قراءة في الانتخابات الأمريكية.. لماذا خسر الديمقراطيون؟ ولم ينتصر الجمهوريون؟
قراءة وتحليل – محمد صابر البطاوي
“أقل خسارة، ومكسب منكسر، تراجع أزرق لكنه أفضل من المتوقع، موجة حمراء تكسرت مبكرا”.. كلها تعبيرات استخدمها سياسيون أمريكيون ومحللون (بما فيهم الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن نفسه) لوصف انتخابات التجديد النصفي التي جرت على كامل مقاعد مجلس النواب وثلث مقاعد مجلس الشيوخ (35 مقعدا من بين مئة مقعد) وحكام معظم الولايات (36 ولاية من بين 50).
وعلى الرغم من أنه لم يتم حسم جميع المقاعد في المجلسين، وبالتالي الأغلبية، فإنه على الأقل تكشفت ملامح وحجم التراجع الديمقراطي وحقيقة المد الجمهوري.. ولهذا خرج بايدن سعيدا (رغم الخسارة) وظهر ترامب متجهما متحدثا عن التزوير مجددا (رغم التقدم).
وفقا لإحصاءات ABC نيوز، فإن الجمهوريون يتجهون لحسم أغلبية بسيطة في مجلس النواب، حيث حصدوا 211 مقعدا حتى الآن، وتفصلهم 7 مقاعد فقط ليحوزوا الأغلبية التي تبدأ من 218 مقعدا، في المقابل حصد الديمقراطيون 204 مقاعد، أي أنه يفصلهم 14 مقعدا عن الأغلبية، ورغم أن أكثرية المقاعد المتبقية تميل لصالح الديمقراطيين، فإنه من الصعب أن يصلوا إلى الرقم الذهبي قبل الجمهوريين.
أما مجلس النواب فإن آمال الديمقراطيين فيه أكبر، حيث حصدوا 48 مقعدا، في مقابل 49 مقعدا لصالح الجمهوريين، ويتبقى 3 مقاعد فقط يجري التنافس عليها، مقعد جورجيا الذي ستجري عليه جولة إعادة، ومقعد أريزونا الذي يميل بقوة لصالح الديمقراطيين، ومقعد نيفادا، ورغم أن الجمهوريين متقدمين (حتى الآن) في نيفادا، فإن الأصوات المتبقية للفرز هي أصوات البريد، ومنطقة لاس فيجاس التي تصوت عادة لصالح الديمقراطيين، كما أن تقدم المرشح الديمقراطي يأتي بنسبة ضئيلة.. ولذلك سارع الجمهوريون إلى اتهام النظام الانتخابي في نيفادا بالفساد. وإذا حصد كل من الحزبين 50 مقعدا، فإن الصوت المرجح سيكون لصالح كمالا هاريس نائبة الرئيس الأمريكي، وهي ديمقراطية بالطبع.
حكام الولايات لها وضع مختلف، إذا لا يوجد مجلس يمثلهم، ولذلك تعتبر الإحصاءات التي تعد أرقام الحكام الجمهوريين والديمقراطيين غير كاشفة للحقيقة، حيث إن العدد الكلي سيكون لصالح الجمهوريين، رغم أن الحقيقة هي أن الديمقراطيين حققوا تقدما ملموسا في هذا الجانب؛ إذ خسر الفيل مقعدين لصالح الحمار. كما أن مزاج الناخب الأمريكي يفضل حاكما جمهوريا للولاية، ونائبا ديمقراطيا للحكومة الفيدرالية.
لماذا خسر الديمقراطيون؟
أضاع الديمقراطيون فرصة ذهبية للحفاظ على أغلبية المجلسين إلى جانب الرئاسة، حيث لا يزال الجمهوريون يعانون من قيادة متطرفة تتمثل في تيار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، إلى جانب الوصمة المشينة لهم منذ أحداث السادس من يناير 2021، التي اقتحمت خلالها أعداد من أنصار ترامب مبنى الكونجرس لتعطيل التصديق على خسارة مرشحهم.
ورغم أن رفض الديمقراطية والتلويح بأعلام الكونفدرالية وأصوات الانفصال والتقسيم تعد خطيئة وعارا عادة ما يعاقب صاحبها بخسارة فادحة، وكلها أفعال ارتكبها أنصار تيار ترامب المتطرف، فإن الديمقراطيون فشلوا في ترجمة ذلك لصالحهم؛ بل على العكس، كانت استطلاعات الرأي تشير إلى احتمالية أن يخرجوا بهزيمة ثقيلة وأن يحقق الترامبيون نصرا عريضا.
ما الذي حدث إذن؟ لماذا خسر الديمقراطيون رغم ذلك؟
1- غياب القيادة: خاض الديمقراطيون الانتخابات دون قيادة حقيقية، حيث إن الرئيس الأمريكي المسن جو بايدن لم ينجح في أن يكون ذلك القائد المحفز أو يبرز بكاريزما تبهر الشباب وتقنع الناخب الأمريكي بديناميكية الحزب وحيويته. نائبة الرئيس أيضا كمالا هاريس لم تظهر، ورغم أن نائب الرئيس عادة ما يغرق في المهام الإدارية ويتوارى عن الأنظار، فإن كثيرين توقعوا أن تظهر كمالا تحديدا خلافا للقاعدة لتعطي صورة أكثر شبابا لإدارة الرئيس الأكبر سنا في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. ولا يعتبر الأمر مختلفا بالنسبة لرئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي التي تمتع بسن كبير وخبرة جيدة لكنها بعيدة عن القيادة الحماسية الشبابية القوية التي تحتاجها أي حملة انتخابية. ورغم أن الحزب الديمقراطي خاض الانتخابات بمؤسسة قوية؛ لكن تلك المؤسسة لم تكن لها قيادة واضحة تمثلها وتتحدث باسمها وتواجه ترامب (مثلا) الذي كان رمزا طاغيا للحزب الجمهوري.. حتى لو كان رمزا متطرفا.
2- المشكلات الاقتصادية: خاض الديمقراطيون الانتخابات وسط مشكلات اقتصادية طاحنة يعاني منها العالم (وأمريكا طبعا) أدت لارتفاع الأسعار بشكل واضح وخاصة الوقود، ورغم أن العالم عادة ما ينظر إلى الناخب الأمريكي باعتباره مثقفا رصينا يقدم المصلحة الوطنية والعالمية والدولية على المشكلات الاقتصادية الجزئية إلا أن تلك النظرة الأفلاطونية الحالمة ليست دقيقة تماما، إذ إن الناخب الأمريكي (كأي ناخب) يهتم بشدة بالمشكلات الاقتصادية والأسعار ربما أكثر من تهديدات الديمقراطية الأمريكية.
3- ضعف إدارة بايدن: كثرت سقطات الرئيس الأمريكي جو بايدن في اللقاءات والبيانات التي يصدرها، وضغطت حملة ترامب في إظهاره في مظهر الرئيس الخرف الذي لا يستطيع تعريف نائبته كمالا هاريس أو زوجته ويصافح الهواء. أظهرت حملة ترامب الحزب الديمقراطي في مشهد المسن الخرف الذي يهذي أحيانا. تحتل صورة القوة والحيوية أهمية كبيرة عند النائب الأمريكي. كما أن ردود بعد القادة الدوليين على بايدن وتحديهم له (دول الخليج تحديدا) أضرت بصورة بايدن كرئيس لأقوى دولة في العالم.
4- اللهجة التحذيرية: دأبت حملات الديمقراطيين على التحذير من التصويت للجمهوريين المؤيدين لترامب باعتبارهم خطرا وتهديدا للديمقراطية الأمريكية، ورغم صدق ذلك، فإن تركيزهم على تلك النقطة تحديدا أكثر من غيرها شكل دعاية سلبية للجمهوريين، وبينما كان الجمهوريون يكلمونهم على خطوات وبرامج ويتهمون الديمقراطيين بالفشل الاقتصادي في مسائل محددة.. كان الديمقراطيون يتشبثون بنقطة تهديد الديمقراطية.
5- قضايا التعليم: “كل ليبرالي.. هو محافظ مع أطفاله وأهل بيته”، مقولة معروفة في بعض المناطق الأمريكية، وتشير إلى أنه حتى أولئك المؤيدين لليبرالية، فإنهم يكونون أكثر محافظة فيما يتعلق بقضايا أطفالهم، لذلك صوت بعض أنصار الأقليات المحافظة في بعض المناطق (المسلمون مثلا) لصالح الحزب الجمهوري (رغم أن الحزب الديمقراطي أكثر تقبلا لهم)، وذلك بسبب إصرار الديمقراطيين على تدريس مقاطع مثيرة للجدل حول الحرية الجنسية وخلافه. ترامب مثلا استنكر بشدة تدريس تلك المقاطع بينما لا يمكن للمسيحيين تدريس مقاطع من الإنجيل لأبنائهم في المدارس.
وإذا امتدت الأمور إلى حد تأييد الديمقراطيين حرية دخول دورات المياه (باعتبار اختيار الشخص) في ظل حدوث وقائع تحرش أو اغتصاب في دورات مياه المدارس الثانوية والإعدادية مثلا فإن تلك القضية ستكون مؤثرة سلبا بشكل كبير، الحقيقة أنه حتى بعض الأماكن المؤيدة بشدة للديمقراطيين صوتت لحاكم جمهوري لأنه تعهد بعدم السماح بوجود “العبث” الذي يسعى له الديمقراطيون (شهدت تلك المناطق واقعتي اغتصاب في دورات مياه مدارس ثانوية).
6- التقدميون: في غياب رمز وقائد معتدل للحزب الديمقراطي، سطع نجم التقدميون الذين كانوا أكثر شبابا وحماسا داخل الحزب وانتخاباته، لكن التقدميون الشباب خطوا خطوات أسرع مما يحتملها المجتمع الأمريكي نفسه، وربما فاجأته وأخافته، ورغم أن معظم التقدميين فازوا بأغلبية مريحة جدا في دوائرهم (إلهان عمر مثلا)، لكنه تجب الإشارة إلى تلك الدوائر هي ديمقراطية أصلا بطبعها، ولم يواجهوا أي مرشح قوي متزن.. وتأثيرهم السلبي جاء في الدوائر المترددة.
على سبيل المثال؛ بعد حادثة جورج فلويد، قاد التقدميون مظاهرات رفعت مطالب ولافتات عديدة، بينها لافتات قطع التمويل عن الشرطة! الحقيقة أنه (رغم تجاوزات رجال الشرطة الأمريكية وعنصريتهم أحيانا) فإنه في المجتمع الأمريكي الذي يعاني معدلات عنف مرتفعة يعتبر وجود الشرطة صمام أمان لا غنى عنه، كما أن نسب تجاوزات الشرطة تظل أقل بكثير من دول أخرى. هذا المطلب مثلا أضر كثيرا بوضع الحزب الديمقراطي في أوساط عائلات رجال الشرطة وأصدقائهم ومؤيديهم وكثير حتى من المراقبين المحايدين.
لماذا لم ينتصر الجمهوريون؟
أهدر الحزب الجمهوري نصرا عريضا وموجة حمراء طاغية بشرت بها مراكز استطلاع الرأي والتوقعات، حيث خاض الجمهوريون انتخابات ضد حزب حاكم يعاني من غياب القيادة ومحاط بالمشكلات الاقتصادية التي تعتبر أحد العوامل الحاسمة في أي انتخابات، هذا إلى جانب العديد من المشكلات الأخرى التي عانت منها إدارة الرئيس جو بايدن ودفعت شعبيته إلى التراجع بشكل كبير.
ورغم أن الجمهوريون يتجهون لحسم أغلبية مجلس النواب، فإن فوزهم جاء باهتا، وأقل بكثير من المتوقع، إضافة إلى خسارتهم مقاعد في مجلس الشيوخ، ومقاعد في حكام الولايات، إلى الحد الذي دفع الرئيس الأمريكي إلى الخروج مزهوا وسعيدا في خطابه الذي جاء بعد يوم واحد من الانتخابات مؤكدا أن المزاج الأمريكي يصوت دائما عكس الرئيس الموجود في السلطة، وإنه خسر أقل عدد من المقاعد في تاريخ الرؤساء الأمريكيين السابقين.
ما الذي حدث إذن؟ لماذا لم ينتصر الجمهوريون؟
1- ترشيحات ترامب: رغم أن ظهور الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب كزعيم للحزب قد أفاده في حشد المتطرفين وإظهار وجود قائد للحزب، لكنه أضر به كذلك بشكل كبير من جهتين، أولا من جانب تنفير الذين يرون ترامب متطرفا خطرا على الولايات المتحدة، ولذلك فإنهم على استعداد لأن ينتخبوا فاشلا بدلا من متطرف مجنون (من وجهة نظرهم)، وثانيا من جهة تدخلات ترامب في اختيار مرشحي الحزب، حيث أبعد الذين لا يظهرون ولاءً تاما له (حتى ولو كانوا مرشحين أقوياء وربما نوابا سابقين) ووضع مرشحين ضعافا أكثر ولاءً له.
في بنسلفانيا مثلا دفع مرشحا لمجلس النواب من خارج الولايات أصلا (محمد أوز)، وذلك على المقعد الذي كان يشغله نائب جمهوري سابق. ورغم أن المرشح الديمقراطي (فيترمان) ظهر في المناظرة مع أوز أضعف وأصيب كذلك بجلطة دماغية.. فإن الديمقراطيين نجحوا في قلب ذلك المقعد الذي يمتلكه الجمهوريين ليكون مقعدا أزرق. قس على ذلك مرشحي ترامب الذين أضروا بشدة بصورة الحزب لورين بيوبرت مثلا التي كانت تنشر صورها تحمل بندقية وتطلق النار في الهواء وكأنها مقبلة على غارة وليست سياسية أمريكية في منافسة انتخابية.. وهيرشل ووكر الذي يتهمه الجمهوريون أنفسهم بأنه مؤيد للإجهاض، وغيرهم.
2- أجندة الحزب: دفع الحزب الديمقراطي بعدد من القضايا إلى قائمة أولوياته رغم أنها قضايا خلافية لن تحشد الناخبين خلفه، وذلك في ظل وجود قضايا متفق عليها، على سبيل المثال دفع الحزب بقضية الإجهاض بشكل كبير، حيث يسعى إلى منعه، وهي قضية مثار جدل كبير في الولايات المتحدة، خاصة أن النساء يملكن حق الإجهاض بموجب القانون منذ سبعينيات القرن الماضي.. ولم يركز الحزب بشكل تفصيلي مماثل على حلول للمشكلات الاقتصادية وإجراءاته التي يعتزم اتخاذها رغم أنها المشكلة الأساسية.
3- انقسام الحزب: يعتبر انقسام الحزب الجمهوري والحملة الضارية التي يشنها ترامب ضد معارضيه داخل الحزب، وإطاحته كل من لا يظهر ولاء كاملا له سببا رئيسيا في ذلك النصر الباهت، أريزونا مثلا صوتت مجددا للحزب الديمقراطي، ولا يمكن إغفال أن أريزونا كانت ولاية الجنرال الجمهوري المخضرم جون ماكين الذي توفي وهو على خلاف قوي مع ترامب، حتى ليندسي جراهام القائد القوي للحزب الجمهوري لا يحظى برضى تيار ترامب الذين يهاجمونه ويعتبرونه مواليا للديمقراطيين وذلك لسبب مضحك هو أنه مؤيد لقضايا المناخ والحفاظ على البيئة، ناهيك حتى عن وعيد ترامب لزعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل عن ولاية كنتاكي بأنه لن يحتفظ بمنصبه (إذا نجح أنصار ترامب في حصد الأغلبية) لسبب مضحك آخر وهو أنه لم يقاطع جلسة إقرار وتمرير نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2020 التي خسر فيها ترامب.
هذا الانقسام جعل كثيرا من القيادات والأنصار التقليديين التاريخيين للحزب يحجمون (على الأقل) عن دعم أنصار ترامب المرشحين في ولاياتهم بشكل قوي وعلني.. بعضهم صوت ضدهم أحيانا بشكل سري.
4- تهديد الديمقراطية: الحقيقة أن الحزب الجمهوري دفع كذلك ضريبة أحداث السادس من يناير 2021، وذلك لأنه لم يحاسب المسؤولين عن ذلك، ولم يبعد المتطرفين (وعلى رأسهم ترامب) عن رئاسته، وقد ركز الحزب الديمقراطي على أن الديمقراطية تواجه تهديدا، في إشارة واضحة إلى أن ترامب رفض نتائج هزيمته في انتخابات الرئاسة 2020، واقتحم أنصاره الكونجرس في محاولة لمنع تمرير نتائجا، ورغم أن تلك النقطة تراجعت في خضم المشكلات الاقتصادية إلا أنها بقيت حاضرة، ونظرة واحدة على نتائج الحزب الجمهوري ستكشف أن معظم الخاسرين في المناطق المفصلية هم في الحقيقة مرشحو ترامب وأنصاره الذين شاركوا في رفض نتائج الانتخابات الرئاسية وربما مظاهرات اقتحام الكونجرس.
اللافت للنظر كذلك أن أقوى انتصار للحزب الجمهوري كان دي سانتوس، حاكم ولاية فلوريدا، وهو مناوئ (حاليا) لترامب، ومعارض لتوجهاته، وربما منافس له على بطاقة ترشيح الحزب لرئاسيات 2024، ولم يكن يحظى بدعم ترامب.. بل بانتقاداته وسخطه، وهو ما يعد مؤشرا واضحا على أن الناخب الأمريكي أراد الحزب الجمهوري وليس ترامب.