رسالة مفتوحة إلى رئيس الجمهورية.. أيمن منصور ندا: أدعو لإصدار ميثاق إعلامي جديد يتماشى مع فكرة التحول إلى الجمهورية الثانية (عقد اجتماعي جديد)
كتب – أحمد سلامة
وجه أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، الدكتور أيمن منصور ندا، رسالة إلى رئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسي طالبه خلالها بإجراء تصحيحات جذرية لملف الإعلام الذي يعاني بشكل كبير خلال السنوات الماضية.
وقال ندا إنه أحصى أكثر من 20 رسالة سلبية من الرئيس حول ملف الإعلام، وهو ما دفعه إلى تقديم تصوراته عن كيفية حل هذه الأزمة.. مشيرًا إلى أن ما تضمنته رسالته للرئيس هي مجرد خطوط عريضة لكل منها خطواتها التنفيذية التفصيلية “لمن يريد”.
وشدد ندا على أن الانتقال إلى العاصمة الجديدة، والتحول إلى الجمهورية الثانية، يجب أن يصاحبه ميثاق جديد يتماشى مع فكرة الانتقال ذاتها.. لافتًا إلى أن “الجمهوريات الجديدة تقوم على أفكار جديدة، وعقود اجتماعية جديدة وأن جوهر التغيير يكمن في الأفكار لا في الأحجار.. في طرق التفكير وليس في أساليب الطلاء.. الحديث عن عقد جديد في الحياة السياسية المصرية هو أمر لازم.. والتمهيد لصيغة جديدة للحياة السياسية والإعلامية هو أمر ضروري وعاجل”.
وطالب ندا الرئيس السيسي بإصدار بيان لإصلاح الإعلام يؤكد على أن الإعلام حر في تناول القضايا الداخلية والخارجية كافة، وأنه المسئول عن أخطائه وفق قانون واضح وعام يتم تطبيقه على الجميع، وأن حرية الحصول على المعلومات حق لوسائل الإعلام والمهنية والاحترافية في عرض هذه المعلومات وفي الاستفادة منها حق للمجتمع وواجب علي هذه الوسائل، وأن وسائل الإعلام ملك للمجتمع تعبر عنه وعن قضاياه وليست ملكاً لأجهزة الدولة أو للحكومة، غير أنها تتعاون معها في خدمة أهداف الوطن, والتأكيد على حق الجمهور في الإعلان عن توجهاته وآرائه في وسائل الإعلام وفي القضايا العامة من خلال استطلاعات يتم نشرها باحترافية في وسائل الإعلام.. وليس للحكومة رقابة عليها أو سلطة توجيهها”.
وإلى نص رسالة الدكتور أيمن منصور ندا،،،
بسم الله الرحمن الرحيم
في المقالات السابقة، قدمت تشخيصاً لمشكلات الإعلام المصري، وتوصيفاً لبعض أعراض أزمته.. واليوم، وفي هذا المقال ، أضع بعض تصوراتي عن كيفية حل هذه المشكلة.. حتى يكون العرض كاملاً.. هذه التصورات المقدمة في هذا المقال عامة، وتوجد خطط تفصيلية لكل تصور منها، وخطواتها التنفيذية لمن يريد..
وبوصول القضية إلى معالي النائب العام، وإلى القضاء.. لم يعد هناك مجال للتعقيب أو للرد.. أترك القضية برمتها في يد العدالة.. راضياً بأحكامها، وممتثلا لقراراتها..
وبهذا يكون هذا هو المقال الأخير لي في هذا الموضوع.. أوجهه إلى فخامة الرئيس السيسي بعد حديثه بالأمس عن الإعلام المصري وملاحظاته السلبية عليه..
وأستسمحكم في عدم التعليق إيجابا أو سلباً على هذا المنشور.
المقال التاسع والأخير:
رسالة مفتوحة إلى الرئيس السيسي
الجمهورية الثانية و”الكراكيب” الإعلامية!
(1) شكاوى الفلاح الفصيح.
في نهاية الألفية الثالثة قبل الميلاد، كتب الفلاح المصريُّ “خِنوم- أنوب”(الذي سُرِق حماره وتم تعذيبُه) تسع شكاوى إلى الملك “خيتي”.. وفي بداية الألفية الثالثة بعد الميلاد، لا تزال شكاوى الفلاح المصري قائمة؛ إذ سُرِق إعلامه، ونُهِشت أعراضُه.. وكأنَّه عودٌ على بدء..
في شكاوى الفلاح الفصيح إلى الملك “خيتي” نقتبس هذه العبارات (نقلا عن سليم حسن ج 17، ص ص54- 70):
“يا مدير البيت العظيم، يا سيدي، يا أعظم العظماء…. لأنك أب لليتيم، وزوج للأرملة، وأخ لتلك التى نُبذت، ومئزر لذلك الذى لا أم له.. دعنى أجعل اسمك فى هذه الأرض يتفق مع كل قانون عادل، فتكون حاكماً خلواً من الشره، وشريفاً بعيداً عن الدنايا، ومهلكاً للكذب، ومشجعاً للعدل، ورجلاً يلبى نداء المستغيث. إنى أتكلم، فهل لك أن تسمع؟”
” يا مدير البيت العظيم، يا سيدي، يا أعظم العظماء…. يا مثقال ميزان الأرض، ويا خيط الميزان الذي يحمل الثقل.. لا تتذبذب ملتوياً. إن الإنسان سيموت مع خدمه، وهل ستكون رجلاً مخلداً؟ إن العدل يفلت، والقضاة ينحازون إلى جانب اللص.. إن الذى يجب عليه أن يحكم بالقانون يأمر بالسرقة، فمن ذا الذى يكبح الباطل إذاً؟ وذلك الذى يجب عليه أن يقضى على الفقر يعمل على العكس، والذى يسير فى الطريق المستقيم يتعثر، والآخر ينال الشهرة بالضرر.. والحكمة تقول: عامل الناس بما تحب أن تعامَل به”..
“يا أيها المدير العظيم للبيت، يا سيدي… اكبح جماح السارق.. دافع عن الفقير، ولا تكونن فيضاناً ضد الشاكي، واحذر من قرب الآخرة.. وقِّع العقاب على من يستحق العقاب.. إنك قيِّم على الميزان، اقبض على حبل الدفة.. أنت أيها السامع، إنك لا تصغى، ولماذا لا تصغى؟”.
(2) هل أخطأت فهم رسائل الرئيس؟
سيدي الرئيس: في أحاديثكم إلى الشعب، اشترطتم أربعة شروط للحديث في المجال العام.. لقد اشترطتم أولاً أن يكون الحديث من الداخل، وأنا يا سيدي ليس لي موطن سوى هذا البلد.. وأعيش وأسرتي الصغيرة والكبيرة به، وليس لدي خطة للسفر إلى الخارج.. وقد كانت أمامي لسنوات ورفضتها.. نحن يا سيدي لا نزرع أشجارنا إلا في أراضينا.. ولا نعمل إلا في حقولنا .. ولن ندفن إلا في هذه الأرض الطيبة.. واشترطتم ثانياً أن نكون “دارسين” و”فاهمين” لما نقول.. وأنا رجل قضيت عمرى كلَّه أو جلَّه في موضوع تخصصي.. لم انشغل بشيء آخر عنه، ولم يشغلني عنه سواه.. ولي فيه من الإنتاج والخبرات ما يعزز قولي، وما يدعم رأيي.. واشترطتم يا سيدي ثالثاً أن تكون المصلحة العامة هي الهدف والغاية.. وأشهد الله أنه لا شيء وراءها.. واشترطتم أخيراً ألا نسمع لأحد غيركم وأن نصدقكم.. وأنا اتبعت هذه النصيحة فلم استمع إلى أحد سواكم ولم أصدق غيركم.
بناء على هذه الشروط الأربعة، كتبت على مدار خمسة أسابيع ثمانية مقالات، وهذا هو تاسعهم.. ونتيجة لها، خضعت لكل ألوان السب والقذف ممن يطلقون على أنفسهم أذرع الدولة الإعلامية.. وتعرضت لكل أنواع الإرهاب من مؤسسات الدولة العميقة.. لم يناقشني أحد في مضمون ما قلت، ولم يدعني أحد إلى الحوار.. بل تطوعوا بالهجوم بكل الأسلحة المحرمة وغير المشروعة. ومنعوني من حق الرد ومن حق الظهور في وسائل إعلامنا الوطنية.. ورفضت الظهور في وسائل إعلام أجنبية عديدة، رغم إغراءاتها، ورغم محاولاتها العديدة.. سلقوني الإعلاميون بألسنة شداد، وكالوا لي من التهم ما هي كفيلة بإحالة أوراقي إلى فضيلة المفتي دون سند أو دليل.. وهنا يحق لي التساؤل: أينا فهم رسائلك بشكل صحيح يا سيدي: أنا أم القائمون على هذه الأذرع؟ هل فهمت رسائلكم بشكل خاطىء؟ أم أن تطبيقهم لها يتم بشكل متعسف وجائر؟ هل كانت هذه الوعود حقيقية؟ أثق بك.. وأصدقك.. غير أن بني وطني لا يطبقونها.. فما العمل؟ ولمن نلجأ؟!
يا سيدي الرئيس.. دعني أصارحك القول .. سلاح الإشارة بيننا وبينهم لا يعمل، والاتصالات أصبحت مقطوعة، والشفرة أصبحت عصية على الفهم وصعبة على الإدراك.. والأفق غائم ولا يدعو إلى التفاؤل.
(3) نحو عقد اجتماعي جديد في مجال الإعلام.
سيدي الرئيس: مع الانتقال إلى العاصمة الجديدة، والتحول إلى الجمهورية الثانية، يجب أن يكون هناك ميثاق جديد يتماشى مع فكرة الانتقال ذاتها.. الجمهوريات الجديدة تقوم على أفكار جديدة، وعقود اجتماعية جديدة.. جوهر التغيير يكمن في الأفكار لا في الأحجار.. في طرق التفكير وليس في أساليب الطلاء.. الحديث عن عقد جديد في الحياة السياسية المصرية هو أمر “لازم لازب”.. والتمهيد لصيغة جديدة للحياة السياسية والإعلامية هو أمر ضروري وعاجل.. والفصل بين الإصلاحين السياسي والإعلامي هو فصل تعسفي وغير ممكن .. ليس لنا منهما معاً بدٌّ، إذا كنا نريد تحولاً حقيقياً وانتقالاً فعلياً من جمهورية إلى أخرى..
وفي هذا الإطار، وفيما يخص الإعلام، أقترح أن يتم إصدار “بيان الرئيس السيسي لإصلاح الإعلام: العهد الجديد The New Deal” .. وهو بيان يوضح ما يجب أن يكون عليه الإعلام في معالجة قضايا الأمة.. بيان يحب الرئيس السيسي أن يسُجَل باسمه في التاريخ كعلامة على الانتقال إلى جمهورية ثانية.. في السياسات الخارجية يتحدثون عن مذاهب بعض الرؤساء Doctrines ، ونحن نريده مذهباً في الإعلام، وميثاقاً يعبر بنا من تيه المجهول إلى أرض الواقعية الخصبة.. وأتصور أن يتضمن البيان النقاط أو المبادىء العامة التالية والتي بدونها نكون ندور في حلقة مفرغة:
1) الإعلام حر في تناول القضايا الداخلية والخارجية كافة..
2) الإعلام مسئول عن أخطائه .. وفق قانون واضح وعام يتم تطبيقه على الجميع.
3) حرية الحصول على المعلومات حق لوسائل الإعلام .. والمهنية والاحترافية في عرض هذه المعلومات وفي الاستفادة منها حق للمجتمع وواجب علي هذه الوسائل.
4) وسائل الإعلام ملك للمجتمع تعبر عنه وعن قضاياه وليست ملكاً لأجهزة الدولة أو للحكومة، غير أنها تتعاون معها في خدمة أهداف الوطن..
5) حق الجمهور في الإعلان عن توجهاته وآرائه في وسائل الإعلام وفي القضايا العامة من خلال استطلاعات يتم نشرها باحترافية في وسائل الإعلام.. وليس للحكومة رقابة عليها أو سلطة توجيهها..
(4) فض الاشتباك ضرورة.
سيدي الرئيس .. بعض مواد الدستور كما صرحتم في أحاديث عديدة وُضِعت بحسن نية.. أو لم تراعِ الظروف المجتمعية.. المواد المتعلقة بالإعلام وبالهيئات الثلاثة المسئولة عنه تعاني عديداً من القصور، وبها عوار واضح.. وفي هذا الإطار نقترح ما يلي:
1) إجراء تعديل دستوري (تشريعي) يسمح بإلغاء المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والرجوع إلى وزارة الإعلام بصلاحياتها وآلياتها السابقة.. وزارة تكون مسئولة عن وضع السياسات الإعلامية والإشراف على تنفيذها.. والتنسيق بين الدولة ووسائل الإعلام المختلفة على تنوع أشكالها.. المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بشكله الحالي عاجز عن القيام بأي فعل.. وأداء رئيسه وتاريخه الوظيفي ليس على مستوى المنصب.. الهياكل الكارتونية غير مطلوبة.. والكيانات الوهمية غير مرغوبة.. نريده أداء مهنياً على أرض الواقع، وفعالية نرى أثرها على الشاشات والصحف.. وفي هذا الإطار، نقترح أيضاً مراجعة القوانين المتعلقة بالهيئات الثلاثة، ومدى صلاحيتها للتطبيق الفعلي، خاصة وقد كشف التطبيق عن مشكلات عديدة بها، وعن عيوب قاتلة قللت من قدرتها على القيام بجوهر وظائفها.. التعديل يا سيدي الرئيس لا يحتمل التأجيل.. كل يوم نتأخر في إجراء هذه الإصلاحات يخصم من قدرتنا المستقبلية على المواجهة..
وإن تعذر ذلك، فاقترح الالتجاء إلى البديل الثاني..
2) إلغاء منصب وزير الدولة للإعلام، واستبداله بمنصب مستشار إعلامي للرئيس، أو مساعد للرئيس لشئون الإعلام والثقافة.. وتكون له صلاحيات التعامل المباشر مع الهيئات الثلاثة، والتنسيق بينها، ووضع السياسات الإعلامية، والإشراف على تنفيذها.. صلاحيات مستمدة من الرئيس ونابعة من اختصاصاته.. منصب وزير الدولة للإعلام بشكله الحالي غير فعال.. وغير مؤثر.. ولو جئنا بالعظيمين ثروت عكاشة وعبد القادر حاتم، ما فعلوا شيئاً.. المهام فضفاضة، والصلاحيات معدومة.. وعلاقات الوزير مع الإعلاميين ليست على ما يرام.. والرؤية الحكومية غير واضحة في تناول كثير من القضايا.. الكيانات الأفقية دائماً ما تكون متصارعة.. حرب تكسير العظام بين وزير الدولة للإعلام ورئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام ليست في صالح هذا الوطن.. كلاهما لا يقوم بدوره كما ينبغي.. كلاهما لم يضف جديداً، وكلاهما في حاجة إلى تغيير.
(5) الكراكيب الإعلامية!
عند الانتقال إلى العاصمة الجديدة، والجمهورية الثانية، لا يجوز لنا أخذ الكراكيب القديمة معنا.. نريدها عاصمة مؤسسة على قواعد صحيحة، ومؤثثة بفرش عصري حديث.. نحتفظ بالغالي من القديم، ونتخلص من الكراكيب التي لا لزوم لها..
الحياة الإعلامية المصرية بها كثير من الكراكيب التي يجب التخلص منها.. هي كيانات تأخذ حيزاً كبيراً، وتستغل قدرات هائلة، وحصيلتها صفرية.. الكراكيب الإعلامية تحجب عنا ضوء الشمس، ونور الحقيقة.. والأهم أنها تمنعنا القدرة على تنفس رائحة الأمل في المستقبل.. كراكيبنا الإعلامية رائحتها عفنة، وماؤها آسن، ووجوهها كريهة ليست في معظمها الوجوه التي يرضى عنها الناس.. بعضها أصبحت تعتبر نفسها هي الدولة .. الاقتراب منها هو اقتراب من الدولة.. ونقدها هو نقد للدولة.. وبعضها يعتبر نفسه فوق الدولة !! مراكز القوى الإعلامية أصبحت أشد خطراً على الدولة من أعدائها الخارجيين.
سيدي الرئيس: لكل مرحلة تاريخية إعلاميوها الذين يتوافقون مع أهدافها.. وإعلاميونا ولاؤهم ليس لك.. كيف نصدقهم وقد قالوا الكلام نفسه عن آخرين.. تنقَّلوا من مائدة إلى مائدة.. ومن رئيس إلى رئيس.. والشعب ذكي.. وذاكرة الشعب لا تنسى.. قد يتظاهر بالنسيان، ولكنه يزن كل شخص بميزان الذهب.. ويقدَّر كلَّ شخص حقَّ قدره تماماً.. ويضع الناس مواضعهم الحقيقية!
سيدي الرئيس: لقد تم فرض الاعتزال والغياب على كثير من الإعلاميين المحترفين، وتم تصعيد عدد كبير من غير الكفاءات.. إهدار الموارد البشرية والكفاءات المهنية أكثر فداحة من خسائر الموارد المادية والطبيعية.. الفرز مهم، والتمييز بين القادرين على الإنتاج وغير القادرين مطلوب.. غير أن العلاقات الشخصية لا يجب أن تكون المحدد الأساسي لتقييم الأشخاص والكفاءات.. الجمهورية الجديدة يا سيدي الرئيس يجب أن تقوم على الأفراد والقدرات والكفاءات، ولا تقوم على الأبراج والبنايات والولاءات.. الجمهورية الثانية يجب أن تكون جمهورية بشر وليست جمهورية حجر.. والعدل والإنصاف والتقدير هو أساس حياة البشر..
(6) الحلول الجذرية واجبة.
سيدي الرئيس: لقد التزمت الدولة وقامت بخطوات جريئة في مجال الاقتصاد والسياسات العامة، واتخذت قرارات لم تجرؤ حكومات عديدة على اتخاذها أو تنفيذها.. غير أنَّها في مجال السياسات الإعلامية أياديها مرتعشة رغم سيطرتها، وقراراتها غير فعالة رغم ضخامة تكلفتها.. نحتاج إلى مثل هذه الجرأة في إصلاح منظومة الإعلام.. إصلاح الإعلام مقدم على غيره من أنواع الإصلاح، أو على الأقل يجب أن يكون متوازياً معه..
إن أهم مشاكل إعلامنا الحالي يا سيدي الرئيس أنها تعاني “أنيميا ثلاثية الأبعاد”؛ فقر المصداقية والمهنية والفعالية.. ثلاثة أبعاد بعضها من بعض، وثلاثة طبقات بعضها فوق بعض.. وعلاجها يجب أن يكون متزامناً وبالتوازي.. وغياب هذه الأبعاد وفقرها يؤدي إلى نكسات إعلامية عديدة، عشناها ونعايشها.. فقر المصداقية يضرب بكل خطط تسويق مشروعات الدولة.. وفقر المهنية يؤثر بالسلب على قدرتنا على التصدي والمواجهة.. ونقص الفعالية يجعل كل جهودنا هباءً منثوراً أو سراباً يحسبه الظمآن ماءً.. وفقر كل هذه الأبعاد هو موت فعلي للإعلام، وغياب حقيقي له..
سيدي الرئيس: نتائج عديد من الدراسات وكذلك الملاحظة الشخصية تشير إلى توجه نسبة من المشاهدين (يختلف تقديرها) إلى بعض القنوات المعادية بحثاً عن توجه مختلف عن التوجه السائد المسيطر على وسائل الإعلام المصرية.. المجال العام مغلق تماماً في مصر.. لا صوت يعلو فوق الصوت الذي تريده الحكومة أو يريده بعض العاملين بها.. خنق الرأي الآخر على المدى المتوسط والبعيد يلحق خسائر بالدولة ككل.. ليس من مصلحة الدولة تخوين كل صاحب رأي مختلف، وليس من مصلحتها سيطرة توجه واحد ووحيد على كل شيء.. الاختلاف حق، ومطلب، وضرورة للأفراد، وواجب على الدولة..
(7) الهدايا المجانية والنيران الصديقة.
سيدي الرئيس.. سجلتُ لكم أكثر من عشرين إشارة سلبية على الإعلام ودوره.. آخرها بالأمس 30 مارس في قناة السويس.. أحاديثكم لا تحتاج إلى شرح، وتعليقاتكم لا تحتاج إلى توضيح.. ومشكلة الإعلام تزداد استفحالاً يوماً بعد يوم!
سيدي الرئيس: معظم هزائمنا الإعلامية تحدث بنيران صديقة.. لاعبونا يجيدون إحراز الأهداف العكسية في شباكنا .. طريقة معالجتهم لكثير من القضايا لا يحكمها العقل أو المنطق أو التجربة الإعلامية.. أوضحت لهم في مقالاتي الثمانية السابقة بعض أوجه القصور في هذا الأداء، فهاجموني.. غير أن هجومهم كان تأكيداً لما قلت، وإثباتاً لما ذهبت.. أكدوا كل ما أشرت إليه من قصور، وزادوا عليه كثيراً..
في معالجة قضايانا الحيوية، إعلاميونا يرتدون قفاز الخسارة لا الجسارة.. وحذاء الإبادة لا الإجادة.. هم راضون من الغنيمة بالإياب في كل مرة.. ويتهمون أطرافاً خارجية بالتسبب في هزائمهم الإعلامية.. إعلاميونا يا سيدي الرئيس مدافعهم مصوبة لنا، وظهورهم لأعدائنا.. حربهم في معظمها معنا.. وكلامهم موجه لنا .. ويرجعون من كل معركة بخفي حنين.. إعلامنا لا يكتسب أرضاً جديدة أو جمهوراً جديداً.. بل يفقد كل يوم مساحة كانت لنا، ورصيداً كان لدينا.. رسائل المساندة للمؤيدين لا تحتاج إلى كل هذا الجهد ولا إلى تلك التغطية المكثفة.. هزائمهم يا سيدي الرئيس تنعكس علينا جميعاً بالسلب، ونجاحاتهم لا تصب إلا في صالحهم.. والعدل هنا لا يستقيم.
أخطاؤنا الإعلامية يا سيدي الرئيس هي هدايا مجانية نوزعها على القنوات المعادية لنا.. خط هجومنا يرتكب حماقات إعلامية.. و”تجلي” منه الكرة في كل مرة.. وليس له قائد استراتيجي.. نسمع لإعلامنا قعقعة ولا نرى طحيناً.. صوته عال، وبلا تأثير.. نحتاج إلى قوة الأسد أكثر من حاجتنا إلى ضخامة الفيل.. إعلامنا ضخم الجثة بلا قوة ولا سرعة ولا قدرة على الانقضاض أو الاشتباك الفعال.. الإعلام أخطر من أن يتم تركه لمن لا يعي دوره.. والقدرة على التأثير لا تتم بالقوة .. أخذ الحق صنعة.. والإعلام صنعة يا سيدي الرئيس لا يجيدها كثير مما يتصدرون المشهد الحالي.
(8) تغيير الأولويات والبدايات.
سيدي الرئيس: هناك طريقتان رئيستان للتعامل مع الرأي العام: الأولي هي إقناع الرأي العام بالسياسات المطلوبة بعد الإعلان عنها وأثناء تطبيقها .. وهذه هي الطريقة التقليدية، وهي طريقة محفوفة بالمخاطر، وثبت فشلها في كثير من المواقف والحالات.. ورصيدنا منها كافٍ ولا نحتاج إلى مزيد.. والثانية هي التمهيد للرأي العام وخلق اتجاه مؤيد لهذه السياسات أولاً.. وإدارة حوار مجتمعي فعال حولها، ثم تأتي الإدارة السياسية لتتبني هذه السياسات بما يتفق مع توجهات الرأي العام، وبما يتفق مع “الرأي الجمعي” للمجتمع.. وهذه هي الاستراتيجية الأكثر فعالية، والأكثر استخداماً في مخاطبة الشعوب..
لقد تبدل يا سيدى الرئيس مفهوم السلطة الوالدية للحكومة ولنظام الحكم وسلطتهم المطلقة على الشعب، إلى مفهوم “إن كبر ابنك خاويه”.. الشعوب شبَّت، ونضجت، وشابت وأصبحت لها حساباتها الخاصة بعيداً عن الحكومات.. وشعبنا يحتاج أن يرى نفسه في سياساته، وفي وسائل إعلامه.. لا يريدها برامج تلقينية، بل برامج حوارية.. ونقاشاً عقلانياً، بديلاً عن التلويح بالسلطة الوالدية..
نحتاج إلى منظور جديد للتعامل مع الناس من خلال وسائل الإعلام.. من الصعب قبول الطريقة التقليدية للسلطة الوالدية في زمن تغيرت فيه كل القواعد، وتبدلت فيه كل الوسائل.
(9) ما أحلى الرجوع إليه: الفلاح الفصيح.
“يا مدير البيت العظيم، يا سيدي، يا أعظم العظماء…. كن صبوراً حتى يمكن للإنسان أن يستغيث بك لقضيته العادلة.. لا تجعل قلبك يقسو، فذلك لا يليق بك. إن الحكام قد نُصِّبوا ليدرأوا السوء، وليكبحوا الكذب.. أقم العدل لرب العدل، والذى عدل عدالته دائمة”..
“وأنت أيها القلم، وأنتِ أيتها البردية، ويا أيتها الدواة، ابتعدوا عن عمل السوء.. إن العدل سيكون إلى الأبد، ويذهب مع صاحبه إلى القبر، ويُدفن ويواريه التراب. أما اسمه فلن يُمحى من الأرض، بل سيُذكر للخير، وهكذا القانون فى كلمة الله، فهو ميزان لا يميل”.
اللهم هل بلغت.. اللهم فاشهد.. وأفوض أمري إلى الله .. إن الله بصير بالعباد..