مجلة التحالف| العنف المدرسي.. وغياب الثقافة القانونية في التعليم المصري
بقلم / د. فاتن عدلي
يكاد من نافلة القول التنوية بأن تنوع الآراء المتعلقة بمفهوم وجوهر ومحتوى الثقافة القانونية يشير إلى أن هذا المفهوم متعدد الأوجه، وأن الرأي يعتمد على حقيقة الفهم الأكاديمي للثقافة القانونية، وكذلك سياق ومشاكل تحليلها، ويرى معظم المؤلفين أن الثقافة القانونية تحتوي على مستوى مناسب من الوعي القانوني، والمعرفة والأفكار القانونية، والتقاليد والاحتياجات والقدرة على التصرف فقط وفقًا للتشريعات، كذلك النشاط القانوني للمواطنين والمسؤولين والمشرعين الذى يستدعى الامتثال للقواعد القانونية والمبادئ والمعايير المعترف بها بشكل عام، وقد أدى إلى الوحدة في تعريفات مفهوم الثقافة القانونية إلى تناقضات تمنع صياغة مفهوم عام موثق.
وعلى الرغم من الانتقادات واللغط حول مفهوم الثقافة القانونية إلا أن المصطلح يتزايد باطراد منذ أن صكه لأول مرة فريدمان لورانس عام 1969 بغض النظر عن الصعوبات فى وضع تصور له وتفعيله.
ثم انتشر المصطلح فى أمريكا فى منتصف الثمانينات نتيجة الدراسات القانونية النقدية ويكاد يكون من الغريب أن هذا المفهوم لا يتساوى مع التأريخ القانونى فهو يعنى فقط المعلومات النظرية للمحامين، بينما فى أوربا وأفريقيا تم تأريخ القانون فى السياق الاجتماعى بتأثير من الثقافة الانثروبولجية.
وتتناول الدراسات العامة في الغالب تاريخ القانون، وليس الثقافة القانونية. ومع ذلك، فإن لها أهمية كنقطة انطلاق، خاصة وأن مفهوم الثقافة القانونية قد تم تطويره من تاريخ القانون وعلى النقيض منه، ومعظمها في تأريخ أمريكا الشمالية. ومن ثم فالثقافة القانونية ليست هى القانون ولكن الطريقة التي تشير بها الجهات الفاعلة إلى القانون وتستخدمه، فإن كلاهما يتفاعل مع الآخر باستمرار. هذا التوتر يجعل المجال واسعا ومعقدا وقد قدمها فريدمان لورانس فى 1975 – المؤسس للثقافة القانونية كعلم – كوسيلة للتأكيد أن القانون قد تم فهمه ووصفه بشكل أفضل كنظام، ونتاج لقوى اجتماعية، ومعبر لتلك القوى نفسها.
وعلى الرغم من أن الفهم الشائع للقانون كقواعد ومعايير سواء مكتوبة أو غير مكتوبة حول السلوك والواجبات الصحيحة والخاطئة. إلا أنه فضل وصفه بالقوى الاجتماعية والتى تشكل الثقافة العامة، العادات والأراء وطرق التفكير والسلوك. وبمعنى أخر حددها بعدد من الظواهر مثل الثقافة العامة و المواقف تجاه النظام القانونى. وقد تبعه عدد من الباحثين من خلال الدراسات الامبريقية بما فى ذلك معلومات الأطفال ومواقفهم القانونى.
وقد يتشابك المفهوم مع مفهوم الوعى القانونى والذى يشير إلى تخطى الأمية القانونية، وتمكين الأفراد فيما يتعلق بالقضايا القانونية، كما يساعد على صياغة القوانين وسيادة القانون. والذى يُطلق عليه فى بعض الدول التربية المدنية والتى تتكون من أنشطة تهدف إلى بناء الوعى العام والمهارات المتعلقة بالقانون ونظام العدالة، بالإضافة إلى الدراسة المتعلقة بتلك الأنشطة، وإلى حركة اجتماعية ومهنية تدعو إلى التزام مجتمعى أكبر لتثقيف الناس حول القانون من أجل إعمال حقوقهم.
وعلى الرغم من الجدل الدائم نظريًا فى الأغلب الأعم، يجد العديد من العلماء صعوبة فى تجنب مفاهيم الثقافة القانونية والوعى القانونى عندما يحاولون التركيز على جوانب القانون التى لا تقتصر على مواد القانون الرسمية كالأحكام والقضايا أو من خلال المؤسسات. ولكن يمكن القول أن الثقافة والوعى القانونى مصطلحان يستخدمان للتأكيد بشكل تحليلى على الطرق الى تتقاطع بها المؤسسات القانونية الرسمية والعلاقات الاجتماعية اليومية والتى تتشارك فى الموارد المعرفية.
وقد اختار فريدمان الثقافة القانونية لتسمية “القوى الاجتماعية التى تعمل باستمرار على القانون” بأنها تلك الأجزاء من الثقافة العامة كالعادات والآراء وطرق العمل والتفكير التى تنحرف بها القوى الاجتماعية نحو القانون أو بعيدا عنه، أما باعتبارها مصطلحا وصفيا فقد حددها بالمعرفة العامة والمواقف تجاه النظام القانونى، وأنماط السلوك فيما يتعلق بالنظام القانونى.
ويفرق فريدمان بين الثقافة القانونية الداخلية والتى تتضمن الأفكار والممارسات للمتخصصين التربويين، وبين الثقافة الخارجية التى تعنى الآراء والاهتمامات والضغط من قبل الجماعات الاجتماعية. والثقافة القانونية شأنها شأن مفاهيم العلوم الاجتماعية التى يصعب قياسها، ولكن مفهوم الثقافة القانونية فى حد ذاته يشير إلى التغيرات السريعة والأساسية فى التغير القانونى الناجم عن التحولات التكنولوجية المتلاحقة.
وتتضافر أيضا التربية القانونية مع الثقافة القانونية باعتبارها الوعاء الذى يتم من خلالها بث الثقافة القانونية للطلاب حيث أنها تهدف فى المقام الأول إلى بناء المعارف والمهارات والمواقف والسلوكيات المتعلقة بحقوق الفرد وواجباته. وتكوين الذات الفاعلة التى تعني الوعي بالمجتمع والمسؤولية تجاهه، ولكن ضمن حيز يتيح لتلك الذات فردية كانت أو جماعيّة القدرة على المبادرة والفعل والتغيير أي على صنع التاريخيّة. ومثل هذا الأمر يتطلّب من المدرسة أكثر بكثير من اختزال دور قطبي العمليّة التربويّة في نشر المعرفة (المعلّم) وتقبّل المعرفة (المتعلّم)، ذلك أن بناء الذات الفاعلة لدى المتعلّم يقتضي ممارسة مغايرة لتلك التي تروم إخفاء سلطة تجعل المتعلّم متقبّلا ومطيعا لا غير.
ومن المعروف أن الأدوار الاجتماعية داخل المدرسة تتأثر بالفضاء الخارجى والعالمى الذى فرضته العولمة والتكنولوجيا الرقمية بشكل عام والسوشيال ميديا بشكل خاص، كذلك الألعاب الالكترونية التى يتنافس الطلاب فيما بينهم. بالإضافة إلى الإعلام والأفلام التى تؤثر بشكل قوى على الطلاب فى أعمارهم المختلفة ويتماهون بها.
وبالتالى فإن هذه الأدوار تختلف أيضا باختلاف الزمن والذى يختلف كل يوم عن سابقه والتى تنعكس بالتبعية على ثقافة الطلاب.
ويرى البعض أن أدوار الطالب تبدأ مع عملية التعلم وكونه محور للعملية التعليمية من خلال عدد من الأدوار الذى يشارك فيها: ميسر من خلال مشاركة فى عملية التعلم ذاتها، وفاعل اجتماعى من خلال العمل مع المجتمع الخارجى لمدرسته، ومحامى من خلال الحرص على المطالبة بحقوقه، ومخطط من خلال الاستفاده من مشاريعه وتعليقاته على الدروس المقدمة والاستفادة منها فى التجديد التربوى، أيضا مٌقيم من خلال آرائه حول ما يتلقاه من خدمة تعليمية أو أنشطة غير صفية، كصانعي القرار من خلال مشاركتهم فى مجلس إدارة المدرسة، ولعب الأدوار المختلفة من المناصب المتنوعة داخل المدرسة، كذلك كقادة نشاط من خلال تشجيع أقرانهم والمجتمع المحلى على الأنشطة المختلفة، بل أيضا بصفتهم صانعي السياسة يمكن للطلاب تحسين النتائج والحفاظ عليها وتقويتها والتأثير عليها من خلال إجراء البحث والتحضير والكتابة ومراجعة إرشادات التعليم والتشريعات والقوانين والسياسات الأخرى.
ولكي يستطيع أن يحقق الطالب ما سبق فيجب أولا أن يتعرف على حقوقه داخل المجتمع والتى كفلها الدستور وبين حقوقه كما وردت فى المواثيق الدولية والتى وقعت عليها مصر.
وتتلخص الحقوق فى: الحق فى تعليم جيد، الحق فى معلم جيد كفء، الحق في التعبير عن رأيه، الحق فى مناخ تعليمى مناسب ( كثافة طلابية، تهوية، إضاءة، فناء مدرسى). الحق فى تنمية الاهتمامات الخاصة من فنون وآداب، الحق فى فرص تعليمية متكافئة لذوى الاحتياجات الخاصة وتوفير البيئة الملائمة لهم ( المبنى المدرسى بكل تفاصيله).
ومن المتعارف عليه أن أى نظام تعليمى قادر على خلق شخصية فاعلة داخل المجتمع من خلال الأنشطة والتنظيمات المدرسية كاتحاد الطلاب ومجالس الفصول والتى تعتبر اللبنة الأولى للثقافة القانونية بمفهومها الواسع باعتبارها أول تنظيم شرعى يخبره الطلاب من المرحلة الابتدائية وحتى نهاية التعليم الجامعى؛ بحيث تهدف إلى التوعية القومية والوطنية، والاندماج مع المجتمع والتعبير عن آرائهم والمشاركة فى انتخابات حقيقة تؤهل الطالب للعالم الديموقراطى. ويلزم الاشتراك من اتحاد الطلاب بالمدرسة المرور بمرحلة انتخابية سابقة على مستوى الفصل. وبالتالى يشارك الطالب الانتخاب عدة مرات ( الفصل، المدرسة، الإدارة، المديرية). مما يساهم بالوعى الديموقراطى فى خطواته الأولى من خلال إبداء الرأى واتخاذ القرار وتحمل المسؤولية، والتعرف على حقوقهم وواجباتهم.
وعلى الرغم من المحاولات السابقة لعمل ذلك إلا أن ما يحدث داخل المدارس يعكس غياب الثقافة والوعى القانونى والذى يؤدى بالتبعية إلى انتهاكات صارخة، كنتيجة – تفترضها الدراسة- عن التغافل والتهاون فى تدريس هذه الثقافة للمعلمين والطلاب وتبصريهم بالعواقب القانونية التى تعرضهم للحبس والغرامات المادية والفصل من التعليم يزيد من العنف.
والعنف هنا يحمل كل من مفهومى العنف الجسدى والنفسى والتنمر سواء من المعلم للطالب أو من الطالب للمعلم أو بين الطلاب أنفسهم أو بين المعلمين أنفسهم.
ففى عام 1998، صدر قانون لتجريم العنف وجاء فى المادة الأولى ” يحظر حظرا مطلقا فى جميع مدارس مراحل التعليم قبل الجامعى بما فى ذلك مدارس التعليم الخاص، إيذاء الطالب بدنيا بالضرب على اى وجه أو وسيلة…” وجاء فى المادة الثانية يعاقب بالفصل النهائى كل طالب يثبت اعتداؤه على أى أحد من المعلمين”
إلا أن التجاوزات المستمرة دفعت الوزارة مرة أخرى إلى إصدار لائحة للانضباط المدرسى عام 2015 بالقرار الوزارى رقم 179 المحددة لحقوق وواجبات الطلاب ومسؤليات أولياء الأمور والتى حددت مهام وحقوق وواجبات المعلمين والطلاب وأولياء الأمور – مع الأخذ فى الاعتبار عدم تحديد عقوبات- والتى تم تعديلها عدة مرات، إلا أنها لم تمنع أى تجاوزات وعنف داخل المدارس المصرية. فقد رصدت بعض المراكز الحقوقية حالات العنف فى سنوات مختلفة، كذلك رصدت الجرائد عدد من حالات العنف والتنمر والاهمال؛ حيث ذكرت جريدة اليوم السابع أن المركز المصرى لحقوق الطفل رصد ست حالات قتل أطفال تترواح أعمارهم بين 6- 12 عاما. وفى الأقصر عاقبت معلمتان طالبتين بالصف الرابع بقص شعرهما لعدم ارتداء الحجاب، بينما قصت معلمة أخرى بالاسكندرية شعر طالبة لعدم إنصاتها للدرس، كذلك قصت معلمة شعر طفل فى الحضانة لتشبهه بالنساء، بينما قص معلم شعر طالب نظرا لطوله بينما قامت معلمة بضرب طالبة وتسببت فى ستة غرز أسفل عينيها.
ولم يقتصر العنف من قبل المعلم، بل أيضا بين الطلاب وأقرانهم؛ حيث توفى طفل فى الصف السادس الابتدائى إثر نشوب مشاجره بينه وبين زميله بسبب أولوية الجلوس داخل الفصل، وفى محافظة أخرى تم حبس ثلاثة طلاب إثر تعديهم بالضرب المبرح على زميل لهم، وفى مدينة السلام قام طالب بالتعدى على زميلة بسلاح أبيض وأصابه بعدة طعنات متفرقة فى جسده.
لذلك فإن انتشار العنف المدرسي ومواجهته يحتاج إلي نشر الثقافة القانونية في التعليم المصري وإتاحة المجال للتلاميذ لممارسة أدوار مختلفة خلال العملية التعليمية ومشاركتهم في تنفيذها وإدارتها بما يغير المناخ الداعم للعنف المدرسي.
🛑 “تنويه: ينشر موقع درب الإخباري ملفات ومقالات العدد الخامس من مجلة التحالف”