مدحت الزاهد في حوار لـ”درب” في ذكرى 11 فبراير: الثورة لم تنفذ من ثقوب أمنية بل فجرها الظلم.. وأقصر طريق للأمن هو العدل والحرية
عقل مصر وضميرها في السجون.. وأقصر طريق للأمن تحويل شعارات يناير لسياسات وتشريعات تتجاوب مع مصالح الشعب
في 11 فبراير أطاحت إرادة الملايين برأس النظام لكنها تركت العمود الفقرى لدولته.. وجنرالات الجيش كانوا أذكى من الصدام مع الغاضبين
25 يناير “ثورة” رغم عدم وصولها للسلطة.. والثوار تعرضوا للعزل والسحل فى ماسبيرو ومجلس الوزراء ومحمد محمود
فريق ممن تصدروا الميدان انشغل بتوزيع الغنائم وقيادات الإخوان انشغلت باقتناص صفقاتها.. والأيام ستكشف “صفقات مشبوهة”
الثورة لم تنفذ من ثقوب أمنية فى نظام مبارك بل من تصدعات فى الجدار السياسى والاجتماعى بسبب الظلم والفقر والاستبداد والفساد والتمييز
عندما تغلق أطر العمل القانونى الشرعي فى وجه المواطنين وتخنقها يلجأون للتنفس خارجها وشق قنوات جديدة لأنفسهم
حوار – محمود هاشم
من يريد أن يقطع الطريق على الثورة عليه محاربة الفقر والاستبداد والظلم والفساد، فأقصر طريق للأمن هو العدل والحرية، وليس المواجهة الأمنية .. هذا هو درس يناير الأهم كما يراه مدحت الزاهد رئيس حزب التحالف الشعبي في حواره مع “درب” في ذكرى سقوط المخلوع يوم 11 فبراير.
يرى الزاهد أنه في 11 فبراير أطاحت إرادة الملايين برأس النظام، لكنها تركت العمود الفقرى لدولته، الذي ظل يشق الصفوف بمؤامرات وصفقات مع عدد من الأطراف لاستعاده أركانه، ويوضح أن فريقا ممن تصدروا الميدان انشغل بتوزيع الغنائم، في الوقت الذي انشغلت قيادات الإخوان باقتناص صفقاتها والمساومة على رقبة الثورة، بينما كان جنرالات الجيش أذكى من الصدام مع ملايين الغاضبين فاختاروا المناورة، مؤكدا أن الأيام ستكشف “صفقات مشبوهة” أبرمتها قوى «ثورية» و«محافظة» داخل الغرف المغلقة.
ويشدد رئيس “التحالف الشعبي” على أن 25 يناير “ثورة” رغم عدم وصولها للسلطة، وأنها لم تنفذ من ثقوب أمنية فى نظام مبارك بل من تصدعات فى الجدار السياسى والاجتماعى بسبب الظلم والفقر والاستبداد والفساد والتمييز، في الوقت نفسه يشير إلى ما وصفه بافتقاد عشرات الملايين الغاضبة بمصر سلاح التنظيم.
يصر الزاهد على أن إغلاق أطر العمل القانونى الشرعي فى وجه المواطنين وخنقها يدفعها للجوء للتنفس خارجها وشق قنوات جديدة لأنفسها، منتقدا استمرار حبس سجناء الرأي الذين وصفهم بأنهم “عقل مصر وضميرها”، في الوقت الذي يرى أن أقصر طريق للأمن تحويل شعارات يناير لسياسات وتشريعات تتجاوب مع مصالح الشعب، قبل تراكم مخزون الغضب.
نرالات الجيش كانوا أذكى من الصدام مع الغاضبين
وإلى نص الحوار
– فى ذكرى ١١ فبراير يوم إعلان مبارك التخلى عن السلطة.. كيف ترى الحدث؟
١١ فبراير هي ذكرى سقوط حسنى مبارك أو تخليه عن السلطة تحت ضغط ١٨ يوما مجيدة، مع استمرار العمود الفقرى لجهاز دولته، وهو يوم أطاحت فيه إرادة الشعب برأس النظام ونخبته الضيقة وأجهزته النيابية وحكومته، وأجبرته على تراجع مؤقت على شكل مناورة لاستعادة النظام.
كانت هتافات الجماهير من ٢٥ يناير وحتى ١١ فبراير تدوى بشعارات الشعب يريد إسقاط النظام، وفى الحقيقة لم تسقط غير رأسه، و١١ فبراير هو أيضا يوم نجاح مناورة مقايضة رأس مبارك بعودة الجماهير إلى منازلها وفض ثورتها بوهم أنها أسقطت دولة مبارك، كما أنه يوم إسقاط مشروع التوريث، فلم يتخل مبارك عن السلطة لنجله جمال بل للمجلس العسكرى الذى عارض التوريث.
الحقيقة أن النظام ظل يناور ويعقد تحالفات مع هذا الطرف أو ذاك، ويعمل على شق الصفوف، يهادن الثورة والثوار فى بعض المواقف، ويضرب بيد من حديد فى مواقف أخرى، وعينه فى كل الأوقات على استعادة المساحة التى اكتسبتها الثورة للحق فى التنظيم وحرية الفكر والتعبير.
وقد تكشف الأيام عن حقيقة المواقف التى اتخذتها الأطراف الفاعلة خلال مسيرة الثورة، والصفقات المشبوهة التى أبرمتها قوى «ثورية» و«محافظة» داخل الغرف المغلقة، فكل هذه الأمور، بالإضافة إلى وقوع غالبية المشاركين فيها فى وهم كبير، وهو أن نجاحها فى إسقاط مبارك يعنى بالتبعية هدم أركان نظامه، وأنها قضت إلى الأبد على أحفاد الفراعنة من الرؤساء الفراعنة أنصاف الإلهة الذين اكتسبوا قداسة وهمية، وسلطات ما انزل الله بها من سلطان، وأنهم ودعوا إلى غير رجعة تراثا طويلا من القمع والتهميش.
– لكن هناك نقد يحمل الثوار مسئولية فشل الثورة بتركهم للميدان؟
لم تكن خطيئة الثوار أنهم تركوا الميدان فى ١١ فبراير بوهم سقوط النظام، وكان هناك تيارا واسعا يرى فى تنحى مبارك أو نقل سلطاته مجرد خطوة على الطريق، والمشكلة أن الشعب هو الذى ترك الميدان واحتفل بالنصر، وحتى هذه اللحظة كان للثوار تأثير على الملايين الغاضبة طوال ١٨ يوما مجيدة، قدموا فيها ملحمة من المجد والخلود وخاضوا بروفة عظيمة لمصر الجديدة وكنسوا من أرضها الثقافة الطائفية والذكورية وأبدعوا أجمل الفنون، وحرس المسيحيون صلوات المسلمين وحرس المسلمون الكنائس، وتآخت منصات التيارات المختلفة، وازدانت الميادين بشعار عيش حرية عدالة اجتماعية وكرامة إنسانية.
الذين خاضوا هذه الملحمة اعتبروا ١١ فبراير خطوة على الطريق، وبينهم من نبه وحذر ورفع شعار الثورة مستمرة، لكن السؤال الحقيقى هو لماذا ترك الشعب الميدان؟ من بقى من الثوار تعرض لعملية سحل فى أحداث ماسبيرو ومجلس الوزراء ومحمد محمود، وتعرض لعزلة وحصار ما بعد المليونيات، وكانت قيادات الإخوان اقتنصت صفقتها، ومضت تمهد الطريق إلى البرلمان والقصر، بينما اكتفت تيارات التهازية بما حققته من غنيمة.
إن تصديق الشعب لخدعة 11 فبراير كان محصلة لتجريف سياسى طويل، صادر أشكال العمل الديمقراطى وحاصر الأحزاب والنقابات وكل أشكال التنظيم القاعدى فى المواقع.
– لكن كانت هناك أوضاع مشابهة فى تونس إلا أنهم حافظوا على وجودهم وفاعياتهم؟
الأوضاع فى مصر كانت مختلفة، فعلى عكس الوضع فى تونس الذى ظهر فيه اتحاد الشغل التونسي كقوة مؤثرة بتنظيماته القاعدية فى معظم فروع العمل، بما لهذا النفوذ من أثر فى التوعية والتثقيف والفاعلية والحضور السياسى، عمد النظام السياسى المصرى فى مختلف مراحله إلى توسيع الهوة بين نخب محاصرة وقواعد تفتقد للتنظيم.
نظرة واحدة إلى قوانين النقابات والأحزاب والعمل الأهلى ستفضى بك إلى هذه النتيجة، ففى التأسيس والنشاط يعترض المنظمات منطق الرخصة والترخيص والإذن والسماح، بينما تهمش القوانين نقابة المنشأة والمنظمات القاعدية وتقلب الهرم، والأكثر من ذلك أنها تجمع بين العامل وصاحب العمل، فى تنظيم نقابى واحد، فوزير الصحة نقيب الأطباء ووزير الرى أو أكبر مقاول نقيب المهندسين، ووزير العمل رئيس الاتحاد العام للعمال، فضلا عن حظر العمل فى الشارع، وغيره من قيود مرتبطة بحرية الإعلام والتضييق على الحريات، هذا كان الحال فى مصر، عشرات الملايين الغاضبة كانت تفتقد سلاح التنظيم.
الثورة حدثت عند نقطة فاض فيها الكيل، بينما ما تزال أشكال التنظيم الجماهيرى محدودة، واندلعت من خارج المظلة الرسمية لنظام مبارك، بسبب منطق وقوانين الترخيص والإذن والسماح لممارسة أى نشاط، وعندما تغلق فى وجه المواطنين أطر العمل القانونى الشرعي وتخنقها المظلة الرسمية، يلجأون للتنفس خارجها وشق قنوات جديدة لأنفسهم.
– إذا كانت جماعات التغيير تشق طريقها من خارج المظلة الرسمية.. فلماذا لم تنتبه؟
قبل اندلاع الثورة كانت جماعات التغيير تنحت فى الصخر وتشق طريقها، مثل “كفاية” و”الجمعية الوطنية للتغيير” و”الحق فى الصحة” و”الدفاع عن الحقوق التأمينية” و”أطباء بلا حقوق” و”مهندسون تحت الحراسة” و”حركة ٣٠ مارس لاستقلال الجامعات”، فضلا عن اللجان العمالية والفلاحية الصاعدة، إلا أنها كانت ما تزال محدودة وتعمل تحت الحصار، ولم تكن وصلت بعد لمستوى الترابط لبناء قيادة شاملة للمعارضة أو قواعد موقعية ذات ثقل ونفوذ جماهيرى له القدرة على الوصول للملايين الغاضبين.
مشكلة التنظيم بدأت قبل ١١ فبراير، وهي ليست مشكلة الميدان فقط، بل أيضا ما سبقه، وفى الميادين كانت هناك فرص وظواهر إيجابية للتنسيق وبناء قيادة اعترضها وهم إمكانية التحالف مع الإخوان، وغلبة المصالح الضيقة عند بعض التيارات، ومناورات شق الصفوف بإغراء العصا والحزرة.
11 فبراير كانت خدعة بسبب الاعتقاد بإسقاط رأس النظام، رغم استمرار بقية أركانه، ملايين الغاضبين اعتبروا أن المهمة انتهت، أما من أدرك حدود التغيير وطبيعة المناورة واستمر فى الميدان، وخاض معارك المؤخرة ورفع شعار الثورة مستمرة، تعرض لعملية سحل فى الأحداث التالية، وهناك فريق ممن تصدروا الميدان انشغل بتوزيع الغنائم وقطف الثمار، أما كتلة الإخوان التى دخلت الميدان متأخرة، انشغلت قيادتها بالمساومة على رقبة الثورة وتحقيق التقاسم مع السلطة الانتقالية، وجرت ترتيبات الفترة الانتقالية بالتفاهم معهم وبما يحقق مصالحهم.
كان الأمريكيون على الخط يدعمون امتصاص آثار ثورات الربيع العربي والانتفاضات الشعبية بتغيير الأنظمة الديكتاتورية القديمة بأنظمة جديدة من قوى موالية، وهو ما حدث في تحالف الإخوان كقوة جماهيرية موالية مع العسكر، وهذا على العموم ومع اختلاف الأوزان ما حدث فى مصر وتونس واليمن وليبيا.
– ما رايك فيمن يقولون أن ثورات الربيع العربي صناعة أمريكية؟
وهل كان بوسع أمريكا أو أي قوة مهما تملك من جبروت أن تحرك كل هذه الملايين؟ وهل صدرت لها شعاراتها وتطلعاتها للعدالة والكرامة والحرية وما أبدعته الشعوب فى الميادين؟ هل كان بوسع أى قوة فى الأرض أن تفيض بكل هذا الزخم؟ هناك فرق بين أن تحاول القوى الكبرى توظيفه الأحداث لتحقيق مصالحها، وبين أن تفجر هى الظواهر السياسية والاجتماعية الكبرى.
المؤامرات يمكن أن تفسر أحداثا صغيرة، أما الثورات تحتاج إلى تفسير أعمق، الثورة حدثت لأن الرئيس ومؤسسات الحكم كانت قد شاخت فى مواقعها، مع اشتياق الشعوب للتغيير، قد يكون الأمريكان توقعوا أن تكون المنطقة على فوهة بركان، وحذروا الأنظمة الموالية، وسبق لهم تحذير الشاه فى إيران للقيام بإصلاحات ولم يستجب، وبعدها لخص كسينجر – مستشار الأمن القومى الأمريكى آنذاك – الأمر بقوله إن شاه إيران ارتكب خطأين، الأول: عدم تنفيذ إصلاحات قبل الثورة ليقطع الطريق عليها، كما كنا ننصحه، والثاني: أنه نفذ الإصلاحات بعد تفجرها ليحتويها، وكان كل تنازل يفضى إلى تنازل جديد وزخم جديد للثورة.
لم تكن الإدارة الأمريكية تقدم نصيحتها من أجل عيون الشعب، بل للحفاظ على مصالحها، التي عندما تخشى عليها تلجأ للعبة تغيير الأحصنة والاستغناء عن الجياد القديمة التى يمكن أن تفجر الغضب، فى مصر لخص حبيب العادلى المشهد بعد أن استنزفت قوات الشرطة جهدها فى صد الناس عن الميادين، وطلب منها مبارك تصعيد العنف ملوحا باستخدام الجيش، بقوله الشعب ركب يا باشا، وكان جنرالات الجيش أيضا أذكى من الدخول فى صدام دام مع ملايين غاضبة فاختاروا المناورة.
– هذا الحديث يعود بنا إلى خلاف آخر.. هل كانت 25 يناير ثورة أم انتفاضة؟
الحقيقة أنه لا يوجد وصف دقيق يلخص ما جرى، لأن الثورة بطبيعتها عملية لا يمكن اختزالها فى لحظة، فالثورة تجمع بين خاصيتين، أولها: أن تكون حصيلة نهوض جماهيرى كاسح، وأن تكون بالأساس فعل جماهيرى يصطدم بسلطة معادية لمصالح الشعب، وهذا تحقق فى الثورة المصرية، وثانيا: أن يفضى هذا الفعل إلى الإطاحة بالسلطة وتحالفاتها وشبكة علاقاتها واستبدالها بسلطة جديدة وهذا ما اخفقت فيه، وإذا توفر لنا هذا الفهم لا يهم الوصف.
الثورة الفرنسية اندلعت، لكن هل أدت انتكاسات الثورة، وانتصار الرجعية فى فترات معينة واستعادة النظام القديم إلى حجب صفة الثورة عنها؟ سلطة 23 يوليو تم وصفها فى البداية بالانقلاب، لأن انقلاب الجيش هو الذى حسم قضية السلطة، لكن تحولاتها وسياساتها الاجتماعية ومعاركها ضد الاستعمار أكسبها عمقا جماهيريا، فاستحقت وصف الثورة.
فى روسيا قال لينين صراحة أن ثورة ١٩٠٥ هزمت، لكنه لم يتخل عن وصفها بالثورة تأكيدا لعمقها الجماهيرى واستمرار أهدافها، وأيضا ثورة يناير لم تظهر في السلطة وفشلت فى العملية السياسية المباشرة، ولم تغير طبيعة النظام السياسى، لكنها فتحت الأفق التاريخى لتحقيق أهدافها عيش حرية عدالة اجتماعية وكرامة إنسانية، ويمكن أن نصفها بالثورة نظرا لزخمها الجماهيرى العظيم الذى لم تعرفه مصر منذ ثورة 1919، ولأنها فتحت الأفق والتطلعات إلى السماء.
التقرير السياسى الذى صدر عن حزبنا – التحالف الشعبى الاشتراكى – وقتها كان عنوانه “المسار الصعب لثورة لم تكتمل”، ووصف الانتفاضة يمكن أن يصدق أيضا، لأنها لم تغير طبيعة السلطة، لكننى شخصيا أفضل وصف الثورة، فنحن لم نعش أياما مثلها، وقد ولدنا فيها من جديد.
– وما رأيك فى شعار “الثورة مستمرة”؟
لو كان الأمر يتعلق بالعملية السياسية التى استهدفت السلطة، فهى انتهت منذ عقد من زمان، وإن كان يتعلق بما كان تتطلع إليه تيارات بشعار الموجة الثالثة من الثورة، فالموج يلاحق بعضه ويتلاطم، ولا يعقل أن يمر قرابة عقد من الزمن بين موجتين، ونحن إذن أمام مسار جديد وظروف أخرى.
أما أن كان الأمر يخص أهدافها الكبرى فى العدالة والكرامة والحرية، فهى أهداف لن تبرح خيال الشعب بالقطع، وأهمية التشخيص الدقيق أنه يساعد فى بلورة التكتيك السليم، وهو فى حالتنا هذه يحتاج إلى عمل تراكمى مثابر عبر مسارات ديمقراطية آمنة، والمهم أن يكون مفهوما أن الثورة لم تنفذ من ثقوب أمنية فى نظام مبارك، بل من شروخ وتصدعات فى الجدار السياسى والاجتماعى بسبب الظلم والاستبداد والفساد والتمييز، وبسبب انهيار قطاعات عريضة تحت خط الفقر، مع توحش رأسمالية المحاسيب.
من يريد أن يقطع الطريق على الثورة عليه محاربة هذه الظواهر، وأقصر طريق للأمن هو العدل والحرية، وأظن أنه لا يخفى على الأجهزة الأمنية تراكم مخزون غضب، ليس بفعل الثوار فعقل مصر وضميرها فى السجون، كما أن أقصر طريق للأمن هو تحويل شعارات يناير لسياسات وتشريعات تتجاوب مع مصالح الشعب.