كأنك عم تقطع الحياة| “هيومن رايتس ووتش”: أزمة الكهرباء تُفاقم الفقر وعدم المساواة بلبنان
الأسر ذات الدخل المنخفض مهددة تتخلف عن سداد النفقات الأساسية لإنفاقها أكثر من دخلها على فواتير المولّدات
السياسيون يستغلون أزمة الكهرباء لتعزيز أهدافهم السياسيّة بتوزيع الوظائف وجني أرباح هائلة
قالت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقرير أصدرته اليوم، الخميس 9 مارس 2023، إنّ السلطات اللبنانية تقاعست عن ضمان الحق في الكهرباء بسبب سوء إدارتها للقطاع على مدى عقود.
وأوضح التقرير الصادر في 113 صفحة بعنوان: “كأنك عم تقطع الحياة‘: تقاعس لبنان عن ضمان الحق في الكهرباء”، أنّ الكهرباء أساسيّة بالنسبة إلى جميع مناحي الحياة تقريبا، وهي ضرورية للمشاركة في المجتمعات المعاصرة، وبالتالي فإنّ الحق المحميّ دوليا في مستوى معيشي لائق يشمل حقّ كل شخص، دون تمييز، في الحصول على كهرباء كافية، وموثوقة، وآمنة، ونظيفة، ومُتاحة بتكلفة معقولة.
وتوفر الحكومة اللبنانية حاليا الكهرباء فقط لمدّة تتراوح بين ساعة وثلاث ساعات في المتوسّط، بينما يسدّ الأشخاص القادرون على دفع تكاليف إضافية نقص التغذية الكهربائية بمولّدات خاصّة، وتعتمد الكهرباء التي يوفرها القطاع العام والمولّدات الخاصة على الوقود الأحفوري الملوِّث بشدة وذي التأثير الكبير على المناخ. أزمة الكهرباء فاقمت عدم المساواة في البلاد، وقلّصت بشكل حاد من قدرة الناس على التمتع بأبسط الحقوق الأساسية، ودفعتهم نحو مزيد من الفقر.
وقالت لما فقيه، مديرة قسم الشرق الأوسط في هيومن رايتس ووتش، إن أزمة الكهرباء في لبنان تترك الناس في العتمة، وتحدّ كثيرا من حصولهم على حقوقهم الأساسية الأخرى مثل الحق في الماء والتعليم والرعاية الصحيّة. الوضع البائس في لبنان يُبيّن أنّ الحصول على كهرباء آمنة ونظيفة وبتكلفة معقولة ليس من الكماليات، بل هو حق من حقوق الإنسان التي يتعيّن على الدولة إعمالها.
ومنذ ما يقرب من 30 عاما، لم تُحسن الدولة إدارة “مؤسسة كهرباء لبنان”، شركة الكهرباء التي تديرها الدولة، مما يتسبب في انقطاع الكهرباء على نطاق واسع. هذه العقود من السياسات غير المستدامة والإهمال الواضح، نتيجة سيطرة النخبة على موارد الدولة والفساد المزعوم والمصالح الخاصة، تسببت في انهيار القطاع بالكامل في 2021، في خضمّ الأزمة الاقتصاديّة المستمرّة، مما ترك البلاد بلا كهرباء في معظم أوقات اليوم.
وعدت الحكومات المتعاقبة على مدى عقود بإصلاح قطاع الكهرباء، لكن هذه الوعود لم تتحقق. بدلا من تعيين أعضاء في “هيئة تنظيم قطاع الكهرباء” المستقلة، حسبما ينصّ عليه القانون، استمرّ مجلس الوزراء، وخاصة وزير الطاقة والمياه، في ممارسة سيطرة شبه كاملة على القطاع، دون أي شفافية أو مساءلة تُذكر. يتولّى وزير الطاقة والمياه الإشراف على إصدار تراخيص وتصاريح الانتاج، ووضع سياسات القطاع والإشراف على تنفيذها، والرقابة المالية.
واستخدم السياسيون والأشخاص المرتبطون بالطبقة السياسية قطاع الكهرباء لتعزيز أهدافهم السياسيّة، بما في ذلك من خلال توزيع الوظائف في هذه الشركة التي تديرها الدولة لجني أرباح هائلة من العقود المربحة، غالبا على حساب الدولة، وجني الأرباح من قطاع المولّدات الخاصّة.
وسوق مولّدات الديزل [المازوت] الخاصة المربحة، رغم كونها مُكلِفة وتتسبب بتلوث شديد، تسد فجوة التغذية بالكهرباء منذ عقود، لكنها متاحة فقط لمن يستطيع تحمّل تكلفتها. أصبح الحصول على كهرباء مستقرة في لبنان خدمة لا يستطيع تحمّلها سوى الأثرياء، ممّا يعمّق عدم المساواة المتجذر في البلاد، ويدفع الناس نحو مزيد من الفقر.
منذ أكتوبر 2019، غرق الاقتصاد اللبناني في أزمة ماليّة عميقة بلغت ذروتها في أوّل تعثر سيادي للبلاد في مارس 2020. التداعيات الاقتصادية لجائحة “كورونا”، والمأزق السياسي، وانفجار مرفأ بيروت في أغسطس 2020 كلها أسباب فاقمت الركود الاقتصادي وسرّعت في انهيار الاقتصاد. ارتفع معدّل التضخم إلى 145% في 2021، ليضع لبنان في المرتبة الثالثة عالميا من حيث أعلى معدلات التضخم، بعد فنزويلا والسودان. بلغ التضخم السنوي للكهرباء والغاز والمياه ذروته عند حوالي 600% في يونيو 2022.
وتسببت الأزمة الاقتصادية وأزمة الكهرباء في تقويض سبل عيش عشرات الآلاف من الأشخاص. كما أدّت البطالة، وتراجع التحويلات المالية، ورفع الدعم عن الواردات الأساسيّة إلى دفع ملايين الناس نحو الفقر وتفاقم البؤس. تقدّر “الأمم المتحدة” أنّ أكثر من ثلثي سكّان لبنان يعيشون تحت خطّ الفقر.
وتعاونت “هيومن رايتس ووتش” مع “مؤسسة البحوث والاستشارات”، وهي شركة أبحاث محليّة، لإجراء مسح شمل أكثر من 1,200 أسرة.
وأظهرت نتائج هذا المسح مدى مساهمة أزمة الكهرباء في تفاقم عدم المساواة، ودفع الناس إلى الفقر، وعرقلة حصولهم على حقوقهم الأساسية، مثل الحق في الغذاء والماء والصحة، والتسبب في تلوث واسع للهواء يؤثر على البيئة والصحة ويساهم في تفاقم أزمة المناخ.
وقالت 9 من كل 10 أسر شملها المسح إنّ تكلفة الكهرباء أثرت على قدرتها على دفع تكاليف الخدمات الأساسيّة الأخرى.
كما أن الحصول على الكهرباء مولّد خاص أو تجاري لسدّ الفجوة الحاصلة في كهرباء الدولة يعتمد على الدخل. في فئة الـ20% من الأسر الأكثر فقرا، هناك أسرة من كل 5 أسر لا تحصل على الكهرباء من مولّد. بالإضافة إلى ذلك، تنفق الأسر ذات الدخل المنخفض حصّة أكبر بكثير من دخلها على فواتير المولّدات مقارنة بالأسر الأكثر ثراءً، مما يفرض ضغوطا على ميزانيات الأسر ويجعلها أكثر عرضة للتخلّف عن سداد النفقات الأساسية الأخرى.
وقالت نسبة عالية من الذين شملهم المسح إنّ انقطاع الكهرباء أثر على قدرتها على القيام بالمهام المنزليّة العاديّة المرتبطة بالحقوق، مثل الحصول على الماء أو طهي الطعام أو المشاركة في أنشطة التعليم والعمل.
وبالإضافة إلى الضرر غير المتناسب الذي يلحق بالأسر ذات الدخل المنخفض، يتسبب اعتماد منظومة الكهرباء في لبنان على محطّات تعمل بزيت الوقود الثقيل وعلى مولدات المازوت في تلوث الهواء بشكل كبير، مما أثر بشدة على البيئة وتسبب في تداعيات وخيمة على صحة السكّان، وأدّى إلى وفاة الآلاف منهم كل عام بحسب بيانات “جرينبيس”.
ولم تستثمر الحكومة اللبنانية في مصادر الطاقة المتجدّدة، رغم أنها قدّرت أنّ موارد لبنان من الطاقة الشمسيّة وطاقة الرياح يُمكن أن تزوّد البلاد بأضعاف حاجتها من الطاقة. في 2019، بلغت حصّة مصادر الطاقة المتجدّدة من إجمالي إنتاج الكهرباء في لبنان 7.83% فقط، منها 0.73% فقط من الطاقة الشمسيّة و1.82% فقط من الطاقة الكهرومائيّة.
وحملت “هيومن رايتس وتتش” السلطات اللبنانيّة المسؤولية عن الانتهاكات اليوميّة لحق السكان في الكهرباء وفي تحقيق مستوى معيشي لائق، وفي التعليم والصحة والبيئة الصحية، التي تتسبب فيها أزمة الكهرباء المستمرّة، مطالبة السلطات اللبنانية باتخاذ خطوات فوريّة وعاجلة لضمان حصول جميع السكان على كهرباء مستمرة ونظيفة وبتكلفة معقولة، وغير مساهمة في أزمة المناخ، مع التركيز على زيادة قدرة الإنتاج من الطاقة الكهرومائية وطاقة الرياح والطاقة الشمسيّة.
وأوضحت آن الانتقال السريع إلى مصادر الطاقة المتجددة سيساعد لبنان على توفير المزيد من المال وخلق المزيد من فرص العمل، وسيزيد من انقاذ الأرواح وسيخفّض من تلوث الهواء. ينبغي للسلطات أيضا اتخاذ خطوات لإنشاء نظام حماية اجتماعية شامل يضمن منافع للناس طيلة حياتهم، مثل منح الأطفال وإعانات البطالة ومعاشات الشيخوخة.
كما دعت المنظمة المؤسسات المالية الدولية، مثل “صندوق النقد الدولي” و”البنك الدولي”، حث الحكومة اللبنانية على إصلاح قطاع الكهرباء بما يتماشى مع التزامات لبنان في مجال حقوق الإنسان، وضمان حصول كل الناس، بغضّ النظر عن وضعهم الاقتصادي والاجتماعي، على الكهرباء وقدرتهم على تحمل تكلفتها. يتعين على البنك الدولي الامتناع عن تمويل أي مشاريع طاقة جديدة تعتمد على الوقود الأحفوري، وتقديم الدعم الفني والمالي لتوسيع البنية التحتية للطاقة المتجددة بدلا من ذلك.
وأكدت مديرة قسم الشرق الأوسط في “هيومن رايتس ووتش”، أنه يتعين على لبنان اتخاذ اجراءات فوريّة لتعزيز قطاع الكهرباء والتصدّي للتآكل المستمرّ للحقوق الاقتصاديّة الأساسيّة، على أن تستثمر الحكومة في مصادر الطاقة المتجددة التي ستخلق فرص عمل وتخفض التلوث، وتُمكن الناس في لبنان من الحصول على كهرباء موثوقة وآمنة ونظيفة”.