كارم يحيى يكتب: عن الزميل عماد الفقي وتاريخ القسوة في الأهرام.. (11) عودة إلى ملابسات الانتحار المحير
عرفت عماد زميلا بصالة تحرير الأهرام.. ولا أتذكر خلال سهراتنا المشتركة أي مظاهر لمتاعب أو اضطرابات نفسية
بين العاملين والصحفيين في الأهرام من هم من أهل الجنوب ومن هم من أهل الشمال مع التمييز في الأجور والامتيازات والمعاملة وبيئة العمل
بعد شهرين على رحيله لم تظهر نتائج التحقيقات.. وكأن لا أحد يهتم من أصحاب القرار في المؤسسة ونقابة الصحفيين أن تظهر ويجري إعلانها
كنت أتمنى أن يلجأ زميلنا إلى أشكال من المقاومة.. وما جرى بشأن التحقيقات على هذا النحو المؤلم المفجع تزيد الأمور غموضا
رحم الله
الأستاذ عماد الفقي
زميلي في “الأهرام”
وغفر له ..
موجع رحيله على هذا النحو المؤلم الصادم
الانتحار في حد ذاته موجع .
فما بالنا بالانتحار من مبنى “الأهرام” فجرا، وعلى هذا النحو بالغ البشاعة .. والقسوة أيضا .
*
هل مات زميلنا الأستاذ “عماد الفقي” مباشرة بعد يوم 29 أكتوبر 2015؟..و قبل أن يعثروا على رأسه وجثمانه مفصولين أسفل مبنى “الأهرام” الرئيسي فجر 28 أبريل 2022 ؟. أي بعد نشر آخر خبر أو نص له على صفحات وموقع “الأهرام” الإلكتروني تحت عنوان ” رئيس نادي القضاة: اتخاذ الإجراءات القانونية ضد وسائل الإعلام المسيئة للقضاة”، وهو بالأصل خبر صغير في صفحة داخلية، و من بيان لمجلس نادي قضاة مصر، ولماذا لم يظهر زميلنا مرة أخرى على صفحات “الأهرام” وموقعه الإلكتروني، ولو في مادة رأي ؟، ولقد استخدمت هنا مجازا الفعل المشتق من ” الموت” لأن التوقف عن النشر بمثابة رحيل للصحفي الذي ظل يتعامل لعقود مع نشر الكلمات. وهذا وخصوصا إذا كان له مصدر في العمل الصحفي كنادي القضاة والقضاء .
.. ولماذا على الرغم من مضي ما يقارب الشهرين على رحيله الصادم لم تظهر نتائج تحقيق عن ملابسات ماجرى أمام الرأي العام وزملائه الصحفيين في “الأهرام” وخارجها ، وبالطبع أمام أسرته ؟.
وأليس إطلاق شائعات عن زميلنا الأستاذ “عماد الفقي ” ومن جانب الإدارة أو العناصر القريبة منها بمثابة ” إغتيال معنوي”؟. وأليس في هذا ما قد يشبه ماجرى ـ لكن على صفحات الجريدة عام 2004 ـ لتبرير الإخفاء القسري لزميلنا “رضا هلال” ولإبعاد أي شبه عن السلطات ..أي سلطات؟.
*
على المستوى الشخصي، عرفت المرحوم ” عماد الفقي” زميلا في صالة تحرير “الأهرام” قبل ان أغادرالإقامة بها بعد منعي من الدخول والعمل 2004 لعشرين شهرا. لم نكن زملاء مقربين أو أصدقاء. لكنني أتذكر أننا احتسينا القهوة معا غير مرة عندما تصادف توافق موعد سهرتي الطبعة الثالثة لكلينا اعتبارا من عام 1998 : أنا المحرر السهران في قسم “الشئون العربية” وهو المحرر السهران في قسم الحوادث والقضايا ( بين العاشرة والثالثة فجرا إلا لو امتدت بسبب حدث يستحق تأخير الطباعة). وطوال وجودي في “الأهرام” كان إنسانا ودودا محترما معي. ولا أتذكر أنه حين تعاملنا خلال سهراتنا المشتركة أي مظاهر لمتاعب أو اضطرابات نفسيه. كان شابا طبيعيا جدا. وما أتذكره على نحو خاص أنني في سهرة فاتحته بشأن أحداث “كمشيش “المتعلقة بالصراع في ريف المنوفية منتصف الستينيات بين عائلته “الفقي” وعائلة الشهيد “صلاح حسين”. وربما لفت نظري أنه لم يكن مكترثا بالحوار، ولا متحمسا للدفاع عن اسم عائلته الموصوفة بالإقطاعية في مواجهةالفلاحين. وأظنها أيضا تعرضت لتنكيل لاحق وربما لعقاب جماعي على أيدي الشرطة العسكرية ولجان تصفية الإقطاع تحت رعاية المشير “عبد الحكيم عامر”. وهذا اللا اكتراث يدهشني عندما استعيد ذكرى زميلي “عماد” اليوم مع رحيله.
على مدى الأسابيع الماضية استمعت من زملاء أعزاء في “الأهرام” لروايات مختلفة وتقديرات متفاوته في الإجابة على السؤال: هل تعرض لاضطهاد في رزقه وعمله داخل “الأهرام”؟. ولا أعرف ما هي ملابسات حياته الشخصية؟. وهل كان أصلا يعاني من ضغوط خارج العمل دفعته للانتحار على هذا النحو القاسي ؟ . لكن ما أعرفه جيدا بحكم عملي في هذه المهنة وهذه الصحيفة لعقود هو أننا كصحفيين عرضة لضغوط تتصل بطبيعة مهنتنا وبفساد وسوء علاقات العمل. وأعرف أيضا وعلى عكس الصورة المثالية المزيفة أن بين العاملين والصحفيين في مؤسسة “الأهرام” من هم من أهل الجنوب ومن هم من أهل الشمال مع التمييز في الأجور والامتيازات والمعاملة وبيئة العمل.
والأهم هنا هو أننا أصبحنا نعلم ونعرف ونتكلم عماهي القسوة داخل “الأهرام”؟ . ولذا فإن زميلا ما أقدم على الانتحار، ومن مكتبه ومن مقر عمله على هذا النحو البشع لابد وأنه كان يعاني منذ أشهر أو حتى أسابيع وأيام. يعاني وهو يتردد يوميا على مبنى “الأهرام”. وتحديدا على الدور الرابع الأكثر ازدحاما بالزملاء وتسكنه صالة التحرير الشهيرة. وهنا يبرز سؤال: ألم يلتفت أي من الزملاء أو الزميلات المحيطين به إلى مظاهر معاناته؟ . وألم يفعل أحد شيئا للكلام معه فيما يعاني ؟..(مالك ياعماد).
*
وإذا عدنا إلى صفحات وأرشيفات “الأهرام” نفسه، سنجد آسفين خبرا صغيرا لايتجاوز متنه الخمسين كلمة صباح يوم 29 أبريل 2022 تحت عنوان: “الزميل عماد الفقي في ذمة الله”. وعلى خلاف خبر لاحق بالجريدة ذاتها يوم 30 أبريل تحت عنوان ” نقابة الصحفيين تنعي الزميل عماد الفقي وتدعو الجميع لاحترام حرمة الموت” لا إشارة في الخبر الأول إلى ملابسات الموت. لا كلمة واحدة ولو حتى بألفاظ تناور كـ “حادث أليم”. وأيضا لا عبارة من قبيل الدعوة في الخبر الثاني ” لانتظار نتيجة تحقيقا النيابة العامة وتأكيد نقيب الصحفيين “أن النقابة تتابع عن كثب مع مؤسسة الأهرام ما تنتهى إليه هذه التحقيقات”.
واللافت بعد مضي ما يقرب من الشهرين على رحيل زميلنا “عماد الفقي” على هذا النحو أن نتائج تحقيقات النيابة العامة لم تظهر. بل وكأن لا أحد يهتم من أصحاب القرار في المؤسسة الصحفية أو عن الصحافة ونقابة الصحفيين في مصر أن تظهر ويجرى إعلانها. ولقد سألت قبيل كتابة هذا النص ونشره زميلا صحفيا يعمل منذ أكثر من ربع قرن في تغطية أخبار النائب العام والنيابة العامة، فأبلغني بأن كل شئ طي الكتمان، وأن لا أحد يتابع. بل وزاد على هذا تفسيرا بالغ الدلالة والدليل على ما وصلت إليه صحافتنا من بؤس ومهانة. أبلغني بأن النائب العام والنيابة العامة لم يعودا يعقدان أي مؤتمرات صحفية منذ سنوات. بل بلغت علاقتهما بمندوبي الصحف والصحافة لديهما أنهما منذ نحو ستة أشهر ألغيا مجموعة ” الواتس آب” مع المندوبين الصحفيين، واستبدلوها بمجموعة أخرى لإرسال البيانات المقتضبة إلى رؤساء التحرير ليس إلا. ولما سألت ولماذا لا يبادر الصحفيون المندوبون بسؤال مصادرهم في النيابة العامة وعند النائب العام؟، أبلغني أيضا بأن هذا “كان زمان .. عصر ومضى”.
للأسف لا يوجد أمامنا في العلن ما يفيد بأن مسئولا في المؤسسة أو النقابة معني بالكشف عن نتائج تحقيقات النيابة. ودون الاستباق بإتهام أو تبرئة أي جهة أو مسئول، فكل ما ظهر على مدى الأسابيع الماضية هو محاولة واضحة لاستباق اعلان نتائج تحقيقات النيابة ـ إن كان سيجرى إعلانها يوما ما ـ بالحصول على شهادة تبرئة من الهيئة الوطنية للصحافة . وهنا يلفت النظر بيان الهيئة المنشور في “الأهرام ” بتاريخ 23 مايو 2022، ومعه على موقع الجريدة الإلكتروني صورة لرئيسها ” المهندس عبد الصادق الشوربجي”، لا للزميل الفقيد “عماد”، وتحت عنوان:” الهيئة الوطنية للصحافة تصدر بيانا حول وفاة المرحوم عماد الفقي”.
ودون التسرع في توجيه إتهام لرئيس تحرير “الأهرام ” أو غيره من مسئولي المؤسسة، ثمة لغة تبريرية سافرة في هذا البيان. فهو يقر بتوقيع خصومات من الحوافز الشهرية للفقيد ثلاث مرات، لكنه يسارع بإضافة هذه الجملة “شأنه كأقرانه”. والبيان أيضا يؤكد أن الزميل لم تتم ترقيته منذ نحو عشر سنوات كاملة. وأنه ظل وبعد التحاقة بـ”الأهرام” رسميا معينا في عام 1996 في مرتبة ” نائب مدير تحرير “، لكنه يعود ويسارع في لغة تبريرية واضحة :” مثله مثل زملاء آخرين”. وأظن وبخبرتي في العمل بالمؤسسة أن شرف وقف الترقيات والمنع من تولي المسئوليات على هذا النحو لا يناله إلا ” عتاة العصاة” من أصحاب الخلفيات السياسية والفكرية المعارضة والسلوكيات المهنية الاستقلالية ” العنيدة” في مواجهة سلطة الإدارة والرئيس / الأب / “البطرك”. وفي ظني أن الزميل الراحل الأستاذ ” عماد الفقي” لم يكن من بينهم على الأرجح، وأرجو أن يردني زميل إن جانبني الصواب في هذا التقدير.
وباستثناء خبري الوفاة ونتائج تحقيق الهيئة الوطنية للصحافة على هذا النحو، هناك مقالا رأي محدودا المساحة نشرهما “الأهرام” منذ رحيل الفقيد. الأول كتبه صديقه وزميله الأستاذ “خالد الأصمعي ” تحت عنوان ” وداعا عماد الفقي” والمنشور بتاريخ الأول من مايو 2022، والثاني لصديقه وزميله أيضا الأستاذ “محمد القزاز” تحت كلمة واحدة هي ” عماد” في اليوم التالي مباشرة 2 مايو . ويلفت النظر في هذا السياق، إشارة المقال الأول إلى أن الراحل اعتاد مغادرة صديقه واصدقائه وزملائه في مواقف عدة دون استئذان كما فعل مع نهايته. وقد قال نصا :” كان عماد كالبحر صفحة زرقاء صافية تلمع تحت ضوء الشمس وأعماق بها من الأصداف واللآلئ كما بها من الوحوش والمتناقضات والأحجار والظلمات”. أما المقال الثاني الذي أجازته سلطة النشر في “الأهرام اليومي فقد جاء به نصا :” ياصديقي الآن فهمت هذا التحديق ( في جدران ومكاتب الأهرام) وأنت تنفث دخان سيجارتك بشراهة في أيامك الأخيرة قبل رمضان. الآن أدرك أنك تحمل هموما أكبر من كل هموم من يشكو إليك”.
وفي كل الأحوال، ليس بإلامكان أن نخمن هل كانت هناك مقالات أخرى دفع بها أصدقاء وزملاء ولم تجد طريقها للنشر ؟.
* الصمت على نتائج تحقيقات النيابة وهزال ما أفصحت عنه الهيئة الوطنية للصحافة و الأغراض الواضحة والضيقة لما قدمه بيانها يزيد الحيرة. وفي هذه الأجواء من تعتيم جراء ثقافة اعتياد تغييب الشفافية و الاستهانة بحياة ومصير الإنسان والصحفي فتحت الأبواب لتدوال شائعات تتجاوز فكرة الإنتحار إلى إنها جريمة قتل، ولكن دون دليل أو مايسمح برسوخ قناعة.
و لا يظن المرء في الأغلب أن قرار الإقدام على الانتحار وفي مقر العمل وفي هذا التوقيت (الأيام الأخيرة من شهر رمضان الكريم وربما ليلة القدر) عفو لحظة. فنيات الانتحار وبخاصة بعد الخمسين من العمر الأرجح أنها تأخذ وقتا للتفكير . لكن ما جرى بشأن التحقيقات في رحيل زميلنا على هذا النحو المؤلم المفجع تزيد الأمور غموضا و إلغازا، وتفيد بأن حياة الإنسان / المواطن / الصحفي في هذا البلد بلا قيمة ولا تستحق عناء البحث والكشف عن الحقيقة.
وبالطبع كنت أتمنى أن يلجأ زميلنا الأستاذ “عماد الفقي” إلى أشكال من المقاومة، ولو كانت فردية. وكما أظنني فعلت وغيري طوال علاقتنا بـ”الأهرام” . وهو ما كنا نستعين به على القسوة سواء في ” الأهرام”، أو غير “الأهرام”.
وبالطبع أشفق على زميلاتي وزملائي في المكان الآن. فانتحار زميل بيننا ومن الدور الرابع بالمبنى القديم الرئيسي العامر نسبيا إذا ماقورن بأماكن المؤسسة الأخرى ليس سهلا عليهم.
لكن لعل فيما جرى ـ بكل صدمته وألمه ـ مايدعونا للتفكير والعمل في كيف نواجه القسوة ونعالج تاريخها المسكوت عنه؟
* أخشى أن يتلاشى الاهتمام بحدث انتحار زميلنا الأستاذ ” عماد الفقي”، وينتهى بعد أيام أو أسابيع إلى لا شئ .. إلى النسيان. حقا.. جرأ الحدث العديد من الزميلات والزملاء على البوح عن بؤس أحوالهم الاقتصادية وعلاقات العمل وبيئتة غير الصحية غير السوية، وكذا البوح بشأن بؤس النشر، بل وانعدامه مع تغييب المهنية ليس في الأهرام وحدها . بل في عموم الصحافة المصرية التي يبدو أنها تعيش السنوات الأسوأ بعد انكسار ثورة يناير بحلول صيف 2013 وماتلاه. لكني أخشى من عودة ” للاشئ” وللنسيان، حتى نفاجأ مستقبلا وقريبا أننا أمام مأساة أكثر من “عماد” هنا وهناك .
(*) تدقيق وتصحيح:
ورد في المقال الأول من هذه السلسلة المنشورة بتاريخ 1 مايو 2022 خطأ في تحديد مكان الواقعة التي يعتقد بأنها المتسببه في اعتقال الراحل الأستاذ لطفي الخولي قبل أشهر من رحيل الرئيس جمال عبد الناصر 1970 . فواقعة تفوهه بانتقادات ضد عبد الناصر في جلسة خاصة جرت في منزل الأستاذ لطفي. كما كانت هناك تسجيلات تتجاوز 35 ساعة لأحاديث جرت في مكتبه هو و مكتب محمد حسنين هيكل بـ”الأهرام “. وهذا وفق ما تحققت عندما عدت إلى روايته في حواري المطول معه، و المنشور تحت عنوان : “محضر نقاش مع لطفي الخولي عن أبعاد سياسية في تجربة الطليعة”، وذلك في العدد التذكاري من “الطليعة” الصادر من مؤسسة”الأهرام” بعد رحيله عام 1999 بنحو عام واحد، ص 16 و 17.