مدن.. محمد العريان يكتب: هنا القاهرة (1).. المواطن السوبرمان لتجنب الزحام (حكايات قاهرية)
المدن تصطفي قاطنيها وتشكلهم كالعجين، هي باقية، وعلى الفاني الطاعة أو الرحيل.
توزع كل مدينة جزءاً من روحها على سكانها، فتعزف المباني والشوارع والبشر سمفونية واحدة، كل مدينة لها لحن، وروح، ورائحة مميزة، كبصمة الأصبع لا تتطابق، كل مدينة لها شخصية شكلتها تجربتها مع السكان، دبيب أقدامهم على شوارعها، سبابهم وغنائهم، رائحة طيبتهم وغضبهم وشهوتهم، مجاريهم في قلبها ومخلفاتهم على أطرافها، كل هذا يجعلها متفردة، تجردها السنين من نزق الصغار وضعف القلوب الطرية وتمنحها حنين الأم القاسية وحكمة الجدة .
إذا كنت ساكناً جديداً لا بدّ أن تتعامل بحذر؛ فالمدينة -أي مدينة- تختبرك لتعطيك ختم الإقامة أو الجنسية أو المرور فقط.
ستندهش في البداية، ثم تطوعك قوانينها، تشد عودك بالحوادث، وإذا كنت عصياً لفظتك، إما أن تعود لموطنك أو تتكيف وتسير على مسارات البشر.
القاهرة
ليس كل شخص يستطيع الحياة في القاهرة، فلها من اسمها نصيب، وإذا أجبرتك الظروف على السكن في القاهرة (الكبرى) سواء كانت الظروف عملاً أو دراسة أو علاجاً فلا بد أن تخرج منها سريعاً إن استطعت، أما إذا أردت الاستمرار فيجب أن تتمتع بمواصفات المواطن القاهري، لتحصل على الإقامة، فعلاً بنعمل كل حاجه علشان نعيش.
التحرك، كيف تصل في الوقت المناسب؟
التعامل مع الزحمة أمر قاهري حتى النخاع، فمثلاً لو عشت في مدينة أخرى فستفكر في الوقت اللازم للوصول من المسافة “أ” إلى المسافة “ب” بالوسيلة كذا التي تستقلها، وعلى الأكثر ستفكر في هامش زمني لأوقات الذروة، أما في القاهرة فلها حسابات أخرى!
يجب أن تكون خبيراً في مواعيد وأماكن المدارس ودواوين الموظفين حتى تتجنب السير في نفس الشوارع أو تخرج قبل انصرافهم بحيث تتجنب الزحمة وتصل في ميعادك، كما يجب أن تكون دارساً لجغرافيا الشوارع الموازية التي يمكن أن تسير فيها إذا توقف الطريق فجأة لسبب ما، يمكن أن يكون حادثاً أو عطلاً في سيارة أو كميناً أمنياً أو مجرد حفرة تبطئ السيارات من أجلها فيتوقف الطريق، كما يجب أن تتعلم كيفية الهروب من إشارات المرور، وتجنب رعونة سائقي الميكروباص.
أما إذا كنت غير متابع لمشروعات الكباري والمحاور والشوارع والمخارج والملفات الجديدة التي تهدف إلى تقديم المواطنين كقربان للتيه الذي بلع اليهود 40 سنة، فيجب أن تكتب وصيتك وتسدد ما عليك لأن عودتك لمنزلك أو عملك أصعب من خوارزميات الفيسبوك.
وإذا وصلت بالسلامة فيجب أن تكون على دراية بأماكن انتظار السيارات وهذا أمر يحتاج مهارة التعامل مع السايس أو البحث في الشوارع الجانبية عن مكان لسيارتك وتستأذن السكان للانتظار.
وإذا لم يكن لديك سيارة فمشكلتك أكبر بكثير، إذا كنت ستركب تاكسي اتفق مع السائق على الأجرة إذا لم يكن لديه عداد، أما إذا كان لديه فيجب أن تكون خبيراً في حساب الكليومترات والتعريفة الجديدة، بالإضافة إلى أقصر وأسرع الطرق للوصول إلى وجهتك، ولا يفوتك أن ترمي أذنك إلى السائق ليحدثك عن أغرب حوادث المدينة، ولو أردت أن تهرب من سائقي التاكسي بأوبر فاحذر من إغلاق الرحلات والانتظار في مكان بلا شبكة محمول، والجي بي أس السكران.
من أين تأتي الفهلوة؟
كل سكان القاهرة خبراء، يفهمون في كرة القدم والجيولوجيا والخطط العسكرية والتاريخ والجغرافيا، الحقيقة هذا يعود إلى الحسابات المعقدة التي يجريها المواطن القاهري في كل لحظة لحل مشكلة ما.
وأكثر المشاكل تعقيداً هي ركوب المواصلات في المدينة، فيجب أن تكون مصارعاً بعض الوقت لتستطيع مزاحمة المواطنين على ركوب الميكروباص أو الأتوبيس في أوقات الذروة، يجب أن يكون لديك عين صقر ترى السيارة من بعيد وتحدد هويتها كأجرة أو رحلات تحمل أجرة، ويجب أن يكون لديك فراسة خبير لتعرف وجهة السيارة هل تتناسب مع أم لا، ويكون لديك التخطيط الجيدة لتقف في بقعة مناسبة تجبر السائق على التوقف لحظات تسمح لك بالقفز أو قذف نفسك داخل السيارة، هذا بالإضافة إلى خبرتك في الوسائل البديلة لسيارة الأجرة المعتادة في أوقات الذروة إذا لم يسعفك حظك.
فمثلا إذا كنت تسكن في الهرم وتريد الذهاب إلى عملك في وسط البلد، فطبيعي أن تركب سيارة أجرة فقط لتوصلك إلى أقرب نقطة لعملك، ولكن في القاهرة يتدخل علم الإحصاء ودراسة اللوغاريتمات في العملية فيمكن أن تركب للجيزة وتستقل المترو، أو تخرج من المترو لتركب سيارة أجرة، أو تسير كيلومتر وتستقل (توك توك) ثم تركب المترو، وكل هذا يخضع إلى حسابات دقيقة مرتبطة ليس بمواعيد خروج المدارس والموظفين فحسب، وإنما بخروج السيدات إلى الأسواق أو حكاية سمعتها أمس عن انهيار الصرف الصحي بشارع جانبي سيؤثر على الشوارع الرئيسية في مكان ما، أو حتى مواعيد شحن بضاعة محلات الجملة، كل هذه أمور تكتشفها مع الوقت في القاهرة، فتجعلك خبيراً في المرور والجغرافيا والهندسة الفراغية، وعلم الاجتماع وحركة الأسواق وتأثير تغير المناخ على درجات الحرارة.
أيضا يجب أن تفهم كيف يفكر سائقو الميكروباص، فيمكن أن تجد سيارة أجرة في موقف سيارات الأجرة أو تستنتج أنهم يهربون من الزحمة فلا يدخلون الموقف ويفرون من أقرب نقطة والتي تستدعي أن تسير مسافة لا بأس بها، ويمكنك مع الوقت معرفة من 4 إلى 5 نقاط التقاط – نعم التقاط- الركاب في أوقات الذروة.
هذه المهارات تمكنك أحيانا من الوصول إلى عملك في الوقت المناسب، ويمكنك الآن أن تعيش في القاهرة بسلام بدون خصم من راتبك أو تأخر عن محاضرات الجامعة أو مواعيد خروج الموظفين، وإذا لم تصل في الوقت المناسب سيقبل الآخر اعتذارك بسهولة فالقاهرة أيضا تقمعه، ولن يبقى لك في مشكلة التحرك سوى مهارة السير في الشوارع المزدحمة، فإذا كنت متعجلاً لا تقترب من محلات الملابس أو المطاعم أو دور السينما بعد المغرب لأن البشر أمامها يتسكعون أو ينتظرون دورهم وبالتالي لن تمر بسهولة أو تضطر إلى السير بسرعات مختلفة لتجنب الاصطدام بالأجساد.
ملحوظة
إذا اصطدمت بأحد فاعتذر ولا تتوقع اعتذاراً من أحد، إنها القاهرة!
الحياة في القاهرة مغامرات تبدأ بكيفية المرور أو الوصول وهي أبسط الأفعال اليومية لسكان المدينة، تخيل مثلاً أنك تبحث عن وظيفة أو مدرسة لابنك أو شقة، إذا كنت مستعداً للمغامرة جرب، إنها القاهرة وستنتصر في النهاية.
إذا لم تعش في القاهرة فلن تتصور ماذا يفعل سكان القاهرة لشراء أبسط الأشياء أو حتى الحصول على طعام.. وهذا مقال آخر.