في ذكرى «الثورة العرابية».. محطات في حياة أحمد عرابي المقاتل الذي دافع عن الوطن بشجاعة وشوهت أسرة محمد علي تاريخه
عبد الرحمن بدر
تحل اليوم ذكرى الثورة العرابية أحد الأيام الخالدة في التاريخ المصري، ففي مثل هذا اليوم 9 سبتمبر من عام 1881م، توجه في موكب مع قادة الجيش المصرى لقصر عابدين مقر إقامة الخديوى توفيق لعرض مطالب الأمة في الحكم الرشيد.
اجتمع عرابى برؤساء الحزب الوطنى، وكان قد تجمع لديهم عرائض من الشعب يطالب الشعب فيها بعزل وزارة رياض ودعوة مجلس نواب على أساس دستورى، واتفق الزعماء على أن يقوم الجيش بمظاهرة سلمية تأييدًا لمطالب الأمة، وحدد لهذه المظاهرة الوطنية الكبرى اليوم التاسع من سبتمبر عام 1881، بحسب ما ذكره كتاب (فصل فى تاريخ الثورة العرابية)، لمحمود الخفيف.
كتب أحمد عرابي إلى وزير الحربية ينبئه بأن آلايات الجيش ستحضر إلى ساحة عابدين فى الساعة الرابعة بعد ظهر يوم الجمعة 9 سبتمبر، لعرض طلبات عادلة تتعلق بإصلاح البلاد وضمان مستقبلها.
وفى عصر ذلك اليوم تحرك الجيش المصرى نحو عابدين، واحتشد في عابدين نحو 4000 جندي معهم مدفعيتهم وضباطهم، وتجمع وراء صفوف الجيش آلاف من أهل القاهرة، واشرأبت أعناق الشعب نحو عرابي وهو يقدم مطالب الأمة إلى الخديوي.
«زرع الأمل والأماني له تاريخ طويل.. أحمد عرابي ربط فوق الليالي خيول.. ساعة ما يشب يلقاها القمر مذهول»، هكذا امتدح الشاعر الراحل فؤاد حداد، أحمد عرابي الذي تعرض لتشويه متعمد على مدار عدة عقود على يد أسرة محمد علي، ودفع ثمن موقفه وشجاعته، لكن التاريخ أنصفه كواحد من أبناء الوطن المخلصين.
وقف ابن الشرقية في وجه الخديوي توفيق وقاوم الاحتلال الانجليزي لمصر عام 1882، وذاق مرارة النفي والبعد عن وطنه، لكن الذاكرة الشعبية خلدت دوره وأبقته حيًا في ضميرها، حاول عرابي بكل قوة صد العدوان ومعه كثير من أبناء الوطن المخلصين الذين رفضوا المحتل، واستشهد بعضهم في ساحة المعركة ودفع آخرون الثمن من حريتهم وحرمانهم من أعمالهم ووظائف ورتبهم لكنهم فعلوا ذلك عن طيب خاطر.
ظلت الاتهامات الرسمية تطارد عرابي ورفاقه حتى أعادت ثورة 23 يوليو الاعتبار له كواحد من رموز الكفاح، وابن من أبناء العسكرية المصرية تفخر به وبما قدم.
ولد أحمد عرابى في قرية هرية رزنة بمحافظة الشرقية في أول أبريل من عام ١٨٤١.
يتحدث عرابي عن نشأته في مذكراته: «كان أبي متزوج من 3 نسوة وله 4 أولاد و 6 بنات، وعندما توفى كان عمري 8 سنوات، وترك لنا أبي 74 فداناً ولو شاء لاستكثر من الأطيان الزراعية ولكنه راعى حق أبناء عمومته».
تعلم عرابي القراءة والحساب والقرآن وهو في السابعة من عمره، وصدر قرار من سعيد باشا مسؤول الحكومة الخديوية بدخول أولاد مشايخ البلاد في العسكرية فدخل من ضمنهم، وانتظم في سلك العسكرية وأخذ في الترقي والحصول على الرتب المتسلسلة داخله.
أقام عرابي في مدينة المنصورة عامين برتبة جاويش، وفي تلك المدة اهتم بقراءة القوانين العسكرية وفهمها، وهو ما ساعده في اجتياز امتحان الترقية إلى رتبة ضابط فيما بعد، وتم ترقيته إلى أمير الآي فيما بعد.
زادت شعبيته في الجيش واستعان المظلومون من المصريين في الجهادية بعرابي ليكتب لهم عريضة يشكون فيها الوضع والإجحاف الذي أصابهم في ظل هؤلاء القادة، وبالفعل استجاب لهم عرابي وكتب عريض للشكوى من تعصب عثمان رفقي لجنسه والإجحاف على حقوق الوطنيينن وتعديل القوانين العسكرية بحيث تكون كافلة للمساواة بين جميع أصناف الموظفين بصرف النظر عن الأجناس والأديان والمذاهب، وتعيين ناظر الجهادية من أبناء البلاد.
استجابت السلطة لخطاب عرابي وتم عزل عثمان رفقي باشا وتم إعطاءهم حرية اختيار ناظر الجهادية الجديد، فاختارو محمود سامي باشا.
وبعد ذلك عزل رئيس النظار رياض باشا محمود سامي وتشدد عليه بألا يجتمع بعرابي وأقرانه وألا يقيم في العاصمة، وتم تعيين داوود باشا يكن بديلاً عنه.
وفي 9 سبتمبر 1881 كتب عرابي إلى السلطة أنه سيحضر إلى ميدان عابدين بجميع عساكره الموجودين في القاهرة لمقابله الخيديو في الساعة الرابعة بعد الظهر من يوم الجمعة، وقال عرابي عن ذلك اليوم: «لقد حيانا المرحوم الخيديو بإجابة المطالب العادلة»، وتم استدعاء شريف باشا من الاسكندرية وتعيينه رئيساً للوزراء وتعيين محمود سامي ناظراً للجهادية مرة ثانية، كان ذلك في ٩ سبتمبر ١٨٨١، وقد عزل توفيق رياض باشا من رئاسة الوزارة، وبعد وزارة شريف باشا تشكلت حكومة محمود سامى البارودى، وشغل عرابى فيها منصب «وزير الجهادية» الدفاع.
قوبلت وزارة البارودى بالارتياح في الأوساط الشعبية لكنها استقالت بعد وقت قصير.
في ١٨٨٢ وقعت مذبحة الإسكندرية بعدما افتعل الإنجليز بعض المشاكل لإحراج عرابي وإيجاد حجة لاحتلال مصر، ونصبت الحكومة المصرية بعض المدافع على قلعة الإسكندرية، فاعتبرت بريطانيا هذا عملا عدائيا ضدها وضرب الإنجليز الإسكندرية يوم ١٢ يوليو ١٨٨٢.
وتحصن عرابى عند كفر الدوار إلى أن حدثت موقعة التل الكبير في ١٣ سبتمبر ١٨٨٢، حيث فاجأ الإنجليز القوات المصرية، وألقى القبض على عرابي ونفوه.
وقرر الخديوي توفيق مصادرة أملاك عرابي ورفاقه وحرمانهم حق امتلاك أي ملك في الديار المصرية بطريق الإرث، أو الهبة، أو البيع، أو بأي طريقة ما، وتدريجهم من رتبهم العسكرية.
عاش عرابي 19 عامًا في المنفى بجيرة سيلان، وعاد بعدها لمصر ليجد أن الرأي العام قد تم تأليبه عليه بعد سنوات من الدعاية السلبية ضده التي تتهمه بأنه صاحب الهوجة التي تسببت في احتلال مصر، وتارة بأنه صناعة الإنجليز.عاد عرابى من منفاه إلى السويس، وهناك رفض المحافظ استقبالهم ولم يجد إلا الفتور والإنكار.
يقول محمود الخفيف فى كتابه «أحمد عرابى- الزعيم المفترى عليه»: «أحس أنه غريب فى وطنه، فقد أنكره أكثر من كانوا يلتفون حوله إبان سلطانه، ومنهم من كان يود لو وجه إليه حينذاك نظرة، أوحياه بتحية».
فتحت جريدة «اللواء» برئاسة مصطفى كامل النار على عرابي، ونشرت قصيدة «عرابى وما جنى» لأحمد شوقى هاجم فيها عرابي بقوله: «صغار فى الذهاب وفى الإياب/ أهذا كل شأنك يا عرابى؟».
ورد عرابي على ذلك بقوله: «لم يرق فى نظر خصومنا الجهلاء رجوعنا إلى وطننا العزيز لظنهم أننا بعنا وطننا إلى الإنجليز على اتفاق بيننا وبينهم، فأوعزوا إلى الجرائد المأجورة فوجهت إلينا سهام جهلها وأماطت عنها لثام الوطنية».
عاش عرابى فى منزله بشارع خيرت كما يعيش عامة الشعب، ليس له إلا معاشه بعد مصادرة ممتلكاته وممتلكات أسرته.
وفي واقعة مؤثرة يقول الكاتب الراحل صلاح عيسى فى كتابه «الثورة العرابية»: «قبل أن يموت عرابى بشهور كان خارجا من المسجد الحسينى عقب صلاة العشاء فى إحدى ليالى رمضان، فإذا بشاب يبصق فى وجهه صائحا «يا خائن» ومسح الرجل وجهه، وأغلق باب منزله على نفسه شهورا طويلة، ويوم مات لم يجد أهله فى بيته نفقات جنازته وتجهيزه فكتموا نبأ الوفاة إلى اليوم التالى، حيث كان مقررا أن تصرف المعاشات قبل موعدها لمناسبة حلول عيد الأضحى، وخرجت إحدى الصحف تكتب فى مكان متواضع: «علمنا أن المدعو عرابى صاحب الفتنة المشهورة باسمه قد توفى أمس»، وفي تعليقه على ذلك عيسى بقوله: «الذى بصق فى وجه عرابى، والذى نشر نبأ نعيه، والذى تركه يعانى الحاجة، لم يكن مصر، ولكنه جزء من أمة الخيانة، جزء من مصر المحتلة التى سادت الخبائث فيها وجه الحياة، واستأسدت فيها كلاب الطريق، أما معذبو الأرض الذين عاشوا الملحمة العرابية بكل أبعادها، فقد صانوا عهد الحب حتى النهاية».
وستظل الذاكرة الشعبية تحتفي بعرابي كأحد المخلصين وأكثرهم وطنية، وهو الآن صار رمزًا بعد عقود من التشويه والإفتراء على تاريخه.