مجلة التحالف| مصر.. وقرار الانسحاب الروسي من صفقة الحبوب
بقلم / د. محمد فراج أبو النور
أثار انسحاب روسيا من الاتفاق الروسي “صفقة الحبوب الأوكرانية” في ١٧ يوليو الماضي، ضجة كبيرة في الأوساط السياسية والإعلامية الغربية، واتهامات حادة لروسيا بالتسبب في تهديد الأمن الغذائي العالمي، واحتمالات حدوث مجاعة في البلدان الأكثر فقرًا في إفريقيا بصفة خاصة. كما آثار القرار قلقًا لدى البلدان المستوردة للقمح الأوكراني نظراً لما ترتب عليه من إغلاق للممرات الآمنة، وبالتالي حدوث نقص في الإمدادات، بما يعنيه ذلك من احتمالات لرفع الأسعار.
ويجب أولاً الإشارة إلى أن التسمية الصحيحة للاتفاق المذكور هو “مبادرة توريد الحبوب عبر البحر الأسود”.. أي أنه لا يتعلق بتصدير الحبوب الأوكرانية وحدها، وإنما هو اتفاق ذو شقين، يتعلق أولهما بتأمين تصدير الحبوب الأوكرانية، بينما يتعلق الشق الثاني بتسهيل تصدير الحبوب والأسمدة الروسية، وإزالة العقبات التي تعترض تصديرها بسبب العقوبات الغربية. وقد تم التوصل إلى هذا الاتفاق – بشقيه – في يوليو عام ٢٠٢٢، بوساطة تركية وبرعاية من الأمم المتحدة اللتين حصلتا على تعهد واضح من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بتنفيذ الشق الثاني من الاتفاق الخاص بمطالب روسيا بإزالة العقبات أمام صادراتها من الحبوب، مقابل التزام موسكو بتوفير ممر آمن لتصدير الحبوب من ثلاث موانئ أوكرانية على البحر الأسود.
وهكذا فإن الشق الثاني من الاتفاق يقضي بإنهاء العقوبات التي تعوق صادرات روسيا، وفي مقدمتها حظر التأمين على السفن الروسية أو تلك التي تحمل بضائع من روسيا أو إليها، وتوقيع عقوبات على أية شركة من خارج الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة تنتهك هذا الحظر، كما يقتضي الاتفاق الإفراج عن السفن الروسية المحتجزة في الموانئ الأوروبية، والمحملة بشحنات كبيرة من الأسمدة (أكثر من ٢٦٠ ألف طن) وإعادة تشغيل خط نقل (الأمونيا) الروسية المار عبر أوكرانيا.
والأمر الأهم هو تسهيل تسويقها المدفوعات مقابل الحبوب والأسمدة الروسية من خلال إعادة البنك الروسي المختص بالتعامل في هذه الصفقات (سلخوزبانك/ البنك الزراعي) إلى منظومة “سويفت” الدولية لتسوية المدفوعات.
غير أن ما حدث بالفعل هو عدم التزام الأطراف الغربية بتنفيذ تعهداتها بمقتضى الشق الثاني من الاتفاق، والإصرار على اختزاله إلى شقه الأول فقط، وهو ما ينعكس في تسمية “صفقة الحبوب الأوكرانية” مع تجاهل حتى الإشارة إلى شقه الثاني، بالرغم من الاحتجاجات الروسية المتكررة، وهو ما أدى بموسكو إلى الانسحاب من الاتفاق، وبصورة أدق تعليق التزامها به مع الاستعداد للعودة إليه في حالة تنفيذ شقه الثاني، كما أشارت تصريحات عديدة للرئيس الروسي بوتين ووزير الخارجية لافروف.
*هنا يفرض نفسه سؤال بالغ الأهمية: إذا كان توقف صادرات الحبوب عبر الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود يمثل تهديدًا للأمن الغذائي العالمي، فلماذا يصمت الإعلاميون والسياسيون الغربيون عن صادرات الحبوب والأسمدة الروسية، والانعكاسات السلبية لغيابها، مع أنها أكبر بكثير من الصادرات الأوكرانية؟
معروف أن روسيا وأوكرانيا هما من أهم اللاعبين في أسواق تجارة القمح والحبوب وزيوت الطعام في العالم. وحسب الإحصاءات الدولية فإن روسيا تمثل المركز الأول في صادرات القمح العالمية بنسبة ٢٤٪، بينما تمثل أوكرانيا المركز الخامس بنسبة ١٢٪. كما تسيطر روسيا على (١٤٪ من صادرات الشعير) مقابل (١٢٫٥٪ لأوكرانيا) ويسهمان معًا بـ (١٧٪) من صادرات الذرة الصفراء، التي تمثل (٧٥٪) من مكونات أعلاف المواشي والدواجن.. ويسهمان بنحو ثلاثة أرباع زيت عباد الشمس، وهو زيت الطعام الأكثر استخدامًا في العالم (٥٠٪ لأوكرانيا، و٢٣ ٪ لروسيا).
ومن ناحية أخرى فإن روسيا وحدها تقوم بتصدير (١٥٪) من الأسمدة النيتروجينية في السوق العالمية، و(١٧٪) من الأسمدة البوتاسية (أسمدة البوتاسيوم).
(المصدر المعهد الدولي لأبحاث الغذاء، نقلاً عن الأهرام ٣٠ مارس ٢٠٢٢)، وهي أرقام متوافرة في الصحافة والأدبيات الاقتصادية العالمية، وبفروق ضيلة أحيانًا .. وعلى سبيل المثال تشير وكالة بلومبيرج الاقتصادية الأمريكية (١٥ أغسطس) إلى أن وزارة الزراعة الأمريكية تتوقع أن تساهم روسيا بـ (٢٥٪) من الصادرات العالمية في الموسم الزراعي (٢٠٢٣/٢٠٢٤).. بينما تساهم أوكرانيا (١٠٪)، وهي فروق مفهومة بالنظر إلى تأثير العوامل الجوية والمناخية (الصقيع – الجفاف … إلخ) على المحاصيل الزراعية في أعوام مختلفة.
ومن الضروري هنا الإشارة إلى أن الموانئ الأوكرانية الثلاث المشمولة بـ “مبادرة تصدير الحبوب عبر البحر الأسود” ليست الطريق الوحيد لتصدير تلك الحبوب، خاصة منذ اندلاع الحرب الجارية، فهناك أيضاً طرق بحرية أخرى عبر النقل البري إلى كل من بلغاريا ورومانيا، ثم انطلاقاً من موانئ الدولتين، وهناك طريق نهري إلى دول أوروبية مختلفة عبر نهر الدانوب، وطرق أخرى للنقل البري عبر بولندا والمجر.
وجدير بالذكر – فيما يخص مصر – أن وزير التموين الدكتور المصيلحي صرح لبلومبيرج أن مصر يمكن تشتري القمح الأوكراني عبر الأسواق الأوروبية. (بلومبيرج – ٢٠ يوليو ٢٠٣٢)
أما روسيا فليس لديها طريق للوصول إلى أسواق الشرق الأوسط وإفريقيا غير الشحن البحري عبر البحر الأسود، الأمر الذي يجعل حل مشكلات تصدير الحبوب من خلاله يتسم بأهمية قصوى.
تسييس الأزمة .. إزدواجية المعايير
وإذا كانت صادرات القمح والحبوب الروسية هي أكثر من ضعف الصادرات الأوكرانية، فضلاً عن صادرات الأسمدة ذات الأهمية البالغة، فليس من المنطقي أن تقوم الدنيا ولا تقعد بسبب صادرات أوكرانيا وحدها، وأن يقال إن غياب جزء منها سيكون سببًا في حدوث أزمة غذائية عالمية شديدة الخطورة، وتهديد بالمجاعة (!)، بينما يبذل الغرب كل جهد ممكن لتعطيل الصادرات الروسية (أكثر من ضعف نظيرتها الأوكرانية).
على الرغم من أن التأثيرات السلبية الأكبر بكثير على أسواق الغذاد في العالم ، فضلاً عن تعطيل صادرات الأسمدة الروسية الكبيرة بكل ما لذلك من تأثير على الإنتاج الزراعي عمومًا.
والمسألة هنا لا تتعلق بدعم الموقف الروسي أو الأوكراني، بل بإزدواجية المعايير، واستخدام الأزمات كأسلحة سياسية ضد خصوم الغرب، والمتاجرة بمعانات ملايين أو مئات ملايين البشر دون مبالاة فعلية بما يصيبهم.
وربما كان ضرورياً هنا الإشارة إلى أن الحبوب الروسية وجدت طريقها إلي أسواق الشرق الأوسط وإفريقيا، بالرغم من العقوبات الأمريكية والأوروبية. وإن كان هذا قد تم بتكلفة أكبر وكميات أقل. كذلك وجدت الأسمدة الروسية طريقها إلى الأسواق المذكورة وأغلب دول العالم لم تعترف بالعقوبات الغربية المفروضة خارج إطار القانون الدولي.
أين ذهبت الحبوب الأوكرانية
المفارقة اللافتة للنظر هي أن الحبوب الأوكرانية التي تم تصديرها في إطار “الاتفاق” لم تذهب إلى الدول الأشد فقرًا والشعوب الجائعة، بل ذهب الجزء الأكبر منها إلى بلدان غنية أو متوسطة الدخل، ومنها بلدان مكتفية ذاتيًا أو مصدرة للقمح!! وما نقوله مأخوذ عن مصادر غربية لا يمكن اتهامها بالتعاطف مع روسيا.. وتحديدًا عن (موقع CNN الأمريكي/ الاقتصدي/ باللغة العربية – ١٨ يوليو ٢٠٢٣) الذي ينقل عن المصادر الدولية أن صادرات الحبوب الأوكرانية، بموجب الاتفاق بلغت (٣٣ مليون / ثلاثة وثلاثين مليون طن) كان توزيعها كالآتي:
– الصين (٨ مليون طن).. أي حوالي ربع الكمية.. علمًا بأن الصين مكتفية ذاتيًا، وهي المنتج الأول في العالم، وتقوم بتصدير كميات غير كبيرة أحيانًا، وبالتالي فإنها استفادت من وارداتها الأوكرانية في دعم احتياطياتها من الحبوب وليس تفادي المجاعة.
– أسبانيا (٦ مليون طن).. دولة أوروبية غنية ومتقدمة ، مجاورة مباشرة لفرنسا أحد كبار اللاعبين في سوق القمح العالمي.
– تركيا (٣٫٢ مليون طن)
– إيطاليا (٢٫١ مليون طن)
– هولندا (٢ مليون طن)
– مصر (١٫٦ مليون طن)
– بنجلاديش (١٫١ مليون طن)
– إسرائيل ( ٨٧٠٫٦ ألف طن)
– تونس (٧١٣ ألف طن)
– البرتغال (٧٠٨٫٣ ألف طن)
هذه هي الدول العشر الأكثر استفادة من صادرات القمح الأوكراني حسب “الاتفاق” وقد حصلت الدول العشر على حوالي (٢٦ مليون طن)، أي أكثر من ثلاثة أرباح الصادرات بموجب “الاتفاق” (٣٣ مليون طن).. ولم يذكر الموقع الدول التي حصلت علي بقية الكمية.
لكن نظرة سريعة على القائمة ، تكفي لتوضيح أن الصين وحدها حصلت على ربع الصادرات المذكورة (٨ مليون) بينما ذهب الثلث إلى دول الاتحاد الأوروبي (أسبانيا وإيطاليا وهولندا والبرتغال) وأكثر من ثلث الكمية الإجمالية ذهبت إلى (الصين وتركيا وإسرائيل). وبناء ذلك كله تؤكد روسيا أن نصيب الدول الأشد فقرًا من “الصفقة” لم يزد عن (٣٪)!!
وخلاصة القول إن الأمر ليس فيه مجاعات، ولا شعوب فقيرة ستموت من الجوع إذا توقفت الصادرات الأوكرانية، وبفرض إنها لن تجد طرقًا أخرى للأسواق وليس معني هذا بالتأكيد أننا ننظر بلا مبالاة إلى هذه الصادرات، فهي مطلوبة للأسواق بالطبع، لكن الصادرات الروسية مطلوبة أكثر لأنها تمثل ضعف الصادرات الأوكرانية، فضلاً عن الأهمية الكبيرة لصادرات الأسمدة.
وهنا يجب الإشارة إلى أن إثارة الذعر بالحديث عن المجاعة الوشيكة، ينتج عنه ارتفاع فوري للأسعار، لكن من حسن الحظ أن انتشار الوقائع الصحيحة قد ساعد على تهدئة الأسواق، وسرعان ما عادت الأسعار إلى ما كانت عليه وأقل.
والحقيقة أن مصلحة الإنسانية عمومًا، والشعوب الفقيرة والأكثر فقرًا بصفة خاصة، تتطلب افساح المجال أمام الحبوب الروسية والأوكرانية على السواء للتدفق إلى الأسواق، والكف عن المتاجرة بآلام الشعوب واستخدامها كأسلحة سياسية في الصراعات الدولية.
مصر .. و”الصفقة” .. وأهمية الاكتفاء الذاتي
أشرنا فيما سبق من مقالنا إلى ما ذكره موقع CNN الأمريكي إلى أن نصيب مصر من صفقة الحبوب الأوكرانية بلغ (١٫٦ مليون طن) تمثل حوالي (١٥٪) من إجمالي استيرادنا من القمح لهذا الموسم (عشرة ملايين طن).. بينما تشير أرقام وزارة الزراعة الأمريكية إلى أن مصر من المتوقع أن تستورد (١٢ مليون طن) هذا العالم (بلومبيرج ٢٤/٧/٢٠٢٣).. وذلك مقابل الإنتاج المحلي البالغ (عشرة ملايين طن) حسب أرقام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
وأشرنا أيضاً إلى أن تصريح وزير التموين الدكتور المصيلحي بعزم مصر على شراء القمح الأوكراني من الأسواق الأوروبية (بلومبيرج ٢٠/٧/٢٠٢٢) أي أن توقف الصفقة لا يعني التوقف عن شراء القمح الأوكراني، لكن تصريح المصيلحي لم يوضح ما إذا كان ما سنشتريه من الأسواق الأوروبية سيغطي كمية (١٫٦ مليون طن) أم لا ؟ غير أنه أشار إلى الموقف المعروف من حرص وزارته على تعدد مناشئ (مصادر) القمح للوفاء باحتياجات البلاد .. وهذه مسألة بديهية، لكن المشكلة العملية تكمن تحديدًا في أهمية توفير احتياجاتنا بنفس الأسعار أو بأسعار قريبة منها وبنفس الجودة طبعًا.
وبما أن روسيا هي المصدر الأساسي لنا لاستيراد القمح ، ولديها فوائض كبيرة للتصدير وأسعار قمحها أرخص من الأقماح الغربية (الأمريكية، والكندية، والفرنسية، والاسترالية، كما أن شروط السداد لديها أكثر يسرًا وموائنها أقرب إلينا، بما يوفر علينا نفقات الشحن البحري من موانئ بعيدة (مع الدفع الفوري، والأسعار أغلى)، فإن روسيا تبدو هي المصدر الأكثر منطقية لتعويض النقص في القمح الأوكراني، خاصة وأن الشركاء الروس يبدون استعدادهم دائماً لتلبية الطلبيات المصرية.
وتشير الأرقام الروسية – التي نقلتها مصادر مصرية – إلى أن روسيا قد صدَّرت إلينا ست ملايين طن من القمح خلال الشهور الستة الأخيرة من العام الماضي (٢٠٢٢) وإلى اعتزامها تصدير أربعة ملايين طن أخرى حتي نهاية الموسم الزراعي للقمح (٢٠٢٢/٢٠٢٣) (المصدر : RT وسبوتيك باللغة العربية، وصدى البلد، واليوم السابع ١٩ يناير ٢٠23).. ولم تعلق المصادر الرسمية المصرية بالنفي أو التأكيد على هذه الأرقام، التي ذكرتها المصادر الروسية أكثر من مرة، وما يعنينا هنا هو أن تعويض أي نقص في الواردات الأوكرانية، ممكن من خلال الاستيراد من روسيا، وربما من رومانيا أو بلغاريا أيضاً، حسب أفضلية العروض.
متبقي مسألة بالغة الأهمية، تثيرها مسألة استيراد القمح وغيره من السلع الغذائية، والأزمات المتكررة عالميًا في مجال إمدادات السلع الغذائية، تعني ضرورة سد الفجوة الكبيرة بين إنتاجنا واستهلاكنا، وعدم ترك بلادنا عرضة لعواصف وأزمات الأسواق العالمية بما تحمل من تهديدات جدية للأمن القومي للدول، فتحقيق أكبر قدر ممكن من الاكتفاء الذاتي من الغذاء هو أحد الضمانات الأساسية للأمن القومي لأي بلد. وهو ما يستدعي – بالنسبة لمصر – إجراء مراجعة شاملة للسياسات الزراعية والغذائية.. غير أن هذا حديث ذو شجون!!