رائد سلامة يكتب: الغَريب مَليحُ قَسَمات الوَجه.. (إبداعات)
لم يكن لديه بيت خاص ولا زوجة، كان عمله في النهار بمدرسة القرية ثم في الليل بمراكز الدروس الخاصة بالمدينة لتوفير نفقات علاج والديه قد أهلَكَه واستنفد السنين والأيام، في العقد الخامس كان، يخرج من منزله في الصباح فلا يعود إلا في نهايات الليالي، كان أهل القرية جميعًا ينادونه “بالأستاذ”.
كان أصدقاؤه يحذرونه من السَير ليلًا إلى جوار “القَنَايَة” وكذلك كان يفعل أبوه بعدما يروي له حكاياته معها ثم ينصحه بقراءة القرآن وذَرِ الملح الذي تدس أمه أكياسًا صغيرة منه في جيوبه لإستخدامه إن هو صادفها. “يا جماعة ما عفريت إلا بني آدم”، هكذا كان يجيبهما ضاحكًا، قسطٌ مُعتَبَرٌ من التعليم كان حِصنُهُ غير المَنيع تمامًا إذ ظلت نزعةُ إيمانٍ بالخوارق تُمَثِلُ ثغرةَ الحِصن التي تَسَرَب منها هاجسٌ في عُمق وجدانه يأبى كامِلَ النُكران.
لا قمر ولا نجوم بالسماء في تلك الليلة التي سبقت عيد الأضحي بأيام، لم يكن هناك سوى ظلام دامس علي مَد البصر وصمت لم يهتك وقارهُ سوى أزيزُ ريح باردة ونقيق ضفادع رتيب، صوت خافت ناداهُ هَامَسًا “يا أستاذ”، إنقطع النقيق وتوقفت الريح، تَسَمَر في مكانه، إقشَعَرَ، لابد أنها هي، من عساه يكون سواها، هي التي تتجول ليلاً بين الزراعات إلي جوار القناية، قرأ المُعوذَتين، تَحَسَس أكياس الملح في جيبه، أكمل المَسير يرتعد. ناداه الصوت ثانيةً بشيئ من الوضوح و إن بقىَ خافتًا، كان خَشنًا هذه المرة، لم يكن إذن هو صوت المرأة التي يخشاها، إطمأن قلبه لخشونة الصوت فإستراحت نفسه قليلًا، إلتَفَت، لم يُبصر شيئًا، توجه ناحية الصوت بقلبٍ يخفق كَدُف، دَفَع بيديه أوراق الذرة فإنزاحت عن خُفاشٍ طارَ في فَزع، صَرَخ، تَرَاجع، سَقَط علي الأرض الزَلِقة، نَادَاهُ الصوت مرة ثالثة من خلفه، إدار رأسه فرآه، طيفٌ عملاقٌ يتطاول فوق أوراق الذرة العالية في الظلام ، مَدَ الطيف يُمناه نَحوَه، إلتَقَطها فقام، لم يرهُ عملاقًا حينها و لم يكن طيفًا، بَشَرًا من لحمٍ ودمٍ كان، لم يستطع في الظلام تمييز ملامحه، “السلام عليكم” حَيَّاهُ و إبتسم في وجهِهِ، “العفاريت لا يُقرِئون الناس السلام”، هكذا تحدث في نفسه، إطمأن، سار في صمت إلي جواره بحذاء القناية، تَبَيَّنَ ملامِحَه في ضوء السِهرَاية الضَعيف حين جَلَسا بإحدى “الغُرَز”ِعلي أطراف القرية، كان الغريب شابًا ثلاثينيًا طويل القامة أسمر البشرة مليح قَسَماتِ الوجه يرتَدي جلبابًا رماديًا وعلي رأسه يضع عِمامة بيضاء وعلي كتفيه شَالٌ من الجوخ، بعد غَمزَةٍ من عين الغريب أتاهُما صبي الغُرزَة علي الفور بالشيشة التي كان بها حَجَرًا من “المِعَسل” لا فَحم فَوقَه ثم وقف أمامهما حامِلًا “المصفاة” الزاخرة بقطع الفحم الصغيرة المشتعلة كياقوتٍ أحمر، أخرج الغريب من جيب جلبابه الداخلي شيئًا نَزَعَ بِحِرصٍ شديدٍ عنه ورقة السوليفان التي كانت تُغَلِفَه ثم تناول بإصبعه “البصمة” فوضعها علي رأس حجر المعسل، حينها تَبَسَم الصَبي ثم رَكَعَ علي الأرض أمامهما ليقوم بمهمته المقدسة واضِعًا الفحم الذي إنتقاهُ بعناية علي حجر المعسل المغموس. ساعة قضاها مع الغريب دون كلام يتناوبان التدخين حَجَرًا وراء حَجَرْ. لم يَدْر سبب إستسلامه لصُحبَة الغريب علي هذا النحو وهو الحريص دومًا علي الإحتفاظ بمساحة من الجفوة المشوبة بقدرٍ من تواضُعٍ حَذِرٍ مع الناس جميعًا فما بالك بمن يلتقيه لأول مرة في هكذا حال، إستأذن لقضاء حاجته ولما عاد لم يكن الغريب في مكانه، قال له صبي الغُرزة أنه قد دَفَعَ الحساب وغَادَر.
أفلَ عائدًا إلي بيته يصحَبه صداعٌ عظيم ثم راح يغط في نومٍ عميق بكامل ملابسه. في الصباح كان خبرٌ قد إنتشر في القرية بأن أموال أكبر تاجر لبيع الأضاحي قد سرقها غَريبٌ مَليحُ قَسَمات الوَجه يرتَدي جلبابًا رماديًا وعلي رأسه يضع عِمامة بيضاء وعلي كتفيه شَالٌ من الجوخ.