كارم يحيى يكتب: عام على اعتقال صديقي خليل
كلما لمحت بين كتبي وفي غرفة نومي ” الكنيسة والإشتراكية” لروزا لكسمبورج تلمست أوراقه، وكأني اصافحك قبل أن نجد طريقنا الى مقهى لنحتسي الشاي، وبيننا كلام لاينقطع. أطالع الكتاب مجددا فتتشكل سطوره وحروفه بوجهك في الغياب.
مرة أجدك مبتسما وأخرى متجهما حزينا وثالثة وربما غالبا ساخرا. أسأل نفسي دون إجابه:”هل أعطيته الكتاب الذي عدت به من تونس وقرأه وأعاده ؟” وعندما تعييني خيانة الذاكرة اطمئن نفسي بأنني سأمنحك الكتاب فور رجوعك من خلف أسوارهم (*).
*
اليوم 17 نوفمبر 2020 مر عام بالتمام والكمال على اعتقال صديقي خليل . يومها علمت من شقيقيه باختطافه ليلا من جوار مقهى على مقربة من بيت الأسرة. وفي التفاصيل الموجعة العالقة بالذهن وستظل أن نصف كوب شاي ظل ينتظر عودته، بينما ابتعد قليلا عن شقيقه “رامي” كي يتحدث في الهاتف المحمول إلى من كانت ستصبح زوجته. وفي بلادنا وفي حي كـ”المرج” شرقي القاهرة من غير المستحب والمألوف المجاهرة بالحب والغرام. لكن أحدا ممن يعرفون خليل ـ بمن فيهم شقيقه رفيق رشف شاي لم يكتمل ـ لا يتخيل ولا يصدق أن تفضى المرء مكالمة هاتفية على هذا النحو إلى اختطاف واختفاء قسري لعدة أيام عند ” الأمن الوطني”. ثم الظهور أمام نيابة أمن الدولة متهما بما هو شائع في هذا العهد كالماء و الهواء أو فيروس الأنفلونزا واسع الانتشار مخترقا كل موانع المناعة والمعقول :”اساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي ونشر اخبار كاذبة”و “مشاركة جماعة ارهابية في اهدافها”. وبين الإخفاء والظهور في قبضة اعتقال الحبس الاحتياطي المتجدد المديد تسجل وسائل إعلام تعليمات السامسونج ( إند أوف ذا تكست) عن صديقي خليل تصريحا للمصدر الأمني ( هذا المجهول المشهور) ينفي أن القبض على النقابي العمالي “خليل رزق رزق” لا علاقة له بنشاطه العمالي .وأن خليلنا (42 سنة) ، الذي لم يعمل يوما في عمل مستقر ولا في هيئة حكومية أو عامة ،” سائق بهيئة النقل العام محبوس في اطار اجراءات قضائية”(!).
يا للسخرية ياخليل .. تدعى كل سلطة قائمة على المراقبة والضبط والعقاب بل والبطش أنها تعلم عنا كل شئ منذ ميلادنا الى أن يهبطوا بنا إلى اللحد. لكن هل لها هنا أن تعلم أكثر وأدق مما نعلم نحن عن أنفسنا. وهل من المعقول أن نصدق ما تدعى. تختطفك وتعتقلك، فتتهمك بما ليس أنت، وكما تفعل مع عشرات الألوف. وكلنا نحن مشاريع مختطف متهم معتقل في الحبس الاحتياطي على هذا النحو.
*
أعرف صديقي خليل منذ نحو عشر سنوات. روى لي تقريبا كل تجربة عمل عاشها، من قيادة سيارات المدارس والسياحة والنقل إلى الخدمة في الكنائس. وفي كل واحدة منها ظل يستظهر بالملموس الصراع الطبقي الإجتماعي. نتألم ونضحك معا مع كل حكاية مريرة منها تنتهى بالبحث مجددا وعبثا عن فرصة عمل أكثر إنصافا وانسانية. أعرفه هذا الآدمي الذي لم يشعر بأنه بين المضطهدين لأنه أولا “مسيحي” هنا. بل كان خليل رزق ـ صاحب الروح السمحة مع رفاقه العمال المسلمين بما في ذلك السلفيين ـ على وعي قوي ورفيع بأولوية ماهو اجتماعي و بمصريته.
وأعرف وأيضا من خلال آخرين مواقف خليل إلى جانب معاناة و نضالات العمال في كل مكان أمكن لخطاه أن تصل إليه أو اتصل علمه بها. وكم أعلمني واصطحبني الصديق إلى هذا العامل أو ذاك أو مجموعات العمال في ذروة اضراب أو اعتصام أو رفع مطالبهم المشروعة.. أو حتى بعد انكسارهم أمام آلة البزنيس والسلطة الرهيبة.
وأعرف كيف تراكمت خبرات خليل سواء مع العمال وقياداتهم مباشرة أو مع المتفاعلين معهم من ساسة وحقوقيين ونشطاء ليبرز في نقاشنا وعي نقدي متمرد على السلبيات والإفسادات والهزائم والإنعزالات والإغترابات طالما طلبت منه أن يدونه في كتاب .
كتاب أعتقد أنه لن يكتبه إلا هو .. خليل.
وحتى تصوراته وخبراته إزاء ” المثقفين البورجوازيين” في تجارب فاشلة لأحزاب يسارية محفورة في ذهني وذاكرتي. وبما في ذلك المرارات الجالبة للضحك عن تلك الاتهامات التي تتطاير بأثر ” الكبت الجنسي” عند الإختلاف والضيق بالنقد ومع “شق عصا الطاعة التنظيمية”. واليوم مع تغييب خليل خلف أسوار اعتقال الحبس الإحتياطي و تجديده كل 45 يوما أخال أن ما جمع بيننا وبخاصة في العامين الأخيرين هو روح التمرد والرفض والنفور من لعبة وسجن ( الزعيم والأتباع ). فقد بدأت وظللت نافرا من أن أكون زعيما لأحد أو تابعا لزعيم أي كان. وقد تبين لي أنه وصل دون أن يتأخر كثيرا إلى هذا النفور غير عابئ بالاتهام الساذج بـ ” الفوضوية”. وأظنه معي في أن النجاة من عبودية ( الزعيم / الأتباع) شئ و حق وضرورة التنظم في نقابات وأحزاب وجمعيات وغيرها من أشكال شئ آخر.
وخليل الذي أعرف سعي دائم للتعلم في تواضع. وكم حدثني مع نفسه في لقاءاتنا ـ بما في ذلك نزهة نيلية في أحد ليالي رمضان 2016 قبل السحور أضع صورتها مع هذا النص ـ عن أحلامه في إجادة اللغة الإنجليزية و فنون الحاسب الآلي،ناهيك عن استكمال تعليمه في الجامعة.وأنا على ثقة أنه سيفعل بما له من ذكاء وقدرات وجدية لاتتوافر عند “حمالي شهادات دكتوراه”.
*
يكتب خليل في رسائلة من السجن إلى أسرته الكريمة الطيبة ـ الأم المريضة وشقيقيه وشقيقته ـ جملة ختامية أظنها تخصني أنا أيضا:” سلامي للجميع”. وربما مازال هناك في محابسهم يسأل بقلق المناضل النقابي العمالي الجاد المهموم عن مصير دعوى رفعها أمام القضاء الإداري لالغاء رسوم غير قانونية إجبارية على رخص قيادة السائقين. والدعوى مرفوعة ضد وزير الداخلية و النقابة الرسمية ونقابييها الصفر. قضية ظل كسائق عامل نقابي يحمل عبئها ومخاطرها وحيدا..فهل هي السبب ؟.هذا مع كون اللجوء للقضاء حق دستوري، أم أنه بالأصل وفي مصر اليوم لاتبحثن عن سبب لما يلحق بك من عقوبات الحبس الاحتياطي وغيرها.
*
يطلب “خليل رزق رزق” في محنته من خلف أسوار الاعتقال في الحبس الاحتياطي كاهنا من الكنيسة القبطية كي يصلي به.يمتدح بمحبة رفاقه المعتقلين المسلمين. ولعله يقول بأن بدلة الحبس لاتفرق بين مسلم ومسيحي.. ولا اتهامات الحكومة اللامعقولة. وأسأل أنا عن موقف أو كلمة من البابا أو كبار الأساقفة، فلا أجد اجابة. ألا يعلمون ؟.. ألا يشعرون بآلامه على صليب القهر والظلم . ألا يعلمون كيف يعيش وراء أسوارهم وكيف يحيون هم ؟.. ألا يتألمون معك ومعنا أم أنه “مغناطيس القيصر”.
تختتم روزا لكسمبورج كلماتها في ” الكنيسة والاشتراكية ” بهذه السطور، فألعن ذاكرتي الخائنة “هل قرأها خليل؟”. كتبت روزا في نحو عام 1905 على هذا النحو مخاطبة القساوسة عبر العمال :
” لا تسلب الاشتراكية الديمقراطية أحدا عقيدته ولا تحارب الدين. فعلي النقيض هي تطالب بحرية الضمير الكاملة للجميع واحترام كل عقيدة وكل إيمان. ولكن إذا أراد القساوسة استغلال المنابر كوسيلة صراع سياسي ضد طبقة العمال، سيتعامل العمال معهم كما مع جميع أعداء حقوقهم وتحررهم. فمن يدعم المستغلين والمضطهدين ويحاول تكريس النظام المجتمعي المشين القائم اليوم هو عدو لدود للشعب سواء ارتدى جبة قسيس أو بزة شرطي”.
وأغلق الكتاب لأتذكر خليل ومعه كلمة المسيح عليه السلام :
” حقا أقول لكم إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله “.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) روزا لكسمبورج، الكنيسة والاشتراكية ،ترجمها عن الألمانية إلى العربية : محمد أبو زيد وترجمها :أحمد فاروق،مؤسسة روزا لكسمبورج ( مكتب شمال إفريقيا) ، تونس ، فيفري ( فبراير) 2018.
(**) تنويه بسيط : نشر الكاتب العديد من المقالات عن معتقلي الحبس الاحتياطي في مصر من غير اليساريين ومن غير اصدقائه على مدى سنوات، وبعضها وجد طريقه الى صفحات ” الأهرام ” التي كان يعمل بها.