محمد عيسى يكتب: حماقات لا تُغفر! (قصة قصيرة)
هو الآن جالس في سكون بعيداً عن صخب الحياة، يتذكر بداية عهده بها، لم يكن يعرفها قبل ذلك، لذلك حين بادرت بالحديث معه في أول موقف جمعه بها، رد عليها باِقتضاب، وحين أراد أحد أصدقائه أن يُعرفه عليها غادر المكان غير مكترث بما يحدث، بررالحاضرون قلة ذوقه هذه بأنه شخص خجول ولا يجيد بفعل خجله هذا الحديث مع الفتيات، وهذا ما ظنه صديقه أيضاً الذي تهكم عليه في أول لقاء جمعهما بعد هذا الموقف، ظل هذا الموقف عالقاً في ذهنه، فأفصح عنه لصديقة طفولته، التي وصمته بالغطرسة وقلة الذوق، أشاح بيده آنذاك مُتصنعاً عدم الأهتمام، ولكن في حقيقة الأمر، فإن هذا الموقف شغل حيزاً في ذهنه لا بأس به لدرجة أن صديقته ظنت أن سحر عينيّ الفتاة أوقعه في غرامها منذ اللحظة الأولى، ضحك كثيراً من مبالغتها، لأن بسبب قلة ذوقه هذه لم تتأتَ له الفرصة لكي ينظر في عينيّ مُحدثته، وبرغم سخريته مما قالته، أصبح بدون أن يشعر يتحين أي مناسبة لرؤيتها من بعيد أو لكي يتجاذب معها أطراف الحديث، كان يُبرر لنفسه أفعاله هذه بأنه يريد أن يتخلص من أي تأنيب للضميرناحيتها بعد أن أحرجها وتعامل معها بدون أن يقصد بشئ من الاستعلائية، ولكنه في قرارة نفسه كان يعلم أن هذا ليس كل ما في الأمر، وأن هناك شئ آخر ولكن معالمه لم تتضح بعد.
ظل على حاله هذا حتى حالت الظروف بينه وبين رؤيتها، لم يكن يعرفها بالقدرالكافي آنذاك حتى يتأثر بغيابها أو يحاول أن يسأل عن أسباب غيابها، ولكن هذا لم يمنعه من التفكيرفيها وفي أسباب غيابها عن المشهد من حين إلى آخر، حتى تلاشت هذه الظروف لتعلن عودتها من جديد التي شهدت ميلاد شئ ما في صدره ناحيتها، لم يكن يعرف ماهيته مسبقاً، ولكن بعودتها أتضحت معالمه في السعادة الغامرة التي تملكته حين وقعت عينيه عليها، فإذا سألته وقتها عن أفضل شئ حدث له في عودتها كان سيجيبك بسماعه اسمه منها وهي تنطق به.
ولأنه من العشاق الذين تفضحهم أعينهم، لاحظ صديقه المُقرب أن هناك مشاعر في صدره ناحيتها، أنكر وأستخف في بداية الأمر بتوقع صديقه، ولكنه رضخ بعد ذلك مؤكداً توقعه، ولكن في نفس الوقت أكد عليه أن مشاعره هذه لا ترقى إلى مرتبة الحب، وأنه ينبغي عليه أن يتثبت أولاً من أي مشاعر ناحيتها قبل أن يُلمح إليها بها، حتى لا يتورط في أي لحظة من اللحظات في الافصاح عن مشاعرغير حقيقية، لم يستغرق وقتاً طويلاً حتى يعلن لصديقه أن مشاعره اتجاهها مشاعر صادقة نابعة من القلب، وكان رد صديقه عليه بأنه طالما تأكد من حقيقة مشاعره نحوهها فينبغي عليه أن يعرفها جيداً أولاً حق المعرفة وأن يحترم ثقافتها، لأنها من الفتيات التي لا تعترف إلا بالمشاعر العلانية التي يحتضها مجتمع الأهل، تردد حينذاك، وأخذ يقلب الأمرعلى وجوهه المختلفة، وبدأ في جث نبض أهله عن مدى امكانية الإرتباط بها، ولكنه وقف مع نفسه للحظات، وسأل نفسه عن طبيعة الأمور التي من الممكن أن تمنعه من الأرتباط – إذا لم ترفض قلبه – مادام قلبه يدق عند رؤيتها، وعن شأن أهله بموضوع كهذا، ثم لمعت في ذهنه فكرة تمثلت في تساؤل عن مدى صدق مشاعره اتجاهها وعما اذا كان صدقها كفيل من أن يدفعه إلى تحدي مجتمع الأهل إذا وقف عقبة للوصول إليها، انتهى بالإجابة على نفسه ان مشاعره اتجاهها هي أطهر وأنقى ما في صدره، وأنه على استعداد أن يواجه الجميع بكلمات الشاعرالفلسطيني محمود درويش التي وجهها إلى حبيبته ” إني أُحبك رغم أنف قبيلتي ومدينتي وسلاسل العادات، لكني أخشى إذا بعت الجميع تبيعيني فأعود بالخيبات” إذا حاول مجتمع الأهل عرقلة ارتباطه بها.
بعد أن انتهى إلى هذه الإجابة، أصبح لا يُبالي بما سيترتب على الافصاح عن مشاعره ناحيتها، ولم يعد عنده أدنى مشكلة من أن القاصي والداني يعرف بأن هذه الفتاة هي التي أختارها قلبه لكي تكون رفيقته وسنده في الحياة، وبفعل انجرافه مع تيار مشاعره، نسى نصيحة صديقه المُقرب إليه حول ثقافتها المُحافظة التي ينبغي عليه أن يحترمها ويضع قوانينها نُصب عينيه، والأدهي من نسيانه نصيحة صديقه أنه نسى كلامها هي نفسها حينما حدثته عن ثقافتها المُحافظة التي لاتسمح لها أن تتعرف عليه ويتعرف عليها بشكل غير رسمي بمعزل عن مجتمع الأهل، نسيانه أو تناسيه قواعد التعامل معها التي أملاها عليه صديقه ووضحتها هي له جعله يتورط في ارتكاب حماقات انتهكت قوانيين البيئة التي شهدت نشأتها وشكلت وجدانها، فأظهرت مشاعره ناحيتها التي يقسم بأنها أطهر وأنقى ما فيه في صورة لاتستقيم بالمرة مع مزاعمه.
وياليت الآثار السلبية لإندفاعه وراء مشاعره وقفت عند حد إساءة التعبيرعنها، وذلك لأن آثارها أمتدت إلى عدم تفهمه لها حين رفضت أن تسمح له من أن يُعبرعن حبه إليها، وبدلاً من أن يتفهمها ويتفهم مخاوفها التي افصحت عنها إلى صديقة مشتركة بينهما، رد على كلامها وعلى شكوكها حول طبيعة مشاعره نحوهها وعما إذا كان هناك نوعاً من المبالغة فيها بلهجة مفعمة بالحدة والفوقية، لاعناً قلبه الذي يعتبره هو بوصلته في الحياة، قائلاً لصديقته بنبرة استعلائية سخيفة بأنه لايريد أن يتعامل معها مرة أخرى أو يراها حتى على سبيل المصادفة، واعداً إياها بأنه سينساها تماماً ولن يتذكرها مرة أخرى بعد ذلك حتى ولو في أحلامه، مُلقياً عليها كل اللوم مُستخدماً أشد عبارات اللوم والتأنيب، مُتهماً حبيبته بأنها لم تحترم مشاعره لأنها لم تفتح له قلبها وتُحدثه بصراحة عن المخاوف التي تشغل بالها، ناسياً أو مُتناسياً بفعل أفكاره الذكورية وأنانيته وكبريائه الجريح ثقافتها المُحافظة التي تعتبر هي بوصلتها في الحياة.
وحين هدأت ثورته، أعاد الأمورإلى نصابها الصحيح، وهو الآن جالس في سكون بعيداً عن صخب الحياة، ينظر إلى ما حدث من خلال منظورموضوعي، يُعدد الحماقات التي ارتكبها قبل وبعد تعبيره عن مشاعره، ويواجه نفسه بالأنانية التي تملكته، والتي أفقدته جانباً من انسانيته، ومنعته من أن يتفهمها، بل ودفعته إلى أقتراف حماقات كانت غالباً هي السبب في معاقبته بحرمان عينيه من لقاء عينيها، هو الآن يقف أمام مرآة ضميره ويلعن في “سنسفيل” أفكاره الذكورية المعششة في رأسه التي حاول طويلاً أن يتطهر منها والتي كلما ظن بينه وبين نفسه أنه تطهر منها اكتشف أنها لازالت تسيطر عليه في كثير من أفعاله، هو الآن يسمع أنين قلبه الذي ذاق مرارة الصدع الذي أصاب رابطة الصداقة والزمالة بينهما، ومرارة الحساسيات التي لم يخلقها أحداً غيره، آملاً أن تنجح الأيام في رأب الصدع الذي أصاب صداقتهما وأن تبدد الحساسيات التي خلقها بحماقاته المتواصلة، هو الآن يتنفس في ضيق وهو ينظر إلى السماء في ليلة ليلاء متمنياً بُزوغ قمرها نادماً وراجياً من كل قلبه ألا تكون حماقاته بالنسبة لميزان قلبها من قبيل الحماقات التي لا تُغفر.