محمد رفاعي يكتب : المسرحيون المصريون فى الحركة الوطنية .. كيف استطاع فنانون ومثقفون الانتصار بالثقافة والفن على الإستبداد
الكتاب يرصد تجربة (مسرح معتقل الواحات) وعوامل انشائه وأهم العروض وأهم فنانيه: كيف تم تحويل المعتقل لمسرح؟
عرض ورؤية – محمد رفاعي:
يرصد الكاتب المصرى والباحث “سليم كتشنر” فى كتابه”مسرحيون فى الحركة” الصادر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، عدداً من آراء المثقفين والفنانين الذين شاركوا فى الحركة المسرحية، وأهتموا بكون المسرح ظاهرة فنية تخدم المجتمع وتنميّه.
يضع الكاتب والباحث اختياره للفنانين والكتاب والشخصيات على أساس أمرين هما :أن يكون الشخصية المسرحية محترفة لا هاويةٍ ،والثانى أن تكون الشخص من سجناء الرأى أو تعرض للسجن والاعتقال أو الملاحقة لسبب سياسى، هم فنانون أمنوا بفعل الكلمة ودورها، فكان نصيبهم الألم والأهانة والتعذيب والشتات والخوف الدائم ، ويكفى القول بان بعضهم أصحاب موهبة كبيرة منعت من الوصول إلى الجمهور ، ولم يتح لها فرص كاملة من الإبداع والعمل، والذيوع للتعبير عن أنفسهم ومجتمعاتهم .
ولقد وضع الباحث الفترة من 1952 : 2011 لدراسته ، لذا لم يدخل فى هذا النطاق التاريخى العديد من الفنانين منهم الفنان :حمدى أحمد الذى أعتقل عام 1949 وعمره 16 عاما ، والكتاب :نعمان عاشور وعبد الرحمن الشرقاوى ومحمد مندور الذين اعتقلوا فى عهد اسماعيل صدقى فى حمله ضمت أكثر من 200 من المعارضين لسياسته ، وكانت حجتهم أنهم دبرّوا حركات هدامة بين فئات الشعب من الطلبة والعمال وغيرهم من مختلفى الطوائف وكما أنهم عدّوا من معارضيه وأنهم يتحركون وفق جهات أجنبية.
وكما أن عدد من الفنانين فى الفترة التى حددها الباحث لم يذكرهم ليس تقصير منه إنما راجع لرغبتهم أبرزهم : الفنانة الكبيرة محسنة توفيق والمطربة عزة بلبع والكاتبة صافيناز كاظم . وكما لم يذكر من اعتقل لفترات قليلة قاربت أسبوع مثل المسرحى: فكرى النقاش.
اعتمد الباحث والكاتب المسرحى “كتشنر” على معايير التوثيق فقط طوال فترة البحث والدراسة فى الفترة 2011 :2016، وذكر الباحث عن الشاعر والمسرحى “نجيب سرور” أنه لم يعتقل أو يحبس وانحسر أمره فى المراقبة والمطاردة وأودع مشتشفى الخانكة لأمراض العقلية بعض الوقت، كما تعرض الباحث والمسرحى “عادل العليمى” للإيداع بمستشفى العباسية للامراض النفسية عام 1979 لمدة 21 يوما لخروجه إلى الشارع هاتفا ضد إسرائيل ورئيس وزارائها”مناحم بيجن” الذى زار مصر.
لايوجد مسرحى جاد لم ينشغل بقضايا بلده ومجتمعه وذكر المؤلف ثلاثة فنانين لم يتعرضوا للسجن أو الملاحقة وهم :عبد العزيز مخيون، حسام الدين صلاح وناصر عبد المنعم..
يرصد الباحث عدد من الظواهر المسرحية والثقافية من أهمها:ـ
الشعر والهتاف والأغنية ـ بعضها من مفردات العرض المسرحى ـ يشكلون ملمحاً مهماً فى علاقة المثقف والفنان بالسجن، فكلما اشتد القهر اشتدت الحاجة إلى الهتاف ، وكلما جاش الشعور بفراق الأحبة اشتدت الحاجة إلى الشعر ، وكلما ارتفعت الأسوار اشتدت الحاجة إلى الغناء. وهى وسيلة من وسائل لتسلية عن النفس وجلب المتعاطفين.
ويرصد الباحث ظاهرة مصادرة الكتب الموجودة فى حوزة من يداهمون منازلهم دون مبرر أو منهج واضح مثل مصادرة لمجرد المصادرة أو للون الكتب أو لتضمنها كلمات مثل: الشيوعية أو الماكسية وخلافه. وتماما لاعتقال الفنان لمجرد توقيعه على بيان يطالب بالافراج عن المعتقلين.
رصدت الدراسة تجارب مسرحية حوصرت أو صودرت من أعداء المسرح والثقافة والفكر ولم تخرج للنور بعد البروفات المجهدة أو عرضت ليالى محدودة، أحيانا بتدخل الأمن بشكل مباشر أو الرقابة على المصنفات الفنية أو مديرو المسارح أو لأسباب غير معلومة. وذكر الباحث العديد من العروض لكل حالة.
يستشهد الباحث بإجابات عدد من الفنانين حول سؤال المسرح المصرى المحاصر، وقال أحد الفنانين : إن تدمير تجربة مسرح الثقافة الجماهيرية وضياع مسرح السامر هو حصار حقيقى للمسرح المصرى، ويقول آخر: إن حصار التجاهل هو الحصار الأشد، تجاهل الفنان وتهميشه بحيث يكون الفن لا يمثل أهمية أو ضرورة للفنان ، وطبع الفن الجيد بطابع الخصخصة وخضوعه لشروط البترودولار.
تلقي الدراسة الضوء على ظاهرة هامة ظلت غائبة أو مغيّبة عن الباحثين والكتاب والمنشغلين بقضايا المسرح المصرى ، وهو مسرح معتقل الواحات هو أحد أهم ما نفذه مجموعة الفنانين القابعين فى معتقل الواحات هو مسرحهم المقام بأيديهم والذى تجاوز الممكن فى تجربة فريدة لاتتكرر إلا فى مصر فى تلك الفترة النادرة فى تاريخ مصر. فالجميع يدرك مشقة إنتاج عرض مسرحى فى الظروف العادية لمؤسسات تملك مقومات انتاج المسرح.
قليل من الكتب والمراجع تحدثت وألقت الضوء عن هذا المسرح وعوامل انشائه وأهم العروض وأهم فنانيه.
بدأ مسرح الواحات باقامة العروض بين العنابر لتفريج عن المساجين والحراس فقط، ونجاح التجربة شجعهم فى رفع سقف الطموح وفكروا فى تشييد مسرح خاص بهم فى فناء المعتقل وبالجلد والدأب والإصرار والمعاناه نجحوا فى بناء المسرح وأقاموا عليه عروضهم وتتسع دائرة المشاهدين ليضم محافظ الأقليم والموظفين والمواطنون من خارج المعتقل.
تعددت الرؤى حول الأسباب المباشرة وغير المباشرة للجوء إلى مسرح فى المعتقل، المهندس فوزى حبشى مصمم ومنفذ مسرح الواحات قاله عنه “بناء مسرح كهذا سيكون كفاحاً معنوياً ضد الصحراء والرمال والمنفى ، وحتى لو تم بناؤه ساعة واحدة وعرضت مسرحية واحدة فقط، سنظل نعبر دائما بأننا استطعنا ان ننتصر بالثقافة والفن على الإستبداد لو للحظة واحدة.
وذكر الفنان خالد حمزة”إنه لتوحيد الطاقات فيما ينفع للحد من الخلافات بين المعتقلين” ،ورأى الشاعر سمير عبد الباقى إنه وسيلة لهزيمة الغربة والحرمان والبعد عن الأهل والوطن ، ودحر المنفى الموحش فى الصحراء.
ورأى الكاتب المسرحى الفريد فرج أن السياسيين رحبوا بالفكرة باعتبارها دعوة للمعتقلين لمقاومة نوازع العزلة والغربة والاستمتاع بحياة الفكر والحوار ، والبعد عن القضايا الساخنة ، وجموع المعتقلين رغبوا فى إثراء الحياة الفنية . و إدارة المعتقل رحبت بالفكرة .
بدأ تنفيذ المسرح وانتعش بعد وقف عمليات التعذيب ، أى بعد أن دفعوا من دمائهم وعذابهم الثمن وشيد المسرح البدائى على شكل المسرح الرومانى وتنافس المعتفلون ذو التوجهات والإتجاهات السياسية المتباينة فى عمليات البناء ، تجهيز البناء وعمليات الحفر واعداد الطوب المطلوب الذى بلغ أكثر من 40 ألف طوبة.. وتسابقوا فى تجهيز المسرح ليلحق بالإحتفال بيوم المسرح العالمى.
ينفرد هذا الكتاب بأنه رصد عروض هذا المسرح وذكر بيان أهم العروض وأهم العناصر الفنية التى ساهمت فى تكوينه ،لم يكتفوا بالمسرحيات العالمية أو المصرية المكتوبة من قبل بل كتبت مسرحيات مهمة فى هذا السياق ، وكانت التجربة تدرب عدد كبير منهم على احتراف العمل الفنى ، سواء كان فى التمثيل مثل الفنان: على الشريف أو التأليف مثل الفريد فرج ولويس بقطر وسمير عبد الباقى، شوقى عبد الحكيم ، ومخرجين مثل :مهدى الحسينى، خالد حمزة وكتاب وشعراء ونقاد مثل : صلاح حافظ وحسن فؤاد ، فؤاد حداد ومحمود أمين العالم.
وقد قام العديد منهم بادوار مختلفة و قام العديد منهم بالتاليف والإخراج والثمثيل أحيانا مثل :حسن فؤاد وصلاح حافظ ولقد قام دارسو المسرح تعليمه للهواه فى السجن، حيث قاموا ببطولات مسرحية. ودعى مدير المعتقل محافظ الأقاليم وابدى اعجابه ببعض العروض وأثنى على مبدعيها وشاهد مسرحية “عيلة الدوغرى”ورأها فى القاهرة، وقال بعد العرض ان ما قدموه فى الواحات أجمل ما رأه فى القاهرة ..
من أهم المسرحيات التى قاموا بعرضها :حلاق بغداد ،الشاطر حسن ،عيلة الدوغرى والناس الى تحت وغيرها.
لم يكتف أصحاب التجربة بالمسرح التقليدى بل بدأت فى تنفيذ وعمل مسرح عرائس وتصميم الدمى والعرائس . كما قاموا بما يسمى الآن “قياس الرأى” وحدث ذات مرة جدل سياسى حول أحد العروض واعتبره بعض الزملاء انهزاميا، فقام أحدهم بتجميع آراء الزملاء كتابة ومنهم من كتب صفحة ومنهم من كتب سطرين والبعض رفض التعليق، وتجمعت الآراء حول المسرحية ما يشكل كتابا وكانت تقام ندوات لمنافشة المسرحية ونقدها.
ورصد الكتاب ماسمى “أزمة الثقافة الجماهيرية”عام 1977 التى عرفت بأزمة قصر ثقافة بور سعيد ،بعد عرض مسرحية “رواية النديم فى هوجة الزعيم” للكاتب أبو العلا السلامونى، وإخراج عباس أحمد، وتجمع عدد من المثقفين والكتاب للمطالبة بتكوين رابطة مستفلة لهم وعلقوا بيانهم. رفض مسئولو القصر بيان للمثقفين واتصل المسئول بالأمن الذي تحفظ على كل الموجودين من الفرقة المسرحية والكتاب .
دأبت السلطات استبعاد ونقل عدد من المثقفين والفنانين إلى الثقافة الجماهيرية ورغم قلة الموارد والإمكانيات استطاعوا العمل إدركا لدورالإجتماعى للفن والثقافة وللمؤسسة المنتمين لها ، وشن أعضاء مجلس الشعب هجوما على جهاز الثقافة الجماهيرية وأدعوا بإنها وكّر يأوى اليساريين والشيوعيين وطالبوا بإلغائها، وتوعد السادات مثقفى الجهاز بالعقاب من فوق منصة مجلس الشعب، وأصدرقراراً بتفكيك أواصر جهاز الثقافة الجماهيرية وتحويلها إلى “مراكز ثقافية” تتبع كل محافظة أى تصبح أحد مرافق المحافظة مثل مرفق المياة والكهرباء والصرف الصحى، ولكنه يتم تفكيك الجهاز الحيوى ، والسبب إن المخرج “عبد الرحمن الشافعى” أعد عرض “عاشق المداحين” بمناسبة ذكرى وفاة زكريا الحجاوى وشاهد وزير الثقافة عبد المنعم الصاوى العرض على مسرح السامر فدعى الرئيس السادات لمشاهدته وحضر ومعه ممدوح سالم رئيس الوزراء وسيد مرعى رئيس مجلس الشعب وعدد من الأعضاء والوزراء . ثم ايقاف تفكيك الثقافة الجماهيرية وتبعياتها للمحافظات.
هذه الفكرة مطروحة حالياً وبل مطبقة بتهميش الهيئة من كوادرها المثقفة والخبيرة وبالتالى إفراغ دور ورسالة الثقافة الجماهيرية.