه في الشغل، سواء كنت عازباً أو متزوجاً، “مين جعان؟”، ترتفع الأيدي، وفي النهاية: “طيب هتاكلوا إيه؟”، “أي حاجة”.