في ذكرى رحيل المناضل المثال.. أحمد عبد الله رزة أيقونة «انتفاضة الطلاب» في السبعينيات الذي أخلص لأفكاره حتى النهاية (بروفايل)
عبد الرحمن بدر
«أنا رحت القلعة وشفت ياسين حواليه العسكر والزنازين والشوم والبوم وكلاب الروم يا خسارة يا أزهار البساتين عيطي يا بهية على القوانين أنا شفت شباب الجامعة الزين أحمد وبهاء والكردي وزين».
كان ذلك جزءًا من قصيدة الشاعر الكبير الراحل أحمد فؤاد نجم وهو يتحدث عن قيادات انتفاضة الحركة الطلابية في 1972 وعلى رأسهم د. أحمد عبدالله رزة، الذي يحل اليوم ذكرى رحيله في 2006 بعد مسيرة نضال ضد نضامي السادات ومبارك.
كان رزة المعروف بقمر جيل السبعينات المولود في 1950 أي قبل عامين من ثورة 23 يوليو التي أنهت الملكية في مصر، وبالتالي شهدت طفولته الأحلام الكبيرة للوطن لذلك لم يكن غريبًا أن يعتنق الفكر الناصري وينشغل بالشأن العام منذ مراحل دراسته المبكرة.
لكنه وككل جيله شهد نكسة يونيو 1967 بكل ماحملته من إنكسار للحلم وغصة في القلب، وحزن لم تمحه الأيام، وتصميم على الثأر من العدو الغادر.
انخرط فى مظاهرات الطلبة المعروفة عام ١٩٦٨ وما بعدها، وظهر اسمه لامعاً فى قيادة الحركة الطلابية المصرية.
ومع رحيل عبد الناصر وبدء المرحلة الساداتية كانت الضغوط مستمرة لخوض الحرب لمداواة الكرامة النازفة، ومع تأخر القرار اشتعلت المظاهرات في أنحاء الجامعات، تحت شعار «كل الديمقراطية للشعب.. كل التفاني للوطن»، بعد إعلان الرئيس الراحل السادات عن تأجيل حرب التحرير، معللاً ذلك باندلاع الحرب الهندية الباكستانية، التي وصفها بالضباب السياسي.
رأس رزة اللجنة الوطنية العليا للطلبة، بعد انتخابه من جانب طلاب جامعة القاهرة، وقاد اعتصام الطلاب بالجامعة، وتدخلت قوات الأمن المركزي لفضها، بعد سابقة اقتحام الحرم الجامعي لأول مرة في تاريخها، وتم اعتقال عدد كبير من الطلاب.
تسببت الواقعة في موجة غضب بين الطلاب الذين توجهوا إلى ميدان التحرير، في 24 من يناير للمطالبة بالإفراج عن زملائهم المعتقلين، كان الاحتشاد في التحرير أشبه ببروفة مبكرة لثورة 25 يناير التي وقعت في نفس الشهر بعد عدة عقود.
خرج السادات وألقى خطابًا قال فيه: «الطلاب طيبيين لكن هناك قلة منحرفة قاعدين يشتموا أساتذتهم ويشربوا سجاير أولاد على بنات.. مسخرة وقلة أدب»، وتابع: «أنا مقعدش مع رزَّه».
كان رزة أول هدف لقوات الشرطة التي ألقت القبض عليه واعتقلته مع مجموعة من الطلاب وخرج بعدها باسابيع، وواصل نضاله كأحد قيادات الحركة الطلابية إلى أن حصل على شهادة بكالوريوس العلوم السياسية من جامعة القاهرة عام 1973.
فى مذكراته «حكايات من زمن فات»، يروي المناضل كمال خليل، أحد القيادات الطلابية بكلية هندسة القاهرة في ذلك الوقت جزءا مما حدث، قائلًا إن الآلاف من الطلاب فى قاعة جامعة القاهرة كانوا معتصمين، وفى فجر يوم 24 يناير 1972، اقتحمت قوات الأمن الجامعة، بقيادة العميد الفولى الذى أمسك مكبر صوت، وأعلن من خلاله: «كله يسلم نفسه، كل واحد يرفع إيديه الاثنين لفوق، وتخرجوا من القاعة فى طابور فردى، وأعدكم بشرفى أنكم هاتروحوا حالًا على بيوتكم.. الأوامر عندى من أعلى الجهات بفض الاعتصام».. لكن رزة أمسك ميكرفون على المنصة، وقال للمعتصمين: «أيها الشباب.. لن نقاوم، القوة غير متكافئة، نحن عزل وهم مدججون بالسلاح، نحن أصحاب كلمة وقلم وفكر، نحن أصحاب مبادئ.. معركتنا مستمرة معهم، سنراهن على جماهير الطلاب وعلى الحركة الطلابية، قد نستسلم لهم فى هذه اللحظة أمام جحافل قواتهم، لكن الحركة الطلابية لن تستسلم ولن تلين.. العقيد الفولى، نقول لك لا تحلف بشرفك، لأن إحنا عارفين كويس إنك معندكش شرف، لا أنت ولا السلطات العليا التى أعطت الأوامر باقتحام الحرم الجامعى..إخوانى الطلبة، مشوارنا لسه فى أوله.. ومادام بدأنا نكمله.«
وعن انتفاضة الطلاب كتب الراحل أمل دنقل قصيدته الخالدة أغنية الكعكة الجرية:
دقت الساعة الخامسة
ظهر الجند دائرة من دروع وخوذات حرب
ها هم الآن يقتربون رويدًا.. رويدًا..
يجيئون من كل صوب
والمغنون – في الكعكة الحجرية – ينقبضون
وينفرجون
كنبضة قلب!
يشعلون الحناجر،
يستدفئون من البرد والظلمة القارسة
يرفعون الأناشيد في أوجه الحرس المقترب
يشبكون أياديهم الغضة البائسة
لتصير سياجًا يصد الرصاص!..
الرصاص..
الرصاص..
وآه..
تغنون: “نحن فداؤك يا مصر”
“نحن فداؤ…”
وتسقط حنجرة مخرسة
معها يسقط اسمك – يا مصر – في الأرض!
لا يتبقى سوى الجسد المتهشم.. والصرخات
على الساحة الدامسة!
دقت الساعة الخامسة
…
وبعد خروج رزة من المعتقل لم ينس السادات له قيادته للحركة الطلابية، لذلك عمل ونظامه على تضيق الخناق على رزة وغلق جميع دروب العمل أمامه، وحرمانه من تولي أي مهام أو الالتحاق بمؤسسات الدولة، حتى أن السادات اتصل بهيكل حين كأن يرأس تحرير الأهرام ليتأكد من أنباء تعيين رزة هناك ولم يهدأ باله إلا بعد نفي الخبر.
أمام التضييق الشديد سافر رزة للكويت ومنها إلى لندن وهناك أكمل رحلته في التعليم ومسيرته في الحياة لكن عينه لم تغفل عن متابعة ما يجري في وطنه.
«دور الحركة الطلابية فى الحياة السياسية المصرية» كان عنوان رسالته التي حصل بها على الدكتوراه من بريطانيا، وهو أحد أهم المراجع عن تاريخ الحركة الطلابية ودورها في الحياة السياسية المصرية. وكتب رزة في مقدمة رساته: «إهداءً إلى أهالي عين الصيرة الكرام .. الأميّين الذين علّموني .. والفقراء الذين أغنوا ضميري». لذلك لم يكن غريبًا أن يؤسس في مرحلة لاحقة «مركز الجيل للدراسات الشبابية والاجتماعية» بعين الصيرة بعدما عاد إلى القاهرة بعد رحيل السادات.
عارض رزة نظام مبارك وسياساته، انضم لحزب التجمع لكنه سرعان ما استقال، وقبل رحيله كان من أشد المعارضين لمشروع توريث جمال مبارك وكان يردد البلد مش عزبة أبوهم.
كتب رزة عشرات الكتب والأبحاث والمقالات في السياسة وتاريخ الحركة الوطنية والشأن العام، وعبر عن أفكاره دون خوف أو مهادنة.
لم ينشغل يومًا عن الشأن العام دون تمسك بالظهور أو سعي وراء الأضواء، كان يسير وراء نداء الضمير لا يحركه سوى حب الوطن، والأمل في مستقبل أفضل، لذلك اكتسب شهرة واسعة بين أبناء جيله فى الدوائر السياسية والحزبية، وظل رمزًا يحتشد حوله أصدقاؤه ومريدوه، لم يفارقه حماس الشباب ولا انفعال المؤمنين بالقضايا التى يدافعون عنها.
«الله يرحمك يا والدي، النظام اللي ظلمك أنت وجيلك لسنين طويلة سقط دلوقتي، عزاك مقبول النهاردة بس»، هكذا تحدثت الفنانة بشرى عن والدها بعد سقوط مبارك في 2011، كان ميدان التحرير هو شرارة سقوط مبارك وهو نفس المكان الذي احتشد فيه والدها ورفاقه قبل عقود يطالبون باسترداد الكرامة والأرض المحتلة.
رحل الجسد الذي خاض غمار معارك الوطن بإخلاص في صيف 2006 بأزمة قلبية، لكن أمثال عبد الله رزة يعيشون طويلاً بنضالهم وبما قدوموه للوطن وللناس.