كيف ساهمت “كورونا” في “سرقة” أجور العمالة المهاجرة في الخليج؟ مئات الآلاف محرومون من مستحقاتهم
بي بي سي
من منجالور في جنوب الهند، قدم صدّيق شهاب إلى الخليج عام 1982، بحقيبة صغيرة شبه خالية ونية للعمل في إحدى أكبر شركات المقاولات، ليجمع مصاريف زواجه.
لم يكن صدّيق يعرف طيلة هذه السنين، التي عمل فيها مشرفا كهربائيا، أنه سيعود للمرة الأخيرة في مارس 2021، إلى عائلته خاوي الوفاض بعد أن ظل يعمل في آخر 18 شهرا من دون أجر، ترك صدّيق مجبرا 48,900 دولار أمريكي في ذمة الشركة، هي إجمالي متأخرات رواتبه ومستحقات نهاية خدمته.
تحكي قصة المهاجر صدّيق مشكلة مئات الآلاف من العمالة المهاجرة في دول الخليج الذين تتناقل وسائل إعلام حرمانهم من أجورهم ومستحقاتهم.
ورغم وجود قوانين منظمة للعلاقة بين الطرفين، إلا أنها مليئة بالثغرات التي ينفذ منها أرباب العمل إن أرادوا. ورغم توفر آليات لرفع الشكاوى والتقاضي، إلا أن صعوبات مختلفة تحول دون استفادة العمال المهاجرين منها لنيل حقوقهم.
يقول وليام جويس، رئيس ملتقى المهاجرين في آسيا: “واجهنا تحديات من بعض الأطراف التي رفضت اعتماد مصطلح سرقة الأجور وفضلت اعتماد عدم دفع الأجور، غير أن ما يحدث هو أكبر بكثير من مجرد عدم دفع للأجور”.
“إنه سرقة منهجية لأجور الملايين من العمال المهاجرين الذين قضوا أيامهم في خدمة بلد المقصد وساهموا في تطوره. إنه أزمة لإنسانيتنا لأننا لا نرى ما يحدث كما يجب لكي نوجهه بالشكل المناسب”.
وتكشف أرقام سعودية رسمية عن وجود 1.2 مليون عامل متأخرة أجورهم، يشكلون 8.3% من إجمالي القوى العاملة في البلاد التي يشكل المهاجرون 79% منها.
وهذا مؤشر على مشكلة دفع الأجور في الخليج، إذ تشكّل القوى العاملة في السعودية نحو 50.2% من إجمالي القوى العاملة في الخليج. وتنفرد السعودية، وهي الدولة الخليجية الوحيدة الموقعة على اتفاقية حماية الأجور لعام 1949، بـ 47.3% من قوة العمل المهاجرة في المنطقة.
فئات ضعيفة
إلى جانب العمال النظاميين الذين، رغم احتمائهم بعقود عمل، يتعرضون لسرقة الأجور، هناك مئات الآلاف من العمالة غير النظامية التي تعد الأكثر عرضة للتضرر، كونها خارج مظلات التغطية القانونية، ويشار لهذه الفئة بـ “العمالة السائبة” أو “الفري فيزا”.
ولا توجد في الخليج أرقام واقعية لهذه الفئة، إذ أن سجلات الهجرة تظهر فقط أولئك المنتهية صلاحية إقامتهم، أو الذين ألغيت إقاماتهم من قبل الكفيل.
ويصبح الأمر أكثر خطورة بوجود تهمة “هروب” مسجلة ضد العامل، وهؤلاء “المتهمون بالهروب” هم الأشد خوفا من انكشاف أمرهم، بغضّ النظر عن سبب الهروب، ذلك لأن عقوبات هذه التهمة في دول الخليج تتراوح ما بين التوقيف والترحيل إلى الإدراج على القائمة السوداء، ولذلك فإن هؤلاء الذين يعملون في الخفاء هم أكثر عرضة للاستغلال ولسرقة الأجور.
ويندرج تحت فئة “الفري فيزا” شكل آخر يفرزه استغلال نظام الكفالة للمتاجرة بالتأشيرات. فيستقدم المهاجرون بموجب تأشيرة عمل، ومن ثم يسرّحون في سوق العمل مقابل مبالغ تصل إلى 3,700 دولار أميركي يدفعها العامل للكفيل كل عامين، بعض العمال يأتون اختياريا، وهم يقبلون بالوضع بسبب وطأة الحاجة ووعود السماسرة بفرص العمل الوفيرة.
وتنضم لفئة العمالة المهاجرة المعرضة لسرقة الأجور، العمالة المنزلية، خصوصا الإناث منها، والتي تشكل 25% من إجمالي العمالة المهاجرة في دول الخليج.
كورونا و”القوة القاهرة”
أبرز وباء كوفيد-19 الوجه الأسوأ لمشكلة عدم دفع أجور العمال المهاجرين في الخليج، إذ رغم أنهم دعامة سوق العمل في الخليج (يشكلون 83,8% من القوى العاملة)، إلا أن استجابة الدول للوضع غير المسبوق الذي سببه الوباء للاقتصاد، لم تضعهم في أولوياتها.
سارعت الدول لمساعدة القطاع الخاص بتفعيل مواد “القوة القاهرة” في قوانينها لتسمح للشركات المتضررة بتخفيض رواتب العمال أو إجبارهم على أخذ إجازات مدفوعة أو غير مدفوعة فيما بدا من الناحية القانونية وكأنه مخرج قانوني لإجازة سرقة الأجور في فترة الوباء.
وفي الوقت نفسه، ساعدت الحكومات هذه الشركات في دفع أجور المواطنين، وترك المهاجرين وحدهم عرضة للتضرر من إجراءات “القوة القاهرة”.
وقدّرت مؤسسة التصنيف الائتماني “ستاندرد أند بورز” انخفاض عدد سكان دول الخليج الست بنسبة 4% خلال عام الوباء وعزت ذلك إلى تزايد معدلات فقدان الوظائف في الخليج.
ويعد نزوح المهاجرين من دول الخليج نهائيا خلال فترة الوباء مؤشرا على ظرف غير اعتيادي دفع هؤلاء للخروج، إما اضطرارا بسبب إنهاء خدماتهم، أو خوفا من الاضطرار لذلك لاحقا في ظل إجراءات الحماية التي تم استثناؤهم منها خلال فترة الوباء، وما رافقها من تصريحات حكومية حثت مؤسساتها على تسريع إحلال اليد العاملة الوطنية، وتقليص العمالة المهاجرة.
واستنفر هذا النزوح المقلق المنظمات الحقوقية العمالية المحلية والدولية التي أطلقت حملة عالمية تدعو لآليات قضائية عاجلة لاسترداد أجور العمال الذين عادوا دون استلام مستحقاتهم، وللفت انتباه العالم لهذه الممارسات.
ووثّق ملتقى المهاجرين في آسيا حالات سرقة أجور عمال مهاجرين بلغت 1465 حالة في جميع دول الخليج، خلال الفترة من يونيو 2020 وحتى مايو 2021.
مؤشرات الاتجار بالبشر
يكشف التحقيق عن وجود 8 مؤشرات على الأقل من أصل 11 من مؤشرات العمل القسري الذي يعد شكلا من أشكال الاتجار بالبشر بحسب منظمة العمل الدولية.
إذ رصد محامون عدة أشكال لسرقة الأجور في المنطقة تتفاوت في شيوعها. وتبدأ سرقة الأجور من بلد المنشأ بتقاضي رسوم التوظيف، وبعدها تبديل الاتفاقية بأخرى بعد الوصول. وبالإضافة إلى الأجر الشهري، تطال السرقة بدلات العمل الإضافي ومستحقات إجازات نهاية الخدمة، كما يتعرض العمال للابتزاز باحتجاز جوازات سفرهم.
ويتحايل بعض أرباب العمل على القوانين عبر الاحتفاظ ببطاقة الصراف الآلي الخاصة بالعامل في الدول المطبقة لنظام حماية الأجور، وسحب الراتب من الصراف بدلا عن العامل، بالإضافة إلى تضرر عدد كبير من العمال العالقين في دولهم أثناء الوباء ممن انتهت تأشيراتهم واستغني عنهم ولم يعد بإمكانهم العودة.
الغول الأكبر
ويعزى جانب كبير من اختلال ميزان القوة بين العمالة المهاجرة وأرباب العمل إلى نظام الكفالة الذي يشكل العلاقة القانونية بين رب العمل والعامل والدولة، ولا يمكن لأي عامل الدخول أي دولة خليجية دون أن يتمتع بكفالة مؤسسة أو مواطن فيها. ويتحكم النظام في شيئين أساسيين يقيدان حرية العامل: تغيير الوظيفة والسفر.
أدخلت دول الخليج تعديلات على تشريعات الكفالة محتفية بـ”إلغاء” نظام الكفالة، لكن عند الغوص في التعديلات يتضح أنها طفيفة وذات إجراءات معقدة ولا تكف يد رب العمل عن تقييد العامل، وأنها لم تُلغِ بشكل كامل سوى موافقة رب العمل لخروج العامل من البلد في أربع دول من أصل الدول الست.
وظلت موافقة رب العمل أساسية لدخول العامل للبلد. وكذلك قدرته على تغيير الوظيفة ما عدا البحرين والسعودية حيث يسمح بذلك بشرط مرور عام على العمل لدى الكفيل الأصلي، ولا يسمح في الدول الأخرى إلا بعد مرور عامين وأكثر أو بانتهاء مدة العقد، ولا يسمح لعمالة المنازل بتغيير الوظيفة إلا بعد انتهاء العقد أو عند وجود انتهاكات.
واعتبر محام كويتي، فضَّل عدم ذكر اسمه، أن نظام الكفالة “يُجبر” أرباب العمل على التصرف بشكل سيء للمحافظة على ديمومة أعمالهم، وهذا الخلل يمكن إصلاحه إذا ما أصبح العامل كفيل نفسه.
آليات إنصاف متطورة… ولكن
تتشابه دول الخليج في آليات الشكوى والتقاضي لكن المهاجرين يواجهون صعوبات عند اللجوء إليها، أولها لاعتمادها على اللغة العربية. أما التحدي الأكبر الذي يواجههم فهو فقدان الوظيفة عندما يتقدم العامل بشكوى ضد رب العمل، وهو السبب الرئيسي في تحمّل العمال لقدر كبير من الإساءة قبل أن يتوجهوا للقضاء.
فعلى العامل أن يتدبر معيشته خلال فترة التقاضي. بالإضافة إلى عبء التنقل لمتابعة الجلسات، وقد تتحمل عاملات المنازل هذا العبء بدرجة أكبر، لأن خروج العاملة من منزل رب العمل للشكوى يعرضها لتهمة الهروب، وهي الطريق الأقصر لأرباب العمل المسيئين للتخلي عن مسؤولياتهم، علاوة على صعوبة الحصول على مأوى حتى يتم تسوية الشكوى أو الحكم في قضيتها.
وقال محام سعودي، فضَّل عدم ذكر اسمه، إن “مقاضاة صاحب العمل يعد مكلفا ويستغرق وقتا طويلا لمعظم ضحايا سرقة الأجور. خصوصا أن صدور الحكم لصالح العامل لا يعني أن الشركة ستتوقف عن عدم دفع الأجور، ذلك لعدم وجود مساءلة صارمة بعد إغلاق القضية”.
نظام يعاقب لكنه لا يعوّض
ينتقد الباحث، راي جريديني، أنظمة حماية الأجور في الخليج قائلا إنها، حتى الآن “ليست مصممة لحماية الأجور، وتعمل للتأكد من وجود سجل لأجور العمال المدفوعة في وقتها. وربما يُدفع لأغلب العمال أجورهم وبانتظام، إلا أنه يترك عددا من الأبواب مفتوحة لأرباب العمل عديمي الضمير باستغلال النظام لصالحهم وإيقاع الضرر بعمالهم”.
وتخشى أستاذة الاقتصاد بجامعة لاهور، نصرت شاه، التي أمضت 30 عاما أستاذة في قسم علم السكان بجامعة الكويت، أن تتدهور الأمور أكثر “فالوضع يبدو غير جلي، وكلما طالت المدة التي يظل العمال خلالها في أوضاعهم غير النظامية تتفاقم أوضاعهم”.
قام صدّيق قبل مغادرته، بمساعدة إحدى جمعيات المجتمع المدني، بتوكيل محام ليرفع دعوى للمطالبة بمستحقاته. ولايزال المحامي بعد مرور 7 شهور من توكيله حتى نشر التحقيق يحاول الحصول على مستحقات صدّيق وزملائه أمام القضاء، دون جدوى، وتقول سامريها ابنة صديق “والدي لم يعد كما كان عندما يزورنا سابقا، فهو شارد الذهن دائما ويشعر بالظلم والخيبة”.