عام من الحرب على غزة| الاحتلال يستهدف الحقيقة: اغتيال 167 صحفيا وعاملا في قطاع الإعلام واعتقال 124 وقصف 73 مؤسسة صحفية
مرَّت سنة من الحرب وما زال قطاع غزة يعاني جراء العدوان الصهيوني الغاشم، الذي وصل عدد ضحاياه مع بداية العام الثاني للحرب إلى ما يزيد عن 41 ألف شهيد، نحو 60% منهم أطفال. وخلال السنة الماضية حاول الاحتلال جاهدا إسكان الصوت الفلسطيني وإبادة الرواية الفلسطينية التي تفضح جرائمه، من خلال اغتيال الصحفيين وعائلاتهم واستهداف مقراتهم الصحفية، فضلا عن منع وسائل الإعلام الأجنبية من الدخول للقطاع لارتكاب جرائمه بعيداً عن أعين الكاميرات.
وفق نقابة الصحفيين الفلسطينيين قتل الاحتلال الإسرائيلي على مدار سنة من الحرب الصهيونية على غزة 167 صحفيا وعاملا في قطاع الإعلام، معظمهم في استهدافات مباشرة، في إحصائية تفوق عدد الصحفيين الذين قتلوا في الحروب العالمية خلال العصر الحديث.
وتشير نقابة الصحفيين إلى أنه منذ السابع من أكتوبر 2023، نفذ الاحتلال الإسرائيلي أكبر حملة اغتيالات ضد الصحفيين عبر تاريخ الصحافة في العالم، كما دمرت صواريخه مقرات المؤسسات الصحفية، وأصبح غالبية الصحفيين الفلسطينيين في القطاع نازحين من بيوتهم بعدما دمرها الاحتلال وقتل المئات من عائلاتهم، بحسب ما نقلت وكالة الأنباء الفلسطينية “وفا”.
وأفاد تقرير الحريات الخاص باعتداءات الاحتلال والصادر عن نقابة الصحفيين الفلسطينيين، إلى أنه من أكتوبر 2023 إلى أكتوبر 2024، سجلت 1600 جريمة واعتداء بحق الصحفيين الفلسطينيين، فيما اعتقل الاحتلال 124 صحفيا وصحفية، واستشهد 514 من عائلات الصحفيين.
وطوال الحرب على قطاع غزة، كان الصحفيون الفلسطينيون عيون وآذان العالم لما يجري في القطاع بعدما منع الاحتلال الإسرائيلي وسائل الإعلام الأجنبية من الدخول للقطاع بشكل كامل، عملوا خلالها على تقديم شهادات حول جرائم حرب ارتكبت بحق المدنيين وتفاصيل مجاعة حلت بشمال القطاع.
الكل حياته مهددة
ولعل تجربة الصحفي عبد الهادي عوكل، مراسل صحيفة الحياة الجديدة وصوت فلسطين في شمال قطاع غزة، والذي بقي بشمال القطاع طوال الحرب، تلخص جانبا من أبشع الجرائم بحق الصحفيين خلال الحرب.
وقال عوكل في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الفلسطينية “وفا”، إن ظروف التغطية الصحفية خلال الحرب كانت كارثية؛ كون إطلاق النار غير مسبوق، خاصة مع الأحزمة النارية التي أسقطت أبراج سكنية.
وأكد أنه كان واضحا أن الاحتلال يضع الصحفيين هدفا إلى جانب الإبادة التي يرتكبها، تجاه الغزيين العُزل والقطاع الصحي والتعليم وكل القطاعات الحيوية؛ التي يفترض أنها محمية بموجب القانون الدولي واتفاقيات جنيف.
“التغطية الصحفية كانت قاسية والكل حياته مهددة، كثير من الزملاء الصحفيين في إطار التغطية نجوا من الموت إلى جانب أكثر من 160 صحفيا ارتقوا خلال استهدافهم في الميدان أو في منازلهم” يتابع عوكل.
وأضاف أن هناك صحفيين ناجين من الاستهداف، وهو واحد منهم حيث تعرض منزله لقصف بصاروخ برميل يزن طن ضمن حزام ناري في المنطقة، وكثير من الزملاء تعرضوا لظروف مشابهة.
وتابع: عندما تمت عملية النزوح في بداية الحرب خلال الشهر الأول كانت التغطية الصحفية شاملة من بداية الحرب حتى نزوح أغلب المواطنين من شمال قطاع غزة، بما فيها الكوادر الصحفية والطبية بمجمع الشفاء الطبي؛ الذي كان مركزا رئيسيا لتواجد الصحفيين في محافظة غزة، غالبيتهم اضطروا للنزوح جنوب القطاع.
وواصل: ما تبقى في الشمال عدد قليل من الصحفيين، وظهر صحفيون جدد في الميدان أثبتوا وجودهم ونقلوا الحقيقة، وكنت المراسل الوحيد لصوت فلسطين شمال قطاع غزة وننقل صورة الواقع الذي يعيشه الشمال في بدايات الحرب لثلاثة أشهر متتالية عانى فيها الشمال من ظروف قاسية من حرب ومجاعة ونزوح.
وأكد عوكل أن أخطر الظروف التي يتعرض لها الصحفي، الاستهداف المباشر من الطيران أو المدفعية، أو قصف الأهل والصحفيين أنفسهم بمنازلهم، كما حدث مع الصحفي عصام اللولو وعائلة الصحفيين أنس الشريف ومؤمن الشرافي واستشهاد عدد من أفراد أسرهم.
وطوال الحرب على القطاع، بقي الصراع النفسي والضغط مرافقا الصحفيين خلال تغطياتهم وفق عوكل، بين الخشية على مصير عائلاتهم وتوفير لقمة العيش وسط المجاعة في الشمال، ونقل الحقيقة والرواية الفلسطينية.
ويوضح أن عائلته مكونة من 7 أطفال أكبرهم 14 عاما، وكان الواقع مريرا ما بين العمل وتوفير لقمة العيش بصعوبة بالغة جدا لهم: “كنت أخرج إلى العمل للهروب من واقع البيت، كان أطفالي يطلبون الطعام وأنا غير قادر على توفيره، كنت أخرج وذهني مع الأهل في البيت”.
وتابع: كان المتوفر من طعام قليل في البيت، ونحاول تناول وجبة طعام واحدة في اليوم، وكنت أتقطع ألما عندما اسمع طفلتي (عامين) تستيقظ في الثانية فجرا من نومها وتوقظ أمها وتطلب الخبز، فأشعر بخناجر تغرس في قلبي من شدة الألم كوني غير قادر على توفير أبسط مقومات الحياة لها وهو الخبز، أبنائي كلهم عانوا وأوزاننا انخفضت بشكل كبير جدا وأبنائي جميعهم أصيبوا بمرض اليرقان الناتج عن سوء التغذية.
وأضاف: الذهن كان منشغل بين العمل والأسرة التي هي أساس كل شيء، كثير من التغطيات الصحفية توقفت عنها وأنا ابحث عن الطحين هنا أو هناك، واقطع مسافات بعيدة وانتظر ساعات طويلة للحصول على رطل من دقيق الذرة أو القمح، أمضي من الرابعة فجرا حتى الثانية ظهرا لاشتري رطلا من الدقيق لأطفالي وكان هذا يأخذ جل وقتي.
وأكد عوكل أنه اضطر للنزوح عن منزله عدة مرات لأماكن عدة بعد قصف المنزل الذي يسكنه مع عائلته، ونجوا من الموت أكثر من مرة خلال عام من الحرب.
وبشكل لافت، يتم استهداف الصحفيين أكثر من أي قطاع آخر من المجتمع الفلسطيني في غزة، حيث بلغت نسبة الشهداء بـ12% من الصحفيين الفلسطينيين العاملين في قطاع غزة.
نزوح متكرر
أما مراسل وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية “وفا” في قطاع غزة سامي أبو سالم، فتحدث عن ظروف التغطية الصحفية بأن الصحفيين معرضون بأي لحظة للموت أو الإعاقة أو فقدان أحد أفراد العائلة.
وقال أبو سالم: “استهداف عشوائي في الشارع، نجوت أكثر من مرة من الموت حيث كانت القذائف تتطاير حول رأسي، الخوف أن يفقد الصحفي حياته أو أحد أقاربه أول خطر يعانيه ويقيد حركته، عندما يحل المساء يحاول الصحفيون البقاء بمكان الإقامة خوفا من الاستهداف”.
ويعاني الصحفيون في قطاع غزة من انقطاع الاتصالات وتعطل الأجهزة كالكاميرات أو الجوالات في ظل عدم توفر بدائل أو توفر بدائل بأثمان باهظة، الأمر الذي يشل عمل الصحفيين، وفق أبو سالم.
وتابع: الخوف والقتل والجري وراء مكان آمن والبحث عن الطعام والشراب لتأمينه للعائلة، وشح الانترنت تشل الإنسان، وتشل عطاءنا كصحفيين، أشعر أنني مقصر ولكن ما باليد حيلة، عند الاستيقاظ صباحا بدلا من أن أبحث عن الأخبار أبدأ بالبحث عن الطعام في السوق، ولا يتوفر أحيانا، ويجب أن أسجل بالمساعدات وأشعر بالإهانة والذل إذا أردت أن أسجل بأي مؤسسة إنسانية لكي أتسول كوبون غذائي لكن اضطر أن أذهب لأطعم أولادي.
وأضاف أبو سالم: صار العمل من أماكن محددة لعدم توفر الانترنت والكهرباء، نأتي للمستشفيات لتوفرها فيها نتيجة توفر المولد، خارج المستشفى لا أستطيع تتبع الأخبار، وقبل حوالي شهر تم قصف خيمة بجانبي واستشهد زميل صحفي.
ونوه إلى أنه للتغلب على انقطاع التيار الكهربائي كان يمكن شراء لوحة طاقة شمسية إلا أن ثمنها ارتفع من 100 دولار قبل الحرب إلى قرابة ألفي دولار، كذلك بطاريات الشحن ارتفعت أثمانها من 200 دولار إلى أكثر من 1500 دولار.
وحول ظروف النزوح، يقول أبو سالم: نزحت أكثر من 10 مرات، وفي كل مرة أفقد من مقتنيات وأدوات العمل والسكن، والنزوح ضغط ذهني ومالي وبدني، وفي النزوح تحتاج لمكان أين تذهب؟ إلى دير البلح؟ خان يونس؟ النصيرات؟، السؤال إلى أين تنزح معقد ولا يوجد له جواب، لا يوجد مكان يحتويك، إذا أردت أن تحمل خيمة معك ستحتاج لأرض تضعها عليها.
ويضيف أبو سالم: كصحفي لا أحد يؤجرك لأنه لدى الناس اعتقاد بأن الصحفيين مستهدفين، حتى قطعة أرض لتضع عليها الخيمة، النزوح ليس سهلا، من رفح إلى دير البلح 15-20 كيلو تحتاج إلى 300-400 دولار للمركبة التي ستقلك، أموالي في البنك ولا يوجد بنوك، الموضوع معقد، كل التفاصيل ترهق ذهنيا.
اعتقالات واختفاء القسري
ووفق إحصاءات نقابة الصحفيين الفلسطينيين، فقد اعتقلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي 97 صحفيا فلسطينيا منذ السابع من أكتوبر 2023 بقي منهم حتى تاريخه 50 أسيرا صحفيا من بينهم 5 صحفيات، منهن الزميلة في وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية “وفا” رشا حرز الله، إضافة إلى 9 صحفيين معتقلين قبل حرب الإبادة على غزة، ومعظم الأسرى الصحفيين معتقلين على ذمة قوانين الاعتقال الإداري الجائرة والبعض الآخر لا زال موقوفا في انتظار محاكم عسكرية.
كما اختطف الاحتلال الإسرائيلي 16 صحفيا من قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، ويرفض الكشف عن مصيرهم أو أية معلومات حول حياتهم، لعل أبرزهم الزميلان الصحفيان نضال الوحيدي وهيثم عبد الواحد، اللذان اختطفهما الاحتلال في السابع من أكتوبر خلال أدائهما عملهما الصحفي وتغطيتهما للأحداث الميدانية، ولم يفصح الاحتلال عن أية معلومات حول مصيرهما حتى تاريخه.
ووفق وكالة الأنباء الفلسطينية، أكد نقيب الصحفيين الفلسطينيين ناصر أبو بكر أن ما جرى خلال العدوان على قطاع غزة يشكّل حرب إبادة شاملة ضد الصحفيين الفلسطينيين؛ عبر قتلهم وقتل عائلاتهم وتدمير منازلهم والمؤسسات الصحفية، فهناك حرب شاملة ينفذها الاحتلال ضد الصحفيين.
وأشار إلى أن الاحتلال يستهدف الصحفيين الفلسطينيين لمنعهم من القيام بدورهم بنقل رواية الشعب الفلسطيني ونقل جرائم الاحتلال الإسرائيلي، وأن هناك معركة على الرواية يريد الاحتلال أن يستفرد بها ونشر رواية الكذب والتزوير، إلا أن الإعلام الفلسطيني سيستمر بنقل رواية الحق والحقيقة بكل مهنية ودقة وموضوعية.
وحول الجهد القانوني الذي بذلته النقابة، أكد أبو بكر أن النقابة تحضر شكوى ثالثة للمحكمة الجنائية الدولية بكل جرائم الاحتلال الإسرائيلي بقطاع غزة، إضافة إلى شكويين كانت النقابة قد تقدمت بهما خلال عام 2022، بقتل الزميلة شيرين أبو عاقلة وأخرى بقتل الزميلين ياسر مرتجى وأحمد أبو حسين، وإصابة الزميلين معاذ عمارنة ونضال اشتية، مشيرا إلى أن المحكمة الجنائية الدولية حتى الآن لم تبدأ إجراءات التحقيق.
ونوه إلى أن النقابة قدمت شكوى إلى لجنة التحقيق الدائمة في مجلس حقوق الإنسان الخاصة بالأرض الفلسطينية، والتي أصدرت تحقيقا ذكرت فيه أنه يوجد قتل وجرائم ترتكب بحق الصحفيين الفلسطينيين، متابعا: نريد معاقبة الاحتلال على جرائمه وألا يفلت من العقاب في قضايا جرائم الحرب المرتكبة بحق الصحفيين الفلسطينيين.
وحول جهود النقابة في دعم الصحفيين في قطاع غزة، أكد أبو بكر أن مجلس النقابة سارع منذ الأسبوع الأول للحرب بإرسال أكثر من ألف حقيبة إسعاف أولي كانت مهمة للصحفيين، كما تم توزيع مئات بطاريات الشحن للهواتف النقالة، ومساعدتهم في عدد من القضايا الحياتية مثل الخيام والفراش والأغطية، خاصة أن الحرب كانت ببداية موسم الشتاء.
وأضاف أنه جرى توزيع المواد الغذائية على الصحفيين، وكذلك معونات مالية للصحفيات لعدد كبير جدا في القطاع، ونواصل بشكل يومي تقديم المساعدات، وقدمت النقابة آلاف المساعدات للصحفيين لكن حجم الاحتياجات والمسائل الضرورية لحياة الصحفيين هائل، ونسابق الزمن لنكون معهم بكل ما يحتاجونه بالتعاون مع المنظمات الدولية والاتحاد الدولي للصحفيين الذين وقفوا وقفة تاريخية مشرفة مع الصحفيين الفلسطينيين، وكذلك مع الاتحادات الدولية في أميركا والنرويج وبريطانيا وكندا والعديد من المؤسسات الدولية التي تقوم بمساعدتنا.
وأشار إلى أن النقابة بالتعاون مع اليونسكو والاتحاد الدولي للصحفيين ونقابات عمال كندا قدموا مساعدات لإنشاء مراكز التضامن الإعلامي في قطاع غزة، وهي مقرات لعمل الصحفيين مزودة بالكهرباء والانترنت ومعدات للعمل، وجرى افتتاح مركزين في خان يونس ودير البلح ويجري العمل على تجهيز مركز ثالث في مستشفى الأهلي العربي “المعمداني” في مدينة غزة.
ونوه إلى أن النقابة ساعدت بنقل عدد من الصحفيين الجرحى إلى مستشفيات مصر، وأنشأت فرعا للنقابة يضم 240 صحفيا في مصر، وقدمت العديد من المساعدات الضرورية التي يحتاجونها منها التأمين الصحي المجاني باتفاق ودعم من نقابة الصحفيين المصريين.
تدمير المؤسسات الصحفية والإعلامية
ودمر الاحتلال مجمل مقار المؤسسات الصحفية والإعلامية في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، حيث دمرت طائراته 73 مقرا من بينها 21 إذاعة محلية، 15 وكالة أنباء محلية ودولية، 15 فضائية، 6 صحف محلية، 3 أبراج بث و8 مطابع، و13 مؤسسة خدمات صحفية.
كما أغلقت سلطات الاحتلال بتاريخ 29 أكتوبر 2023، إذاعة دريم التي تبث من مدينة الخليل، إضافة للاستيلاء على معدات وإغلاق 8 مطابع صحفية في الضفة الغربية بما فيها القدس المحتلة، والتضييق على التغطية الصحفية لعدد من الفضائيات العربية، وصولا إلى إغلاق مكاتب قناة “الجزيرة”، وحظر عمل قناة “الميادين”.
وشهدت الأيام الأولى لحرب الإبادة على قطاع غزة، قصف الاحتلال لمعظم الأبراج في قطاع غزة، التي تحتوي على مكاتب المؤسسات الصحفية المحلية والدولية، كما هو الحال بالنسبة لبرج الشوا وحصري في حي الرمال بمدينة غزة، الذي يضم 15 طابقا من المؤسسات الصحفية العالمية والمحلية، والذي قصفته طائرات الاحتلال في 18/12/2023، ما أدى إلى تدميره بشكل كلي وإلحاق دمار كبير بالمنطقة المجاورة له.