رائد سلامة يكتب: الميكرُوفُون.. (إبداعات)
كنتُ أحرصُ كل الحِرص علي أن أكون هناك مبكرًا، ربما بعد صلاة الفجر حتى أضمَنَ لنفسي مكانًا إلي جوار الشيخ “محمود” المؤذن الذي كنت أظن حينها أنه يمتلك الميكروفون فيأتي به من منزله قبل الصلاة ويَؤُوبُ به إليه بعدها، لم يكن الشيخ “محمود” يتخلى عن الميكروفون -علي عشقه الشديد له- إلا حين تناديه الطبيعة فيسرع للتلبية تاركًا الميكروفون -مُكرَهًا- لأحدنا لأجل القيام بدلًا منه بالمهمة الأسطورية المقدسة.
كنا نَتَحَلَقُ حوله في إنتظارِ تلك اللحظة المجيدة حين يتَلَمَظُ مُتَملمِلًا تحت إلحاح مَثَانَتِهِ الملتهبةِ دومًا فيبدأ بالتحديق بكل منا مُتَفَحِصًا ونحن إليه بتوسُلٍ ناظرين ليتخير أحدنا ممن يلتمس فيه نباهةً وقُدرَةً علي القيادة وحُسن التصرف لينال شرف النيابة عنه لحين عودته، كان أداء آخر العبارات هو المعيار الحاسم في إختيار الشيخ “محمود” حيث تتجلَّى كفاءة الإنتقال في قِسمَيها بين الجوابِ و القرار في سُرعةٍ محسوبةٍ بدقةٍ دون إفراط يُفسِدُها.
كنتُ أدرك أهمية تلك العبارة بالتحديد لدي الشيخ “محمود” وكنت أجيد أداءها علي نفس النسق الذي كان يحرص هو عليه في قيادة حَلَقَتنا، فكان -بمجرد أن تَقَع عيناه عَليَّ- يطمئن فيُناولُني الميكروفون برفقٍ كَأُمٍ تُقَدِمُ رضيعها لأبيه كي يحمِلَهُ عنها مؤقًتًا، كان الشيخ “محمود” يسمح لي في بعض الأحيان بإستمرارِ الأداء في حضوره مُكتَفِيًا بالمتابعة في صمت لدقائق ينتزع بعدها الميكروفون من بين يديَّ مُطمئنًا لعودته إلي كَنَفِه.
كنت أرجِعُ بعد إنتهاء الصلاة إلي منزلنا سريعًا أعدو لأسأل أمي السؤال الذي استَمَر لسنوات: “هل سَمِعتِ صوتي في الميكروفون؟” و كانت الإجابة دومًا لا تتغير، ” طبعًا يا حبيبي، صوتك كان مِلَعْلَع”.
ظللتُ عُمْرًا أظن أن صوتي كان بالفعل ” مِلَعْلَع” إلي أن قال لي الشيخ “محمود” بعدما كِبرنا -هو وأنا- أنه كان يُغلِق الميكروفون بعدما يناولني إياه فلا يسمع أحد من خارج المسجد سوي همهَماتٍ مُبهَمَةٍ تتردد علي خَلفيةِ اللحن السرمَدي الذي يُنشِدُهُ جَمعٌ كثير، لم يكن الشيخ “محمود” يسمح لصوت أحدٍ سواه بأن “يُلَعلِع” في الميكروفون ولم تَكُن أمي ترغب بأن تَصدِمَني حين تصدقني القول بأنها لم تسمع شيئًا.
تُوفيَّت أمي وتُوفِيَّ الشيخ “محمود” ومعه ميكروفُونه الذي أودعناه معه بقَبرِهِ كَكنز تاريخي ثمين، إفتَرَق أصحابُ الحَلَقَة وصار الناس فَجأةً يرتادون الميادين الكبرى التي أُخليت لهم مُرَدِدِين عبارة واحدة فقط لمئات المرات في تكرارٍ رتيبٍ يضرِبُه المَلَل ولم يفلح نصفُ قَرنٍ من التيهِ في مَحو ذكريات الميكروفون…….” الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا وسبحان الله بكرةً وأصيلًا، لا إله إلا الله وَحده صَدَقَ وَعده ونَصر عَبدهُ وأعَز جُنده وهَزم الأحزاب وَحده، لا إله إلا الله و لا نَعبد إلا إياه مُخلِصين له الدِينَ ولو كَرِهَ الكافرون، اللهم صَلي على سيدنا مُحمد وعَلى آلِ سَيدنا مُحمد وعَلى أصحابِ سَيدنا مُحمد وعَلى أنصارِ سَيدنا مُحمد وعَلى أزواجِ سَيدنا مُحمد، وعَلى ذُرية سَيدنا مُحمد و سَلِم تَسليمًا كَثيرًا”.