كارم يحيى يكتب: تحية إلى “عز الدين الحزقي” ورفاقه المضربين جوعا بتونس

في أول زيارة لي إلى تونس نهاية سبتمبر 2011 ، سعيت للتعرف على “عز الدين الحزقي” ( الحزجي كما ينطقها التونسيون). واستمعت ليلا إلى تجربته الفريدة في تحدي طغيان الرئيس ” بن على ” مبكرا، حين أصر على إعلان الترشح أمامه وضده في انتخابات رئاسة 1989 ليكسر خطيئة وإيهام “مرشح الإجماع الوطني”.
وعلمت لاحقا من برنامج حواري معه في إذاعة تونسية مع الصديق الصحفي اللامع “شاكر بسباس” أنه نشر مقالا في صحيفة ” الموقف” المعارضة في 8 نوفمبر 1987 اليوم التالي للانقلاب على الرئيس المؤسس للدولة الوطنية “الحبيب بورقيبة”. وكان عنوان المقال :” إلى طفل يبتسم”. وقد تذكر “الحزقي” بين سطوره كيف كان يبتسم طفلا لدى مرور الرئيس / زعيم الاستقلال الوطني؟. لكن الطفل المبتسم الواقف بين الهاتفين ” يحيا بورقيبة” وجد نفسه في بدايات شبابه بين أنياب ومخالب قسوة “حبوسات بورقيبة” بين مجموعة “برسبكتيف” ( آفاق) اليسارية في “سجن الرومي” الرهيب. وها هو الرجل يعود اليوم بعدما اختار التصويت إلى جانب ” قيس سعيد ” في الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية أكتوبر 2019 ليعارضه. و يدفع ـ بجسده في هذا السن وهذا الطقس البارد ـ عن بلده انتكاسة العودة إلى الاستبداد السياسي وحكم الفرد . وما أدرانا كمصريين بخطورة وعواقب وقسوة هذه الانتكاسة بعد إنتفاضة وثورة لم تبلغ غاياتها.
*
في زيارة أخرى لتونس خلال خريف 2014 جلست استمع لساعات إلى هذا المناضل اليساري وهو ينافس في الحماس والتدفق شابتين ـ هما ” غادة الميساوي” و”نسرين دالي”ـ في تقديم رواية تجربة جمعية ” دستورنا” بعد الثورة التونسية في ممارسة الديمقراطية التشاركية والعمل بين المواطنين وفي الشارع، وصولا إلى اعتصامات في الفضاءات العامة معارضة لأخطاء حكم حزب حركة النهضة. وقد أضفى “الحزقي” على سرد هذه التجربة تأصيلا تاريخيا في فهم عمق المجتمع المدني التونسي. وهي رواية عن “دستورنا” وثقتها ونشرتها في كتاب ” الديمقراطية الصعبة : رؤية مصرية للانتقال التونسي “. وفيها وبغيرها ضمن الكتاب ذاته ما يرد على زيف إهانة وازدراء دستور 2014 لحساب تاريخ 25 يوليو 2021 المستجد المصطنع، وأيضا على إهدار نضالات المواطنين التونسيين من أجل الحريات والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بعد الثورة. وهذا مع الاقرار بسلبيات وعثرات ستظل الديمقر اطية والمزيد من الديمقراطية والحريات والحقوق هي الكفيلة بتصحيحها ، لا بالعودة إلى حكم الاستبداد والفرد.
“عز الدين الحزقي” الذي يناهز عمره اليوم 75 سنة ـ مبتسما كما عهدته ـ أراه اليوم عبر وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي يتقدم إضراب جوع بدأ يوم 23 ديسمبر 2021( مرفق في نهاية المقال نص بيان إعلان الإضراب) ضد الانقضاض على ماتحقق من مكتسبات سياسية ديمقراطية لثورة 17 ديسمبر 2010 / 14 يناير 2011 وللتصدى للمنزلق الذي قد يقود الرئيس المنتخب ديمقراطيا ” قيس سعيد ” تونس إليه. مدعوما بتحالف اجتماعي سياسي قوامه بالأساس قوى ورموز دكتاتورية “بن علي” مع “قوميين غير ديمقراطيين” طالما ساندوا الطغاة العرب، وبدعم سافر من حلف إقليمي معاد لحريات الشعوب وحقوق المواطنة.
و إذا كانت إضرابات الجوع لم تتوقف في تونس بعد الثورة لدوافع اجتماعية مطلبية ، فإن هذا الاضراب يعد أول عودة لإضرابات الجوع من أجل الحقوق السياسية والتي طالما عرفتها البلاد في زمن دكتاتورية ما قبل الثورة. وقد اضطر معارضو الرئيس ” قيس سعيد ” للعودة إلى هذا الأسلوب النضالي وبالمخاطرة بالصحة والحياة بعدما قامت قوات الأمن بفض اعتصامهم السلمي قرب شارع الحبيب بورقيبة بالقوة والعنف، واعتقلت نحو عشرة من بينهم حتى كتابة هذا النص .
ولإضرابات الجوع زمن دكتاتورية ” بن علي” حكاية مؤسفة في الصحافة المصرية. لكنها محفورة في الذهن على نحو خاص على بعد آلاف الأميال مع الصحفي الذي كنته بقسم الشئون العربية في جريدة “الأهرام” مطلع الألفية. وقد رويتها في مقدمة كتاب ” نظرتان على تونس بعين مصرية من الدكتاتورية إلى الديمقراطية ” الصادر نهاية عام 2011 من صفاقس والقاهرة . وكما وردت في هذه المقدمة على النحو التالي:
” ما أذكره جيدا وزميلتي بقسم الشئون العربية بجريدة ” الأهرام ” الدكتورة ” إيناس طه” أننا حينما كنا نعمل معا وحدنا بفترة الطبعة الثانية للصفحة الإخبارية اليومية المختصة بالعالم العربي كل يوم جمعة في مطلع الألفية الجديدة ظلت تأتينا أنباء من تونس عبر وكالات الأنباء الغربية عن إضرابات الجوع لنفر من النقابيين أو المحامين أو الصحفيين إحتجاجا على ديكتاتورية نظام “بن على ” شبيه وحليف نظام ” مبارك “. ولأننا ـ الدكتورة وأنا ـ على نغمة واحدة نشاز تختلف عن حال قيادة القسم وغالبية أعضائه، فقد أخلصنا للإهتمام بهذه الأنباء و ترجمتها وتحريرها والدفع بها الى بروفة الطبعة الثانية وإجازتها من المسئول عن الطبعة دون يأس. أقول دون يأس لأنه ببساطة ظلت الأنباء ـ وهي بالأصل على مساحة عامود واحد ليس إلا ـ تختفى عند طباعة عدد السبت . والحقيقة أن الدكتورة وأنا في مؤامراتنا الصغيرة لتمرير أنباء إعتاد أن يلقيها رئيس القسم ومسؤليه من زبائن وكالة الإتصال الخارجي التونسية فورا في سلة المهملات لم ننجح ولو لمرة واحدة . كنا في مساء كل جمعة نفعل كل ما علينا من ترجمة وتحرير نبأ إعتصام الجوع التونسي منسوبا الى مصادره ( وكالات الأنباء ) .ونقدمه مع بقية الأخبار والإضافات المطلوبة للطبعة الثانية . وربما كنا نتخابث معا فلا نضع خبر تونس أبدا في مقدمة المواد المطلوب إجازتها من سلطة التحرير المركزية المكلفة بالطبعة الثانية . ومع ذلك ودائما كأن ثقبا أسودا يتكفل بإبتلاعها جميعا قبل أن تصل الى قارئ ” الأهرام “. ولا أذكر هنا أننا ـ الدكتورة وأنا ـ جرؤنا على الشكوى أو الإعتراض أو تتبع مسار الأخبار المحظورة الى ثقبها الأسود . فقط إكتفينا بممارسة نوع من العناد السلبي . لم نيأس من تحرير خبر إضرابات الجوع كل يوم جمعة. وكأننا كلينا يبرئ ضميره الأخلاقي والحقوقي و المهني . أما هم فلم ييأسوا من جانبهم أبدا من المنع . فيصدر ” أهرام ” كل سبت كغيره من أيام الأسبوع خاليا مما يفيد بإعتراض ما على الدكتاتورية في تونس ، حتى و لو إتخذ هيئة إضراب جوع يخوضه نفر من مثقفي هذا البلد” .
*
لعله من المؤسف أنني وبعد أكثر من عشرين عاما وفي سياق الانقضاض على القليل الذي تحقق من ايجابيات الثورات والانتفاضات بمنطقتنا لن أندهش عندما أعلم بأن نشر ولو مجرد خبر صغير عن إضراب جوع ” الحزقي ” ورفاقه بتونس اليوم من قبيل المستحيلات. أو ربما أصبح أكثر استحالة في ” الأهرام “وكافة الصحف والمواقع المصرية التي لا تتعرض للحجب .
لكن تظل التحية مستحقة وواجبة اليوم إلى “عز الدين الحزقي” ورفاقه من مختلف الأجيال والانتماءات الذين يخوضون إضراب جوع من أجل تونس الذين يحلمون بها.. ومن أجل حياة أفضل في عالمنا المشترك .. من أجل الأمل .
حقا .. صورة ” عز الدين الحزقي” طفلا مبتسما مضربا عن الطعام في عامه الخامس والسبعين تهز المشاعر وتستدعي التفكير. وهي تدخل الى الأفئدة على بعد آلاف الأميال متحدية المنع والحجب وكافة أشكال الرقابة .. والاختلافات السياسية والفكرية ومعها كافة ألوان التضليل الدعائي .. وتتحدى الصمت .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نص بيان إعلان إضراب الجوع بتونس :
بيان إضراب جوع لمجموعة من
الشخصيات الوطنية المناهضة للانقلاب
تحيّــة إلى كل الأحرار
أفصح خطاب قيس سعيد يوم 13ديسمبر بوضوح لم يعد يحتمل الشك أنّ الانقلاب ماض بلا تراجع في استكمال الإجهاز على ما تبقّى من المسار الديمقراطي والإلغاء التام لدستور 2014
لقد تبيّن بوضوح للجميع أنّ قيس سعيد يتّجه قدما إلى تثبيت حكمه الفردي المتنكر تحت شعارات شعبوية.
في السياق نفسه كان الاعتداء الوحشي على اعتصام المواطنين والمواطنات المناهضين للانقلاب يوم 18 ديسمبر منعرجا خطيرا أُقحمت فيه المؤسسة الأمنية بوضوح في هذا المسار الانقلابي وأسقطت ادِّعائه الباطل عن عدم استهداف الحقوق والحريات وبأنه لم يعطّل الباب المتعلّق بهذا المجال في دستور 2014
لقد أصبح واضحا الآن أنّنا نواجه انقلابا يدفع بالقوة الصلبة للدولة في معركته مع معارضيه بعد أن استُحكمت عزلته داخليا وخارجيا.
وبناء على هذا المنعرج الخطير لم يعد أمام القوى الديمقراطية المعارضة للانقلاب إلاّ أن تدخل الآن مرحلة الدفاع عن الحرية بأجسادها لتـنبيه الحركة الحقوقية وطنيا ودوليا على أنّ سلطة الأمر الواقع تتجه نحو القمع العاري والإغلاق النهائي لمربّع الحريات
من هذا المنطلق نعلن دخولنا في إضراب جوع احتجاجي كشكل متقدّم من أشكال النضال الديمقراطي في مواجهة حكم فردي يدفع نحو استعمال آلة القمع ومؤسسات الدولة لإخماد كل أصوات معارضيه وإغلاق الباب أمام محاولات البحث عن حل وطني وديمقراطي للمأزق الذي وضعتـنا فيه منظومة أمر 117
يهــدف إضرابنا عن الطعام إلى:
أولا: السراح الفوري لكلّ النواب و المساجين السياسين وإيقاف كلّ المحاكمات العسكرية والتوقف عن الإساءة إلى الجيش الوطني ومحاولات توريطه في المسار الانقلابي
ثانيا: إطلاق سراح بقية من تمّ اعتقالهم يوم 18 ديسمبر 2021 على خلفية التحركات السلمية الأخيرة وإيقاف كلّ التتبّعات المتعلقة بحقّهم.
ثالثا: الكف عن تهديد القضاء وهرسلته ومحاولة توظيفه في مسار تصفية الخصوم السياسيين على غرار فضيحة المحاكمة الوهمية و الحكم الجائر الصادر في حق المناضل و رئيس الجمهورية الأسبق محمد المنصف المرزوقي
رابعا: العدول عن كلّ ممارسات التضييق والمنع والاعتداء بالعنف على تحركات الاحزاب والمواطنين وضمان حقّ الجميع في التظاهر والتعبير بكل الأشكال التي يختارونها ويقرّها دستور 2014
خامسا: الكفّ عن توظيف المؤسسة الأمنية والتوقّف عن إقحامها في الصراع السياسي ولا سيما عبر اختراقها بالتعيينات القائمة على أساس الولاءات السياسية.
سادسا: التوقف عن محاصرة حرية الإعلام وتعطيل حقّ النفاذ إلى المعلومة وتضليل الراي العام وتعطيل الهيئات الوطنية الحقوقية عن أداء مهامها.
وإنّنا إذْ نعلن عن هذا الإضراب الاحتجاجي فإنّنا ندعو الشعب التونسي في الداخل والخارج والقوى السياسية والمدنية من أحزاب ومنظمات وهيئات حقوقية ونقابات وشخصيات وطنية ومثقفين وإعلاميين إلى مساندة هذا الإضراب والمشاركة في كلّ أشكال دعمه دفاعا عن الحرية والديمقراطية والحقوق الكونية للإنسان.
تحيــا تونس ويحيا أبناؤها الأوفياء المناضلون من أجل الغد الأفضل
تونس ، في 23 ديسمبر 2021.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *