عصام رجب يكتب : عاشق الزهور.. قصة قصيرة (ابداعات)
كثيرا ما يقلب صفحات الأيام , فتنساب اليه بمشاعر متناقضة , كثيرا ما يكون حزينا , وقليلا ما يكون مبتسما , ونادرا ما يكون سعيدا .. هكذا هو حاله عندما يعود الى الصفحات السابقة من الزمن , وكان الوقت يمضى عليه ثقيلا .. فقد عاش وحيدا بعد رحيل أمه وابيه منذ عدة أعوام , لم يجد لمؤانسته أفضل من الزهور الجميلة متعددة الألوان , فهى تملأ فراغه , وتشعره بالراحة .. ودائما ما تحظى برعايته وحنانه .
كلما مر عليه الوقت زاد تقربا منها .. يتغزل فى ألوانها الجذابة , ورحيقها الفتان , وفى كل صباح يبتسم اليها ويرويها .. وفي المساء يتأملها ومن عذب الكلام يشجيها .
بدت الزهور فى بيته وكأنها لوحة فنية جميلة , يعشقها وتعطيه الحيوية والنشاط , يحتويها فتعطيه الأمل والأمان , يؤانسها فتبعث فيه الدفء والحنان , دائما ما يشعر انها ستعوضه عن البشر بكل ما فيها من رقة وعذوبة وجمال .
جلس على مقعده الخشبي الهزاز فى راحة واسترخاء وهو يتمعن النظر فى الزهور , ترك لنفسه العنان ليغوص في شروده قليلا يستجمع أفكاره , و يبحث فيها عن شيء ما يمكن تقديمه لعائلته من الزهور . نعم يعتبرها كذلك .. العائلة والصديق .. وقت الراحة , ووقت الضيق .
فهو على يقين بأنها تشعر به كما يشعر بها , استرسل بعيدا عن شروده حتى توقفت نظراته عند الزهور , ثم قام واقفا كى يتمعن فيها أكثر وأكثر , ابتسم قليلا كأنه يقول لها : سألقى الحزن جانبا لأنكم تجلبون لى السعادة فى حياتى ومخيلتى .
وسرعان ما شعر بوعكة فى جانبه الأيمن , وضع يده اليمنى على جانبه , ضغط على شفتيه من شدة الألم , اتجه الى الخلف قليلا حيث فراشه , مد يده الى المنضدة الصغيرة الملتصقة بسريره , يحاول فتح علبة الدواء بصعوبة , التقط منها حبة واحدة , وضعها فى فمه والألم مازال يغطي وجهه , ثم سحب كوب الماء الزجاجي القريب منه بصعوبة , ارتشف قليلا , يحاول وضع الكوب مرة أخرى على المنضدة , ولكنه سقط من يده على الارض أشلاءً صغيرة متناثرة , مازال الألم ينزع ابتسامته , ولم تمض دقائق قليلة حتى سقط على سريره مغشيا عليه.
ظل السكون يخيم على الغرفة , والزهور بدت وكأنها قلقة على صاحبها , حتى انها تمايلت قليلا ناحية اليمين , ثم تارة أخرى ناحية اليسار , ولا تدري ماذا تفعل !!
أصبحت اللحظات ثقيلة على الزهور التى اعتادت أن تراه مبتسما وجالسا أمامها يحدثها , ولكنه الان فاقد الوعى .
قطع السكون صوت جرس الباب.. ولكنه مازال مستلقياً على ظهره , في وسط فراشه .
ومرة أخرى صوت جرس الباب يقطع السكون , تمايلت الزهور جميعها تارة ناحية اليمين وتارة أخرى ناحية اليسار وكأنها تناديه .
لحظات صمت قليلة توقف خلالها صوت جرس الباب , والزهور تتمايل نحو بعضها تحاول أن تفعل شيئا ما لإنقاذ صاحبها .
صوت جرس الباب مرة أخرى.. تمايلت الزهور ثانية يمينا ويسارا , وكأنها تتهامس فيما بينها , وسرعان ما إهتزت الزهور وكأنها توصلت لحل ما , تمايلت الوردة الصفراء كثيرا وكأنها تريد ان تلامس التربة الطينية حولها .. ثم أخذت تذرف قطرات من الماء , وأخذت تهبط شيئا فشيئا لتغمس نفسها في التربة الطينية , ثم تبعتها الوردة الحمراء والبيضاء وباقى الورود , وكأنها تستخرط فى البكاء , أخذت قطرات الماء تحيط بكل منها حتى غرقت الزهور بين ثنايا التربة الطينية , وانبعثت منها رائحة غريبة بعطر نفاذ يتوغل فى الهواء المحيط , أسرعت بخيوط رحيقها نحو أنفه فى محاولة لاستعادة أنفاسه حتى يفيق من إغمائه.. وانطلقت بعض خيوط رحيقها الى خارج باب الشقة حتى وصلت الى أنف الرجل الذى يطرق الباب , فقد كان أحد أقربائه , واذا به يستنشقها فى دهشة وقلق , التفت نحو باب الشقة المجاور ليسأل الجيران عن قريبه , واذا بهم يخبرونه أنهم شاهدوه قادما الى مسكنه منذ قليل , حاولوا فتح الباب بصعوبة حتى تمكنوا من فتحه .. دخل قريبه وخلفه بعض الجيران.. وجدوه راقداً.. والزهور راقدة .. ولم تمض دقائق قليلة حتى فاق من غفوته.. إستنشق الهواء برفق.. ثم فتح عينيه ببطء .. لحظات تأمل وصمت.. وما إن وقع بصره على الزهور حتى أخذت عيناه تذرف دموع