كارم يحيى يكتب: عن زميلنا عماد الفقي وتاريخ القسوة في “الأهرام”.. (1)- عندما تأكل صالة التحرير من أرواح من يعملون بها
الفقي ليس أول صحفي ينتحر بالأهرام.. سبقته الصحفية جاكلين خوري سنة 1980 وصحفي الديسك وحيد رياض
اثنان من العمال غير الصحفيين قرروا أيضا الانتحار.. موظف الإعلانات صفوت صليب ورئيس المطبعة “عم ياسين”
تاريخ المؤسسة مع انكار ضغوط المهنة وعلاقات العمل والزمالة يصل حد الاغتراب والتوحش
واقعة انتحار الفقي ذكرتني بمقولتي عن صالة التحرير بعد سقوط مبارك أنها “أكبر غرفة أكاذيب للأخبار في الشرق الأوسط”
حتى لا ننسى انتحار عماد الفقي.. هل نعيد النظر في المثالية والعظمة المدعاة وغير الحقيقة؟
رحم الله
الأستاذ عماد الفقي
زميلي في “الأهرام”
وغفر له ..
موجع رحيله على هذا النحو المؤلم الصادم.
الانتحار في حد ذاته موجع .
فما بالنا بالانتحار من مبنى الأهرام فجرا وعلى هذا النحو بالغ البشاعة .. والقسوة أيضا .
وإلى نفس المشهد/ المنظر / وجهة النظر: المسافة الفاصلة بين حد المبنى القديم والكنيسة. هناك تجاه المنظر نفسه الذي كنت أطل عليه من مكتبي في سنواتي الأخيرة بـ”الأهرام”.
علمت بالنبأ فتذكرت أصداء من بعيد لانتحار الزميلة الأستاذة جاكلين خوري (القسم الخارجي) في 22 أبريل 1980، و قبل أن التحق بأي عمل في “الأهرام” منتصف الثمانينيات. وشغلني الأمر بين حين وآخر عندما سمعت به لاحقا. ولقد استلهم الزميل الأستاذ “محمد سلماوي” من قصة حياتها الثرية وهي الفلسطينية القادمة من حيفا مسرحية بعنوان ” الخرز الأزرق”.
لكنني لم اجد من اتحدث معهم مليا وباستفاضة بشأن “جاكلين” وانتحارها من الأجيال السابقة في “الأهرام”، أو لعلني لم اهتم بما فيه الكفاية. وهذا يستحق أن أعتذر شخصيا عنه اليوم.
وأعود وأكرر إنني لم اجد من يهتم ويروى ما جرى حول حدث الانتحار المؤلم لـ”جاكلين”، وإن كنت قد وجدت اليوم في ذاكرة “الأهرام” الإلكترونية مقالا للزميل العزيز الأستاذ “مصطفى سامي” منشور بتاريخ 23 أغسطس 2019 عن حياتها، ومعه صورة بالأبيض والأسود لها في شبابها أطالعها للمرة الأولى. كما يتضمن هذا المقال إشارة سريعة عن زميل صحفي آخر في “الأهرام” انتحر مطلع الستينيات، هو “وحيد رياض” بقسم الديسك المركزي. وكلاهما ” جاكلين” و”وحيد” قد انتحرا في المستشفى كما يقول “سامي”. وثمة في ذاكرة عمال “الأهرام” المخضرمين ذكريات بعيدة استدعاها حدث الأستاذ “عماد الفقي” لانتحار زميلين غير صحفيين ، أحدهما موظف الإعلانات المرحوم الأستاذ ” صفوت صليب” الذي انتحر قفزا من المبنى خلال عقد الثمانينيات.. والثاني ” عم ياسين” رئيس المطبعة، ولكن من المستشفى.
و ربما كانت حيرتي وعدم توفيقي في العثور عمن يتحدث باستفاضة عن انتحار “جاكلين” على نحو خاص هو جراء الهروب من إيقاظ آلام الصدمة والوجع والنبش في معاناتها ومن استعادة ذكريات “العشرة ” معها في مكان العمل لسنوات، أو لأن هناك من يفرون من الأسئلة / الألغاز التي بقيت بلا حل : لماذا اختارت ان تغادرنا عمدا على هذا النحو ؟
أو ربما هو المكان / المؤسسة الذي ينسى ويتعمد النسيان مستمدا قوة الانكار تلك من قسوة ضغوط المهنة و علاقات العمل والزمالة حد الاغتراب والتوحش. وربما هي الأخبار وغرفتها الكبيرة ( صالة تحرير الرابع التي تعارفت فيها مع الزميل الأستاذ عماد الفقي ) التي تأكلنا في تجددها كل يوم، وهي تطوي ما حدث بالأمس و كل الماضي، وتحوله إلى أرشيفات وأوراق صحف مهملة تباع بالكليو. و لو كانت هذه الكائنات الأوراق الصماء المضمخة بحبر المطابع محظوظة في رحلتها إلى قراطيس بيع أرخص وأردأ السلع. وهذا إن لم تكن أكثر حظا لتفنى بين أيدى تلمع زجاج النوافذ.
تأكل صالة تحرير الرابع الشهيرة من أعمار من عمل بها. مع انها تتحول إلى ما يشبه ” الأفيون” الذي يسرى في الدم والوجدان مجرى الإدمان حتى يظن من عاش بها أنه لن يغادرها أبدا ، وأنه سيموت إذا ابتعد عنها تماما ونهائيا. وقد عدت لتذكر أيامي وليالي بها مع خبر رحيل الأستاذ “عماد” الموجع. وعلى نحو خاص تذكرت لحظة أن وصفتها بصراحة وجرأة ـ وقسوة بقسوة ـ بأنها “أكبر غرفة أكاذيب للأخبار في الشرق الأوسط “. وهذا الوصف لابد أنه مسجل بالصوت النقي على شرائط ندوة استضافتها قاعة اجتماعات وندوات الطابق الخامس بعد الإطاحة بالدكتاتور “مبارك” بأيام أو أسابيع معدودة. و أظنها ذات القاعة بأثاثها ومعدات تسجيلها منذ افتتاح المبنى في 1968. هي نفسها القاعة التي تظهر في صور نادرة بالأبيض والأسود تنشرها الزميلة العزيزة الأستاذة “منى أنيس” على صفحتها بالفيس بوك للقاء / حوار الرئيس الأسبق “جمال عبد الناصر” مع مثقفي أسرة تحرير مجلة ” الطليعة ” اليسارية، وفي مناسبة هذا الافتتاح.
وهذا الحوار على أهميته غير منشور وإلى اليوم . وهذا من أعاجيب “الأهرام” ومصر. ربما لاستثنائية بعض صراحة تخللته. ولقد سألت الراحل الأستاذ “محمد حسنين هيكل” عندما زار “الأهرام” بعد الثورة ( يوم السبت 21 مايو2011) عن حوار “عبد الناصر” و”الطليعة” ودعوته لأن يسلم نسخة من تسجيلاته مع وثائق أخرى تخص تاريخ الجريدة ومصر، لكنه تهرب . بل وفهمت من إتصال طويل جاءني فور مغادرة “هيكل” من رئيس مجلس الإدارة حينها المرحوم الأستاذ “لبيب السباعي” بأن سؤالي أحرج الرجل، وأن ” هيكل” يحتفظ بأرشيفاته ووثائق “الأهرام” ومصر في الستينيات وحتى غادر رئاسة مجلس إدارة وتحرير الجريدة 1974 في خزائن مؤمنة في لندن. لكن لا أحد في “الأهرام” وحتى بعد رحيل “هيكل” في فبراير 2016 يعرف أو يهتم. وهل يوجد أحد في ” المؤسسة العريقة العملاقة” يمكنه اليوم وغدا أن يهتم؟.
وبدون التبخيس من أهمية ” الأهرام” و”هيكل”، لعل مناسبة انتحار زميلنا الأستاذ ” عماد الفقي” تسمح بأن نعيد النظر في المثالية والعظمة المدعاة وغير الحقيقة حول الاثنين. وثمة كثير كثير من المسكوت عنه والكثير الكثير من الصور النمطية المزيفة المخادعة الكاذبة. وأكتفي بالإشارة إلى ما سمعت وبحضور شاهد من بين صحفيي “الأهرام” أنفسهم من كاتب صحفي محترم مخضرم من تلامذة هيكل و”أهرامه” ومحبيهما حين أكد وضرب عددا من الأمثلة عما كان هو شخصيا شاهدا عليه من قيام ” الأستاذ هيكل” بالتلاعب بالحذف والإضافة في نصوص الوثائق والبيانات عند نشرها في الأهرام بالحذف والإضافة، وبما في ذلك بيانات فترة الوحدة مع سورية ( فبراير 58 ـ سبتمبر 1961). وأتمنى أن يخرج هذا الكاتب المحترم المخضرم من عزلته وينشر هذه الحقائق وهو على قيد الحياة ضمن مذكراته عن المهنة و”الأهرام”. وفي كل الأحوال، سأفترض إلى هذا الحين أننا بحاجة إلى دراسة تاريخية علمية عن أصول هكذا بيانات وكيف كان يتم نشرها على صفحات “الأهرام”. ولعل في الفحص والتوثيق والبحث بشأن هذه الممارسات اللامهنية ما يفتح باب النقاش حول مدى أهلية الاعتماد على ” الأهرام” وغيره كوثيقة في كتابة التاريخ، وحتى من وجهة النظر الرسمية .. وجهة نظر “دولة يوليو”.
.. وهل يمكن ” للأهراميين ” ـ هذا المصطح الذي امقته وبخاصة عندما ينطق بتفاخر وعجرفة واستخدمه هنا اضطرار وتجاوزا ـ أن يتخيلوا أحد مشاهد تاريخ القسوة في الجريدة / المؤسسة / السلطة وبين من مروا بها من أجيال مع الصمت على اعتقال “عبد الناصر” للأستاذ “طفي الخولي” نفسه بعد أشهر معدودة من هذا اللقاء/ الحوار ” المغدور”. ولكن جراء تسجيل آخر تم في منزل سكرتيرة أو مديرة مكتب هيكل “القوية” الراحلة الأستاذة “نوال المحلاوي”. وقصة سطوة ” السكرتارية والسكرتيرات في الأهرام على عقود توالت حكاية كبيرة تحتاج إلى معالجة منفصلة، وإن كانت ظاهرة بائسة في مصر كلها تمتد إلى اليوم وحتى أعلى السلطة في ” الدولة “. وقد روى لي ” الخولي” في حوار طويل وعلى جلسات سجلته معه عن تجربة ” الطليعة ” كمنبر يساري من داخل “الأهرام” ونظام يوليو وظباطها كيف ظل هو حبيس سخط “الزعيم عبد الناصر” حتى بعد وفاته في 28 سبتمبر 1970. وهذا إلى حد أن خلفه الرئيس الأسبق “أنور السادات” ظل لشهور يراوغ و يحاجج “هيكل” ويرفض وساطته للإفراج عن “لطفي” قائلا كما روى لي المثقف / شريك النظام / الضحية :
ـ ” عبد الناصر الله يرحمه حبسه، أطلعه أنا إزاي”.
لكن الأكثر قسوة في تلك القصة ـ وهي صفحة مما أظنه كتاب حافل من تاريخ القسوة في “الأهرام” ـ أن أحدا من زملاء “الخولي” في “الطليعة” والجريدة / المؤسسة ما كان يجرؤ ولو بدافع الإنسانية أو التهور أن يذكر اسم “لطفي الخولي” حينها ومايجرى له علنا في اجتماع أو مناقشة خاصة جانبية داخل مبنى ” الأهرام ” الذي تفاخر به الصحافة العالمية. وهذا ماكان حتى إطلاق سراحه من اعتقال بدون محاكمة . وهذا هو ما خرجت به من لقاءات عديدة سجلتها للمشاركين مع “لطفي” في تجربة ” الطليعة ” ( يناير 1965 : فبراير 1977)، فظلت آثار هكذا صمت وقسوته محفورة في وجداني وذاكرتي إلى اليوم.
*
أخشى أن يتلاشى الاهتمام بحدث انتحار زميلنا الأستاذ ” عماد الفقي”، وينتهى بعد أيام أو أسابيع إلى لا شئ .. إلى النسيان. حقا.. جرأ الحدث العديد من الزميلات والزملاء على البوح عن بؤس أحوالهم الاقتصادية وعلاقات العمل وبيئتة غير الصحية غير السوية، وكذا البوح بشأن بؤس النشر ، بل وانعدامه مع تغييب المهنية ليس في الأهرام وحدها . بل في عموم الصحافة المصرية التي يبدو أنها تعيش السنوات الأسوأ بعد انكسار ثورة يناير بحلول صيف 2013 وماتلاه. لكني أخشى من عودة ” للاشئ” وللنسيان، حتى نفاجأ مستقبلا وقريبا أننا أمام مأساة أكثر من “عماد” هنا وهناك .