كل ما تهل البشاير| يناير شهر الفرقان: حركات طلابية وانتفاضات جماهيرية وثورات شعبية.. المجد للذين قالوا لا
كتب – أحمد سلامة
“كل ما تهل البشاير
من يناير كل عام
يدخل النور الزنازن
يطرد الخوف والظلام
يا نسيم السجن ميل
ع العتب وارمي السلام”
حين تتوارى كلمة “الشعب” خلف رغبات السلطة وانحيازاتها، حين تتظاهر الأنظمة بالتعبير عن الناس لكنها تقطع ألسنتهم لأنها تخشاهم؛ ترتعد من أنينهم فتكمم أفواههم، حين تستخدم الحكومات مساحيق الديقراطية فقط لتجميل الصورة أمام المجتمع الدولي، حين لا يعرف طريق البناء “المزعوم” سوى جيوب الفقراء واللقمة بين أيديهم.. حين ذلك تأتي الصرخة.
مايزال شهر يناير يحمل بين أيامه ذكريات أصبحت علامات بارزة في تاريخ الشخصية المصرية، علامات مضيئة يتم توارثها شعبيًا بعيدًا عن “الرواية الرسمية” التي تناهض كل ما هو شعبي.. تلك الرواية الرسمية التي تكره مجاهرة الناس بآلامهم أو طموحاتهم، فليس على المحكوم سوى أن يطيع أوامر حاكمه.
في التاريخ المعاصر، يشهد شهر يناير على كلمة “لا” التي قالها الناس، قالوها رفضًا للتقصير في نُصرة الوطن، أو قالوها احتجاجا على سحق الغلابة، أو قالوها في مواجهة سلطة فسدت وأفسدت على مدى عقود.
“الحركة الطلابية” و “انتفاضة الخبز” و “ثورة يناير”، تلك قناديل تنير طريق الشعب للبحث عن التحرر الوطني وعن العدالة الاجتماعية وعن الكرامة الإنسانية، تبحث عن الأفضل حتى وإن حاولت السلطة طمسها.. تُجدد السؤال دومًا: ألسنا أمة تستحق الحياة؟
( 1 )
“من سكون السجن صوتي، نبض قلبي من تابوتي..
بيقولولك يا حبيبتي كلمتي من بطن حوتي”
في يناير عام 1972، وقف الرئيس الراحل محمد أنور السادات ليهدم الطموحات، فقد تحول “الحسم” إلى “ضباب”، القضية الوطنية الأبرز في ذلك التوقيت وتحرير سيناء من الاحتلال الصهيوني -ضُربت في نظر طلاب الجامعة- ضربة موجعة بتأجيل المعركة.
سرعان ما جاء الرد في مؤتمر للطلبة في 15 يناير، حيث نُشرت آلاف المنشورات وصحف الحائط التي تنتقد الخطاب،وترفض استمرار حالة اللا سلم واللا حرب، وتطالب بخوض حرب تحرير شعبية شاملة لاستعادة الأراضي المحتلة بالقوة.. لم تتوقف المطالب عند هذا الحد، بل تطرقت إلى الديمقراطية، وتشجيع حرية الصحافة، فضلًا عن قيام اقتصاد حرب، تقدم فيه كل طبقة اجتماعية تضحيات نسبية تُحدَّد على أساس قدرتها على المساهمة.
تصاعدت حدة الحركة الاحتجاجية، ونُظمت المسيرات، وقامت الاتحادات الطلابية لكليات الآداب والاقتصاد والهندسة بالمسيرات والاجتماعات الجماهيرية، ووصلت إلى بيت الرئيس نفسه، ولمقر الاتحاد الاشتراكي، وتحول الاحتجاج إلى اعتصام.
في شهادته على الأحداث بعد 50 عامًا، يروي أحمد هشام ما حدث في تلك الأثناء.. “السبت 15 يناير 1972.. اجتماع مصدري مجلات الحائط: كانت بداية الأحداث والشرارة التي أدت لاعتصام 1972 مقالة بمجلة المعركة التي يصدرها سامي البرنس طالب قسم كهرباء بعنوان (سيدى الرئيس ليتك لم تتكلم)، تناولت بالنقد كل ما قدمه السادات من تبرير فى خطابه والذي برر فيه سبب عدم الحسم، هو نشوب الحرب بين الهند وباكستان والتي وصفها بأنها الضباب الذي منعنا من قتال إسرائيل، بمجرد تعليق المقالة تزاحم حولها الطلبة، وبدأت المقالات ورسوم الكاريكاتير تتوالى عن عام الحسم والضباب والحرب، ولم يسلم الأمر من ظهور مقالة كتبها طالب محسوب على اتحاد الطلبة، تحدث فيهاعن الأسلوب الغوغائي في تناول عام الحسم، ودافع عن وجهة نظر السادات، وبدأ اتحاد الطلبة في محاولة لمنع استمرار وتصاعد حركة الانتقاد، تزايدات الأعداد حول مجلات الحائط، وبدأت ظاهرة عدم حضور المحاضرات، وانتظم الطلبة في حلقات عديدة للنقاش”.
تصاعد تفاعل الطلاب مع الأزمة، وأصدروا بيانًا رفضوا فيه كل مشاريع الحلول السلمية لحل الصراع مع إسرائيل.. الحكومة من جانبها حاولت التهدئة بعدة إجراءات كان أولها إرسال «أحمد كمال أبو المجد» أمين الشباب بالاتحاد الاشتراكي العربي للحوار مع الطلبة والرد على أسئلتهم، إلا أنه لم يتمكن من الرد على هذا الكم من الأسئلة الجريئة، وأعلن أن الرئيس وحده هو الذي يستطيع الرد عليها، فما كان من الطلبة سوى أن قاموا بطرده.
يوم الأربعاء 19 يناير صمم الطلبة على الاعتصام.. في تلك الأثناء حاول السادات اتخاذ مزيد من الإجراءات لتهدئة الحركة الطلابية بعدة قرارات أصدرها لامتصاص الغضب، فأجرى عددًا من التغيرات بالحكومة، وشرع في إعداد الاقتصاد لمعركة التحرير، وفتح باب التطوع للجيش أمام الطلاب، إلا أن ذلك لم يُغير من موقف الحركة شيئًا، التي رأت أنها إجراءات عديمة الجدوى.
مع الزخم الذي أحدثته الحركة الطلابية في تلك الأيام بجامعتي القاهرة وعين شمس، رأت الحكومة أن عليها أن تتدخل بشكل “أكثر جدية” لإنهاء تلك الحالة خوفًا من امتدادها إلى الشارع، ومع فجر يوم الاثنين 24 يناير اقتحمت قوات الأمن المركزي مقار الاعتصامات واعتقلت نحو 1000 من الطلبة المعتصمين.. وبالرغم من منع هؤلاء الطلبة من الهتافات فإنهم كانوا يطلقون الصفافير التى تؤدى نشيد «بلادى… بلادى… لك حبى وفؤادي»، وكان في مقدمتهم أحمد عبد الله رزة.
في صباح اليوم نفسه (24 يناير) فوجئ الطلبة باعتقال زملائهم فانطلقوا إلى الشوارع واحتل نحو 20 ألف طالب ميدان التحرير، وانضم إليهم الكثير من المواطنين، حيث أعلنوا الاعتصام حتى يتم الإفراج عن زملائهم المحتجزين والاستجابة لمطالبهم، وتعالت الأصوات وانتشرت أغاني الشيخ إمام في ميدان التحرير، التي كتبها رفيقه أحمد فؤاد نجم خلال تلك الأحداث: «أنا رحت القلعة» و«رجعوا التلامذة»، و«جيفارا مات».
نعود إلى القيادي الطلابي أحمد هشام الذي قال في شهادته “عند الفجر استيقظت على جلبة، عندما رفعت رأسي لاستوضح ما يحدث، فوجئت بصوت يصيح من خلال مكبر صوت، عرفنا بنفسه، ثم قال (كل واحد يقعد مكانه..مش عايز ولاحركة.. سلموا نفسكم)، كان المتكلم ضابط رفيع الرتبة يقف عند مدخل القاعة، وحوله أفراد من الأمن المركزي، بدأ الطلبة يستيقظون، تجمعنا في الكراسي الأمامية للقاعة متقاربين، نلتمس الدفء والقوة والشجاعة من بعضنا البعض، الوحيد منا الذي اتجه صوب المنصة، وجلس على كرسيه الذى احتله طوال أيام الاعتصام، كان احمد عبد الله، رئيس اللجنة الوطنية أمسك بالميكرفون، ووجه حديثه إلينا طالبا الهدوء وعدم الاشتباك مع المقتحمين، ثم وجه حديثه إلى قائد قوة الاقتحام معرفا بنفسه مثلما عرف الضابط نفسه، وعندما أعاد الضابط الأمر بأن يسلم الطلبة أنفسهم، طالبه بأن يوجه الكلام إليه باعتباره ممثلا للطلبة، وأجابه بأننا سنسلم أنفسنا بشرط الحصول على إيصال بالاستلام، عندها خرج من خلف المسرح طالب استيقظ من نومه متأخرا، بعد أن نام ليلته مستخدماً ستارة المسرح كغطاء يقيه من برد ينايرالقارس، يسأل (هو فيه إيه؟).. ساعتها علت وجوهنا ابتسامة أزالت رهبة الاقتحام المفاجئ والعنيف للقاعة، وعدنا كما كنا طوال أيام الاعتصام طلاب عدل وحرية، وعلي استعداد لمواجهة عواقب حب الوطن وناسه”.
يستكمل هشام “طلب الضابط أن نسير فى طابور إلى خارج القاعة، خرجنا من الباب الجانبي، ساعتها دقت ساعة الجامعة 6 دقات، وفجأة ارتفع من بيننا صوت صفير بلحن نشيد بلادى بلادى، وبدأ أحدنا فى الغناء، شارك الجميع ونحن نسير بين صفين من عساكر الأمن المركزى.. مشهد يصعب وصفه، صوت دقات ساعة الجامعة تنساب في صباح يوم من أيام يناير شديد البرودة، شبورة تلف المكان، طابور طويل لشباب يغنى للوطن، رباط أقوى من رباط الدم يربط بينهم، يقين داخلي يضمن تحقيق الأماني، ضباط وعساكر الأمن المركزى صامتين، لا قسوة أوتحفز فى عيونهم”.
( 2 )
“لما قامت مصر قومة بعد ما ظنوها نومة
تلعن الجوع و المذلة و المظالم و الحكومة”
“يا حاكمنا فى عابدين فين الحق وفين الدين”، “سيد مرعى يا سيد بيه كيلو اللحمة بقى بجنيه”، “هم بيلبسوا آخر موضة واحنا بنسكن عشرة في أوضة”، “هما ياكلوا حمام وفراخ وإحنا الفول دوّخنا وداخ”.. شعارات رفعها الملايين فى انتفاضة الخبز خلال يومي 18 و 19 يناير عام 1977.
قبيل عام 1977، وعلى مدى سنوات تلت حرب أكتوبر وما صاحب ذلك من تقشف اقتصادي صاحب معركة التحرير، وعد الرئيس السادات بما وصفه بـ”الرخاء الاقتصادي، لكن ما حدث كان على العكس تمامًا من ذلك.. ففي يوم 17 يناير فوجئ الشعب المصري بـ”إصلاحات اقتصادية” أعلنها نائب رئيس الوزراء للشئون المالية والإقتصادية الدكتور عبد المنعم القيسوني أمام مجلس الشعب.. القرارات شملت رفع الدعم وزيادة أسعار العديد من السلع الرئيسية منها الخبز والشاي والأرز والسكر واللحوم والمنسوجات، وغيرها من السلع الضرورية بنسبة تصل إلى الضعف.
بدأت الانتفاضة بعدد من التجمعات العمالية الكبيرة في منطقة حلوان بالقاهرة في شركة مصر حلوان للغزل والنسيج والمصانع الحربية وفي مصانع الغزل والنسيج في شبرا الخيمة وعمال شركة الترسانة البحرية في منطقة المكس بالإسكندرية وبدأ العمال يتجمعون ويعلنون رفضهم للقرارات الاقتصادية وخرجوا إلى الشوارع في مظاهرات حاشدة تهتف ضد الجوع والفقر وبسقوط الحكومة والنظام.
في اليوم التالي، اشتعل بركان الغضب، لعمال وطلبة وموظفون حتى السيدات شاركن في رفض القرارات، اندلعت المظاهرات وردد الناس هتافات الغضب ضد ممدوح سالم وزير الداخلية وضد سيد مرعي عضو مجلس الشعب وضد كثيرين ممن كانوا على رأس نظام الحكم ومن أسوان إلي الاسكندرية خرجت المظاهرات، وسقط القتلي والمصابون – 79 قتيلا و214 جريحا حسب الرواية الرسمية- وأعلنت حالة الطوارئ وتدخلت القوات المسلحة لإعادة الانضباط، ولم يكتم السادات غضبه.
كان السادات أول من حمّل الشيوعيين مسئولية الأحداث وكثيرا ما أشار الي ذلك في أحاديثه الرسمية وغير الرسمية، ورفض وصفها بـ”الانتفاضة الشعبية” وأصر على اطلاق وصف “انتفاضة الحرامية”، وهكذا تحولت الرواية الرسمية إلى وصم “الفقراء” بـ”اللصوص” فقط لأنهم عبّروا عن غضبهم.
لكن السادات، وبرغم ذلك، كان لديه من الذكاء السياسي ما دفعه لإلغاء القرارات.. حول ذلك قال الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين شعبان “السادات وقت انتفاضة الخبز تصرف بذكاء علي مستويات عديدة حيث نزع فتيل الانفجار بسحب قائمة الأسعار المرتفعة وأمر الجيش المصري بالنزول وبعد ذلك شن حملة تشويه واسعة جدا وقال إن سبب المظاهرات هم الشيوعيون ووصفهم بالمخربين.. ولأن الناس انتفضت لخفض الأسعار فلقد أشعرهم أنهم انتصروا وبالتالي عادوا إلى منازلهم وفي الوقت ذاته شن حملة اعتقالات موسعة للناشطين السياسيين ليكونوا كبش الفداء لـ 79 شهيد مصري سقطوا في تلك الأحداث”.
وإذا كانت المظاهرات قد بدأت صباح يوم 18 يناير من منطقة حلوان، حيث توقفت المصانع وأعلن العمال الإضراب و مطالبة الحكومة بإلغاء قراراتها، إلا أن ما أعطى تلك التظاهرات زخما كان خروج احتجاجات من كلية الهندسة بجامعة عين شمس، وهي التظاهرات التي خرجت ظهر اليوم نفسه متجهة لمجلس الشعب وانضم إليهم عدد من العمال والموظفين، وتصدت لهم قوات الأمن المركزى مستخدمة القنابل المسيلة للدموع.. ثم توالى خروج الجماهير من الإسكندرية إلى أسوان.
كالعادة، قابل النظام هذه المطالب بتجاهل شديد في البداية، وحاول تفسير الأحداث بأنها مجرد مؤامرة على نظام الحكم، حيث أكدت وزارة الداخلية أن الأمور عادت لطبيعتها، وأنها وضعت يدها على القوى المحركة لهذه الأحداث، متمثلة في العناصر الشيوعية والناصرية، ومن ثم القبض على القيادات وعدد كبير من المعارضة السياسية للحكم.. غير أن المظاهرات تجددت مرة أخرى يوم 19 يناير، بشكل أكثر عنفاً وضراوة.
ردًا على ذلك، أغلق السادات بعض الصحف والمجلات التي تحاول كشف حقيقة المظاهرات الشعبية، وأُصدِرَ قانون رقم 2 لسنة 77 في 3 فبراير 1977، ليجرم الكثير من الممارسات الديمقراطية ومحاصرة العمل السياسي، ما أعطاه المساحة كاملة ليصف الاحتجاجات بأنها “انتفاضة حرامية” دون صحافة حرة تحقق في الواقعة وترصد أبعادها الاقتصادية بصدق.. غير أنها بقيت في وجدان الشعب انتفاضة شريفة قامت ضد التجويع.
الكاتب الراحل صلاح عيسى، يؤكد في شهادته أن انتفاضة الخبز بدأت دون تنسيق مسبق، ويضيف “السادات كان يريد أن يصنع انفتاحاً اقتصادياً وطفرة رأسمالية بالبلاد قبل 18 يناير، إلا أن النظام بعد انتفاضة الخبز قرر أن يكمم الأفواه الديمقراطية وقرر أيضًا أن يحمل اليسار المصري المسئولية كاملة ولكن هذا غير صحيح”.. وشدد حينذاك على أن “الانتفاضة هي ثورة شعبية خالصة، وليس كما صورها الاعلام آنذاك، أنها انتفاضة حرامية”.
( 3 )
“حد فيهم كان يصدق بعد جهل و بعد موت
إن حس الشعب يسبق أي فكر وأي صوت”
تمر السنوات ومازالت المطالب كما هي، منذ الحركة الطلابية مرورًا بانتفاضة الخبز وحتى انتهاء العقد الأول من الألفية الجديدة، سنوات ثقيلة بطيئة راكدة، ومعاناة جامدة لا تذوب في ملح الأيام.
“عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية”، الشعار الأبرز لثورة شعبية انطلقت في الخامس والعشرين من يناير عام 2011، مازال البحث جاريًا كل تلك السنين عن الخبز وعن الحرية وعن العدالة.
احتجاجًا على الأوضاع السياسية والاقتصادية، وتدهور الأحوال المعيشية، والفساد الإداري.. انطلقت الدعوات للتظاهر عبر مواقع التواصل الاجتماعي.. قانون الطوارئ المعمول به منذ عام 1968 -باستثناء 18 شهرًا في أوائل الثمانينات- كان أحد الأسباب المباشرة في الثورة إضافة إلى أسباب أخرى كان أبرزها الانتخابات البرلمانية في عام 2010 والتي أسفرت عن اكتساح غير مستحق للحزب الوطني الديمقراطي بـ 97% وعنف أجهزة الأمن وتغول الأجهزة السيادية وارتفاع معدلات الفقر وازدياد معدلات البطالة.
“لماذا اندلعت الثورة المصرية؟ ولماذا تأخرت حتى هذا التاريخ؟”.. مقال للعالم السياسي والمؤرخ المصري “توفيق أكليمندوس” رأى فيه أن الإجابة على هذا السؤال معقدة خاصة أن نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك كان يواجه أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية عدا المشاكل الأخلاقية والاجتماعية.
يرى الكاتب أنّ الثورة هي وليدة أزمات عديدة: الأزمة الاقتصادية الاجتماعية والمتعلقة بالإصلاحات في ظل نظام يستشري فيه الفساد، وأزمات سياسية لها أوجه عديدة خاصة المتعلقة بالتوريث السياسي، وتحت هذا العنوان تنضوي أيضا مشاكل هيكلية في النظام السياسي ومنها “الزبونية”، وأخرى أمنية متمثلة بممارسات الشرطة المصرية التابعة لنظام مبارك، الأمر الذي أدى الى اشتداد العنف والفساد.
أما الأزمة المجتمعية فهي متمثلة بحسب الكاتب بوجهين، الوجه الأول مادي والثاني رمزي، وذكر الكاتب الوجه المتعلق بأشكال السلطة، مركزا على ما أسماه بـ”بطريركية العائلة النووية”، واعتبر أن المشاكل الأخلاقية والاجتماعية لها “علاقة طردية” بكل أشكال السلطة في مصر.
صيف عام 2010 شهد اعتداء الشرطة على المدون المصري خالد سعيد، هذه الحادثة أدت إلى غضب شعبي وبالتالي إلى خلق صفحة “كلنا خالد سعيد” على مواقع التواصل الاجتماعي، مستقطبة مليون متابع، تعبيرًا عن السخط من هذه الجريمة.. أما العامل الثاني الذي أدى إلى تشكيل نقطة مفصلية في تحول الأحداث فكان مع النتائج “المشينة” للانتخابات التشريعية.
وفي 25 يونيو قاد محمد البرادعي، المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية تجمعا حاشدا بالإسكندرية منددا بانتهاكات الشرطة، ثم زار عائلة خالد سعيد لتقديم التعازي، وبعد واقعة خالد سعيد تُوفي شاب آخر في الثلاثين وهو السيد بلال أثناء احتجازه في مباحث أمن الدولة في الإسكندرية، وترددت أنباء عن تعذيبه بشدة، وانتشر على نطاق واسع فيديو يُظهر آثار التعذيب في رأسه وبطنه ويديه.
بناء على هذه العوامل قامت أجهزة الشرطة بالتحذير بأن شهر ديسمبر قد يشهد تفجرًا في الأحداث، وهو العام الذي يشهد الانتخابات الرئاسية المقررة والتي كان يحل موعدها في منتصف عام 2011، بعد انتخابات سابقة أجريت في 2005 شهدت العديد من المهازل.
من المفارقات أن الثورة اندلعت متزامنة مع عيد الشرطة التي كانت ممارستها سببا رئيسا في إشعال الفتيل الأول لهذه الغضبة العارمة، وقد اندلعت كثاني ثورة في ثورات الربيع العربي بعد الثورة التونسية، وضمت الثورة جميع الأطياف السياسية والمجتمعية والحركات الثورية مثل حركة كفاية التي تأسست قبل الثورة بسنوات، وطالبت بالتغيير ثم حركة شباب 6 أبريل ومجموعات الشباب عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
“يا أهالينا انضموا لينا”.. تصدر الشباب التظاهرات، وواجهوا الشرطة بصدور عارية، واستمر صمودهم أيام 25 و 26 و 27، لتتفجر الأوضاع في الجمعة 28 يناير مع الخروج الكثيف للمتظاهرين من كل فج عميق.
المصادمات أدت إلى انسحاب الشرطة أمام جموع المحتشدين، فشكل المواطنون “لجان شعبية” للقيام بالدور المنوط بأجهزة الأمن التي تخلت عن مواقعها، واستمر الاعتصام في ميدان التحرير وسط شد وجذب مع النظام كان التجسيد الأكبر له في “معركة الجمل” غير أن الأمور انتهت (شكليا) إلى سقوط النظام وإعلان مبارك التنحي.
“هناك لحظات نادرة فى حياتنا, نتمكن فيها من مشاهدة التاريخ أثناء صياغته, وثورة مصر إحدى هذه اللحظات, فالناس فى مصر تحدثوا, وصوتهم سمع, ومصر لن تكون أبدا كما كانت”، “المصريون ألهمونا وعلمونا أن الفكرة القائلة أن العدالة لا تتم إلا بالعنف هى محض كذب, ففى مصر كانت قوة تغيير أخلاقية غير عنيفة غير إرهابية, تسعى لتغيير مجرى التاريخ بوسائل علمية.”، ” الثورة صوتها مصرى, إلا أنها تذكر العالم بأصداء ثورات سابقة, أهمها ثورة الألمان على سور برلين, وثورة غاندى الذى قاد شعبه إلى طريق العدالة.”، ” ستظل كلمة التحرير تذكر المصريين بما فعلوه, وبما ناضلوا من أجله وكيف غيروا بلدهم, وبتغييرهم لبلدهم غيروا العالم أيضا”.. في 12 فبراير ألقى الرئيس الأمريكي باراك أوباما خطابًا قال فيه هذه الكلمات.
ومن سيلفيو برلسكوني رئيس وزاراء إيطاليا الذي قال “لا جــديد في مصر فقد صنع المصـــريون التاريخ كالعادة” إلى ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا الذي قال “يجب أن ندرس الثورة المصريه فى مدارسنا” ثم إلى هاينز فيش رئيس النمسا حين قال “شعب مصر أعظم شعوب الأرض و يستحق جائزة نوبل للسلام”.. العديد والعديد من الإشادات الدولية من سياسيين وكتُاب وجهات دولية أكدت أن الشعب المصري خرج من أجل كرامته، تلك الإشادات التي لعل من الواجب علينا التذكير بها لكي لا يوصف الثوار بـ”المخربين”.
لم يخرج ثوار يناير لكي “يخربوا مصر”، وإنما خرجوا لـ”بناء مصر”، مصر التي أنهكتها القرارات الخاطئة والفساد و”الحكمة الرئاسية المزعومة”، خرجوا ليتحملوا مسئوليتهم أمام الأجيال القادمة في اتخاذ خطوة إلى الأمام، خطوة قد تقي البلاد مصارع السوء.