رحيل صنع الله إبراهيم… الرواية كسلاح مقاومة والمثقف كمناضل
في صباح اليوم الأربعاء، 13 أغسطس 2025، غابت عن عالمنا قامة أدبية استثنائية، وصوتًا حادّ النبرة في وجه الظلم، وأحد أعمدة السرد العربي المعاصر. رحل الروائي الكبير صنع الله إبراهيم عن عمر ناهز 88 عامًا، إثر إصابته بالتهاب رئوي استدعى نقله إلى أحد مستشفيات القاهرة، ببرحيله، فقدت الثقافة المصرية والعربية ضميرًا حيًّا ظلّ حاضرًا على الدوام.
برحيل صنع الله إبراهيم لا نفقد كاتبًا كبيرًا وحسب، بل نفقد أحد آخر الأصوات التي جسّدت معنى أن يكون المثقف في قلب المعركة، لا على هامشها، لكن عزاؤنا أنه ترك وراءه إرثًا أدبيًا وإنسانيًا خالدًا سيظل حيًّا في وجدان الثقافة المصرية والعربية، وذاكرة النضال اليساري العربي.
منذ شبابه، اختار صنع الله إبراهيم أن يسير في الاتجاه الصعب: أن يكتب ضد التيار، وأن يعيش منحازًا للفقراء والمقهورين، وأن يتبنى قضايا التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية والمساواة. وُلد عام 1937 في أسرة مثقفة بالقاهرة، وبدأ مساره الأكاديمي بدراسة الحقوق في جامعة القاهرة، لكنه كان يرى أن العدل لا يتحقق في قاعات المحاكم فقط، بل في الشوارع والمصانع وميادين المقاومة. لهذا انضم إلى “المنظمة الشيوعية المصرية” (حدتو)، أحد أهم التشكيلات اليسارية في الخمسينيات، وشارك في العمل السري من أجل بناء مجتمع أكثر عدلًا ومساواة.
عام 1959، اعتُقل مع رفاقه في حملة واسعة ضد الشيوعيين، وقضى خمس سنوات خلف أسوار السجن حتى 1964. كانت تلك التجربة نقطة تحول حاسمة في حياته؛ فالسجن لم يكسره، بل صقله، ومنحه وضوحًا أكبر في الرؤية وصلابة أشد في الموقف. هناك، وسط جدران الزنازين، عاش مع مئات المثقفين والمناضلين، وتحوّل المعتقل إلى “جامعة حقيقية” لتبادل المعرفة والتثقيف السياسي والفكري. قرأ، وكتب، واحتك بتجارب إنسانية قصوى، ستنعكس لاحقًا في أدبه، ليس كذكرى شخصية، بل كأرشيف للمقاومة ضد القمع السياسي.
خرج من السجن حاملًا قناعة راسخة بأن الكتابة ليست مهنة للترف، بل سلاح مقاومة. عمل في وكالة الأنباء المصرية، ثم في وكالة الأنباء الألمانية ببرلين الشرقية (1968–1971)، وهناك عاش تجربة الإعلام الاشتراكي في زمن الحرب الباردة. لاحقًا سافر إلى موسكو لدراسة السينما والتصوير، قبل أن يعود إلى القاهرة عام 1974 ويتفرغ تمامًا للكتابة منذ 1975.
في رواياته، دمج الوثيقة بالخيال، واليومي بالتحليل السياسي، لتصبح الرواية عنده بمثابة “محضر تحقيق” يكشف الزيف ويواجه السلطة، لا بوصفها حاكمًا فقط، بل كمنظومة كاملة من الإعلام والاقتصاد والسياسة والثقافة. كتاباته كانت باردة في ظاهرها، كالتقارير، لكنها مشحونة بغضب طبقي وتمرّد فكري، تنحاز دائمًا للضحايا والمهمشين.
أعماله الكبرى –مثل “شرف”، “اللجنة”، “ذات”، “نجمة أغسطس”، “بيروت بيروت”، “وردة”– لم تكن مجرد نصوص أدبية، بل شهادات سياسية على زمن عربي مأزوم، ووثائق سردية ضد النسيان. في “شرف”، فضح تواطؤ السلطة مع رأس المال، وفي “اللجنة” فكك آليات البيروقراطية القمعية، وفي “ذات” كشف التحولات الاجتماعية والاقتصادية في عهد الانفتاح وما تلاه.
كان صنع الله إبراهيم مثقفًا عضويًا بمعنى الكلمة؛ يعيش في قلب قضايا شعبه، ويستخدم كل ما لديه من أدوات فكرية وفنية لمواجهتها. رفض عام 2003 تسلم “جائزة الرواية العربية” من المجلس الأعلى للثقافة، في موقف شجاع ضد السلطة السياسية، وهو يعلن على المنصة أمام الحضور أن الجوائز الرسمية لا يمكن أن تغسل وجه النظام القمعي. رفض التطبيع مع إسرائيل، وانتقد بشدة صمت المثقفين، وظل منحازًا للقضية الفلسطينية ولكل حركات التحرر في المنطقة والعالم.
حتى في شيخوخته، ظل يقظًا في مواقفه. في مايو 2025، حين تدهورت صحته بسبب كسر في الفخذ ووعكة شديدة، حظي برعاية رسمية، لكن حضوره ظل مرتبطًا بصفته مثقفًا يساريًا صعب الترويض، لم يغيّر من انحيازاته ولا من نظرته النقدية للسلطة.
صنع الله إبراهيم لم يكن فقط روائيًا قديرًا، بل كان المؤرخ البديل، والضمير الحي للرواية العربية. أعاد تعريف الرواية لتصبح وثيقة مقاومة، وأثبت أن الأدب يمكن أن يكون معركة سياسية بوسائل الجمال والفن. رحل الجسد، لكن بقي النص – والنص عنده لم يكن أبدًا مجرد حكاية، بل موقف.

