ريهام الحكيم تكتب: شهادة محمد حسان ومحمد حسين يعقوب.. تقية أم معاريض أم مراجعة فكرية للجماعة؟
شهادتا يعقوب وحسان أعادتا النقاش حول “مراجعات الجماعات الإسلامية” وأفق تغيير خطاب الجهاديين في مصر
تصور أن تراجع الدعاة “مراجعة فكرية” خطأ.. الحل في إصلاح الخطاب الديني وحوار مجتمعي لتصحيح الأفكار المتطرفة
مصداقية “المراجعات الفكرية” موضع شك.. وهزيمة “الإسلام السياسي” تمهد لتحويل العنف الفكري إلى جسدي
شهدت في الدائرة الخامسة إرهاب، المحكمة المنعقدة بمجمع محاكم طرة، برئاسة المستشار محمد السعيد الشربينى، محاكمة 12 متهمًا في القضية المعروفة إعلاميًا بـ”خلية داعش إمبابة” هذا الأسبوع، وشهادة الداعية السلفي محمد حسان، ومن قبله شهادة محمد حسين يعقوب، التي أثارت الجدل وفتحت النقاش حول قضية المراجعات الفكرية والعقائدية لأبناء الجماعة الإسلامية في مصر وتيار الإسلام السياسي بشكل عام.
بعد أن استدعتهم المحكمة للشهادة في ما قاله المتهمون إنهم “اعتنقوا أفكارهم، وإن مبادئ وخطب الشيخيين كانت وراء تحولاتهم الفكرية وانتمائهم إلى التنظيم”.
شهادتا محمد حسان و محمد حسين يعقوب في قضية اعتناق الفكر المتطرف، والتي أجمع فيها الرجلان على أن المعلم لا يمكن أن يعاقَب بسبب تطرف تلاميذه، وأن الدولة هي من تسمح للشيوخ والأئمة من يتولى الدعوة.
نفى محمد حسين يعقوب انتماءه إلى الفكر السلفي أو إفتاءه في أي أمر، مشددا على عدم علاقته بالسياسة، وعدم انتمائه إلى أي حزب أو جماعة، وأن رئيس الدولة هو ولي أمر، وتحدث عن مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا بأنه أسس الجماعة للوصول إلى الحكم لإعادة الخلافة، وأنه لا يجوز اتباع شخص إلا النبي، ووصف سيد قطب بالشاعر والأديب، وليس الفقيه في علوم الدين.
محمد حسان قال امام المحكمة أن جماعة الإخوان المسلمين لم يوفقوا في حكم ، وأن الإسلام برئ من الجماعات التكفيرية بما فيها تنظيم القاعدة . ووصف تنظيم ولاية سيناء بـ”الخوارج” وشدد على أن من يرفع السلاح في وجه الجيش والشرطة والمدنيين يجب أن يواجه بالوسيلة ذاتها.
حسان برر الدعوة للجهاد في سوريا عام 2013، خلال مؤتمر نصرة سوريا، بأنها دعوة موجهة للحكومات وليست لعموم الناس، ودعا إلى إجراء مراجعات فكرية للمسجونين من معتنقي الفكر المتطرف.
شهادتا يعقوب وحسان أعادتا فتحت النقاش حول تجربة المراجعات التي أجرتها الجماعات الإسلامية المتطرفة، وأفق تغيير خطاب الجماعات الجهادية عموماً في مصر.
“تقية” و”معاريض” أم مراجعة للفكر؟
انقسمت الآراء حول شهادتي يعقوب وحسان بين فريقين: الأول شبه كلمات الرجلين بعمليات المراجعة للفكرية، التي سبق أن تبناها عدد من قيادات الجماعة في السابق، والثاني وصف أداءهما بـ”التقية” أو “المعاريض”.
و”التقية” هي مصطلح في مفهوم المذهب الشيعي الجعفري معناه: أن يظهر الشخص خلاف ما يبطن، وهي في الأصل “إخفاء معتقد خشية الضرر”، وقد كانت رخصة مباحة عند المسلمين الأوائل، ويعتقد علماء المذهب الشيعي الجعفري أن “التقية” أصل من أصول الدين، وبشكل عام يمارسها من يسمون أنفسهم “أهل السنة والجماعة”، لكنها وصف مرتبط بالتشيع.
أما “المعاريض” من التعريض في القول، وهو أن يقول الشخص لفظًا يحمل معنيين في وقت واحد، معنى يتوهمه السامع وآخر يقصده القائل، أي أن تطلق لفظًا ظاهره معنى، لكنك تريد به معنى آخر خلاف هذا الظاهر، و هو درب من الغش والخداع.
تحدث حسان عن أفكار بخلاف ما يقول، فقد وصف الدعوة إلى الجهاد إلى سوريا عام 2013، بـ”جهاد الدفع” وهى تعني الجهاد في سبيل الله حال غزا المشركون المسلمين في بلادهم.
ويقع الفكر السلفي بين ثلاث مدراس فكرية: “السلفية العلمية” أي التي تنتهج المنهج الدعوي، و”السلفية الإصلاحية” التي تؤمن بمفهوم التغيير السلمي باستخدام أساليب مثل العمل السياسي والمشاركة في الانتخابات، و”السلفية الجهادية” التي ترتبط بفكر أسلوب التغيير بالعنف والعمل المسلح.
وبشكل عام، فإن الفكر السلفي – الذي نهلت منه كل التنظيمات الإسلامية العنيفة وغير العنيفة – يعاني وكل الحركة الإسلامية بشكل عام من مشكلة عدم التفريق بين العالِم و الداعية.
المراجعات الفكرية عام 1997
وهناك فارق بين الإدلاء بالشهادة والتوظيف السياسي لها – وهو أمر مخطط لمقاومة التيار المتطرف والتيار الجهادي – ومن الخطأ أن يتصور البعض أن التراجع يأتي في سياق المراجعة الفكرية، حيث تحتاج المراجعات الفكرية والحديث عن إصلاح الخطاب الديني وإعادة تقويمه بشكل عام لخطة متكاملة ورؤية واضحة المعالم، يشارك فيها رموز من المفكرين، فضلا عن فتح حوار مجتمعي بهدف تصحيح الأفكار المتطرفة، وليس الاكتفاء بالخطط الأمنية وحدها لتحجيم هذا الفكر.
بدأت النبتة الأولى لفكرة المراجعات عام 1965، خلال الحديث عن مبادرة لتعديل معتقدات المتطرفين من أنصار الجماعات المتشددة، ولكنها لم تكتمل، وفي ظل وساطة بعض المثقفين، ورجال الدين، وعدد من قيادات الجماعة، لوقف منهج التغيير باستخدام العنف، لكن لم تحقق الفكرة نتائج إيجابية إلا في عام 1997.
ظهرت فكرة المراجعات، التي أعلنها قادة الجماعة الإسلامية في السجون المصرية في نهاية عام 1997، كمبادرة لوقف العنف ومراجعات لنهج الجماعة الإسلامية، واكتملت في عام 2001 لتوجيه الجماعة إلى العمل المدني ظلا وعلنا.
هذه المراجعات تعد بمثابة اعترافات علنية صريحة من هذه الجماعات بأنها ضلت الطريق، وأن لديها الرغبة في تصحيح أخطائها الفكرية وإعلان توبتها على الملأ، عبر عمليات المراجعة النقدية لطروحاتها الفقهية وسلوكياتها السياسية الخاطئة، حول شرعية العنف والقتل والتكفير والحكم بجاهلية المجتمعات الإسلامية.
ولم تعرف الجماعة الإسلامية في مصر خلال الفترة منذ إعلان مبادرة وقف العنف، ثم قرار “مجلس شورى الجماعة” تبنيه رسمياً بصورة جماعية بكل أعضائه داخل مصر وخارجها في مارس عام 1999، أي صوت بداخلها يرفض المبادرة، وإن عرفت أصواتاً قليلة تدعو إلى ضرورة تقاضي ثمنها من الحكومة، وبالتحديد الإفراج عن معتقلي الجماعة وإعادة مساجدها وزواياها إليها.
انتهى الأمر بعد صدور ذلك القرار بالقبول الكامل للمبادرة ولمبدأ الرجوع عن أفكار وممارسات الغلو والعنف من جانب جميع أعضاء وقيادات الجماعة في كل مكان من العالم، وهو ما فتح الباب للمرحلة التالية، وهي البدء في كتابة المبررات والشروح الفكرية والشرعية التي تقف عليها الجماعة في مرحلتها الجديدة البعيدة عن تلك الأفكار والممارسات.
وبعد نحو عامين من الحوارات العميقة داخل صفوف الجماعة من قيادة وأعضاء تبلورت تلك المبررات والشروح في صورة سلسلة كتب “المراجعات”، وهي سلسلة كتب لتصحيح المفاهيم، تمثل مراجعة كاملة لأفكارهم التي تبنوها في فترتي السبعينيات والثمانينيات، التي صدرت المجموعة الأولى منها في يناير 2002.
المبدأ الأصلي الذي قامت عليه سلسلة المراجعات واتفق عليه كل أعضاء الجماعة هو التخلي عن ممارسات وأفكار الغلو والعنف واعتبروا الجهاد وسيلة وليس غاية، واعترفوا بأن القتال ساعد في تقسيم الأمة وأنه محرم شرعًا، كما أعلنوا التبرؤ من تنظيم القاعدة.
ولعل غياب عمر عبدالرحمن – مفتي الجماعة والزعيم الروحي للجماعة الجهادية – من الساحة عقب الحكم عليه بالسجن مدى الحياة في الولايات المتحدة، كان من العوامل التي ساهمت بشكل كبير في المراجعات الفكرية للجماعة الإسلامية.
مرت الجماعة الإسلامية في مصر بتحولات فكرية ، بخاصة الجناح المسلح منها، وهو الذي يؤمن بالتغيير باستخدام العنف والجهاد المسلح، فمن العدو القريب وتكفير الحكومات، إلى الذهاب إلى عدو بعيد بالقتال على أرض أخرى كأفغانستان، ثم استجلاب العدو البعيد إلى أرض الأمة الإسلامية، أي الشرق الأوسط (سوريا).
ورغم غياب فكرة المراجعات عن المشهد السياسي سنوات طويلة، إلا أنها عادت للظهور مجددًا، بين معتقلي جماعة الإخوان، وأعاد التاريخ صفحاته للوراء، حيث طالب عدد من الإخوان في وثيقة مسربة أطلقها هاربون للخارج، بضرورة التراجع عن العنف والحديث عن معالجة الأزمة.
المراجعات الفكرية، سبيل عدد كبير من أبناء الجماعات الإسلامية للخروج من السجن، وتجنب الضغط الشديد من الدولة، وخاصة أن عددا قليلا منهم كان على قناعة حقيقية بالمبادرات والمراجعات الفكرية.
تمت المراجعات على مراحل عدة منذ 1965 بداية من مراجعات حسن الهضيبي “دعاة لا قضاة”، والتي سرعان ما تم التراجع عنها، تبعتها “حوارات السجون” في 1981، وأخرى من1 1997 حتى 2002 مع الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد.
وبشكل عام، باتت المراجعات الفكرية للجماعات المتطرفة موضع شك بسبب مدى مصداقية أصحابها في التراجع عن أفكارهم المتطرفة، فهي في الغالب تظل مجرد مناورة سياسية يلجأ إليها المتطرف عند فشله في تحقيق غاياته وتضييق الخناق عليه والزج به في السجون، وهى توصف بأنها مجرد مرحلة التقاط أنفاس ليعاود الأمر بعدها عندما تسمح له الفرصة، ولا يوجد أي ضمان لعدم عودته للتطرف.
ولعل اختلال التوازن لدى الكتلة المرنة من محبي خطاب جماعات الإسلام السياسي، والتي انفضت عن قياداتها بسبب كثير من الأخطاء وفقدان الثقة من متبنيي هذا الخطاب، لا يمنع وجود كتلة صلبة كامنة وغاضبة ومعرضة للانفجار.
فكرة الدولة الإسلامية بشكل عام تجمع كل مدارس الإسلام السياسي (سلفيين وإخوان)، وهزيمة التيار الإسلامي في عدد من المواجهات مع الدولة أوصلت أنصارها للتمسك بالعنف الفكري، وهو العنف المرشح للتحول إلى عنف جسدي في حال هشاشة الدولة أو ضعف مؤسساتها.
بشكل عام، فإن انحسار الحل في فكرة المراجعة الفكرية وتصحيح الخطاب الديني المدفوع من الدولة، في ظل غياب المشاركة من تيارات أخرى، قد يصب في مصلحة الفكر المتطرف الكامن في الوقت الحالي.