مجدي عبد الحميد يكتب: الفأرة الصغيرة (إبداعات )
عندما القوا به في تلك الزنزانة الصغيرة المظلمة، بعد أن أوسعوه ضربا في حفل استقبال مهيب يليق بشخص طال انتظارهم له، و قبل ان يحضروا له ملابس السجن البيضاء ويجردونه من ملابسه المدنية، التي احضروه بها، سمع صوت خافت جدا يشبه صوت سمعه من قبل، وسأل نفسه من أين يأتي هذا الصوت الذي يشبه الأنين في ذلك المكان الموحش، والذي لا تتجاوز مساحته متر عرض ومترين طول، ويخلو تمامًا من أي شئ عدا الجدران الجيرية والأرضية الإسمنتية الجرداء تمامًا ؟
أرهف السمع وإذا بالصوت يأتيه من جيب الجاكيت الذي يرتديه، دس يده في جيبه وهو غير مصدق ما جال بخاطره، ليجدها هي بالفعل الفأرة التي لازمته لمدة أسبوع في ذلك المكان الحقير الذي خبأه فيه زملاؤه في التنظيم قبل أن تصل إليه عيون وأيادي البوليس ويأتون به إلى هنا.
امسك بها بين يديه وسألها بصوت يكاد يكون مسموع، وكأنه ينتظر منها جواب، ما الذي أتي بك إلى هنا ؟ ولماذا قفزتي إلى جيبي بالذات وكان بوسعك ان تختبئين في أي ركن من أركان الشقة المخبأ التي التقينا بها منذ أسبوع مضي؟ أهو غباء في الاختيار؟ أم تري انه رغبة في المغامرة وفضول انتاب تلك الفأرة الصغيرة لمعرفة نهاية القصة التي بدأت منذ ٧ ايّام فقط مع ذلك الرجل ؟
كان يتألم بشدة من آثار حفل الاستقبال الموصي عليه عندما سمع صوت الحراس يفتحون الباب ويلقون اليه، مع قسط لا بأس به من الشتائم والسباب، بتلك الملابس الرثة والمفترض ان تكون بيضاء كما هو متوقع وليست بهذا القدر من القذارة التي طمست لونها تمامًا، مطالبين اياه بان يتجرد من كل ما عليه من ملابس امامهم ليرتدي الزي الرسمي الوحيد المعترف به في ذلك المكان.
فعل ذلك أمامهم وهم يبحلقون فيه دون حياء بينما هو مشغول بفأرته التي سيفتضح أمرها حتمًا وربما تقتل بدون رحمة أمام عينيه.
اخذوا الملابس وألقوا له بجردلين صدأين، الأول به بعض الماء للشرب والثاني من المفترض ان يقضي فيه حاجته واغلقوا عليه باب الزنزانة.
ما هي سوي بضع دقائق إلا و يجد فأرته تتسلل من تحت عقب الباب الضيق عائدة اليه بعد ان نجحت في الفرار دون ان يشعر بها احد لتقف أمامه كما تعودت ان تفعل في الأيام الأخيرة قبل إلقاء القبض عليه مباشرة و بعد ان اعتادا علي الشعور بالأمان والسكينة معًا في ذلك المخبأ الذي جمعهما طوال الأسبوع الأخير، لم يتمالك نفسه من الضحك بصوت مسموع، ذلك الضحك المصحوب بدموع الألم الذي بدأ احساسه به يتزايد مع الوقت.
مر عليهما ليلتين علي هذه الحال، ظلام دامس بالليل وضوء باهت يأتيهما من الفتحة العلوية الصغيرة نهارا، كانت الفأرة تتراقص وتجوب الزنزانة جريًا من حوله وكانها تريد ان تسليه وتروح عنه، و كان هو يأخذ الماء من الجردل الصدأ بين راحتيه، مرة ليروي ظمأه والثانية لها لنفس الشئ. ولما كانت الأوامر هي حرمانه تمامًا من الطعام بحيث أخذ الشعور بالجوع يداهمهما، نظر الي فأرته وشعر نحوها بتأنيب الضمير، فما ذنبها هي كي تحرم معه من الطعام؟ و بدأ يحثها علي الخروج من تحت عقب الباب كما دخلت لكي تبحث لنفسها عن ما يؤدها وتقرر مصيرها بعيدا عنه، فيكفيه ما يعانيه هو، فهو يدفع ثمن اختياراته، ولكن تلك الفأرة المسكينة، ما الذي اقترفته من ذنب حتي تقاسي ما يقاسيه ذلك البني ادم الشقي؟.
خرجت الفأرة بالفعل وغابت طويلا، حتي انه ظن بانها لقت ضالتها وستشق طريقا جديدة في الحياة بعيدا عن ذلك الكائن المأساوي الذي هو، ولكن المفاجأة التي أذهلته هي عودتها وهي تحمل في فمها قطعة كبيرة نسبيا، مقارنة بحجمها، من الجبن لتلقي بها امامه وتعود ادراجها مسرعة، كررت ذلك عدة مرات، وعلي ما يبدو انها عرفت طريقها إلى مخزن ليس ببعيد عن زنزانتهما وذلك قبل ان يراها احد الحراس ويطاردها حيث نجحت بأعجوبة في الفرار منه ولكنها ادركت بحسها الأمني العالي، الشعور باقتراب الخطر كثيرا منها وقررت ألا تعود ثانية.
أخذ يتساءل غير مصدقا ما يراه بعينه، وما كان ليصدقه لو رواه اقرب واصدق الناس له، أيمكن ان يحدث ذلك ؟ محدثًا نفسه، اتستطيع الفأرة ان يكون لديها تلك المشاعر والاحاسيس ؟ أهو العرفان بالجميل ؟
اتتكبد الفأرة كل تلك المشاق لمجرد انه عطف عليها وكان يترك لها بقايا طعامه علي مدي الأسبوع الذي قضياه معًا ؟، هو لم يفعل شئ سوي انه كان يضع الطعام لها في مكان مرأي و يبتعد كيما تشعر بالامان وتأتي لتسد جوعها دون مطاردة او ملاحقة، أيمكن ان يتسبب الشعور بالامان بتولد مشاعر الحب والتضحية لدي كائن صغير مثل تلك الفأرة ؟ و تجاه من ؟ تجاه كائن اخر ليس حتي من بني جنسها ؟.
صحيح ان قطع الجبن الصغيرة التي كانت تحملها الفأرة في فمها الدقيق لم تكن بقادرة علي ان تشفي او تسمن من جوع ولكنها فعلت ما هو اهم من ذلك بكثير، لقد وهبته إرادة الحياة و الإصرار علي البقاء والخروج من السجن حيا، و لم يعد يفكر في اي شئ آخر سوي أن يروي حكاية تلك الفأرة الصغيرة ولو لشخص واحد فقط ثم يحدث معه اَي شئ في الوجود، و شعر كأن رسالته في الحياة ستكتمل وتصل الي نهايتها برواية تلك القصة التي لخصت له شخصيا وبشكل مكثف معني وجوده في هذه الحياة.
مجدي عبد الحميد
٢٩ مارس ٢٠٢٠