رائد سلامة يكتب: الشَاعِر والمِليَاردير.. (إبداعات)
استيقظ مبكرًا علي غير عادته، قرر أن يحلق ذقنه التي لم تمس شفرة ماكينة الحلاقة شعرةً منها لثلاثة أشهر كاملة لم يغادر فيها الأستوديو الذي يسكنه بوسط المدينة، حلق ذقنه و تحمم مُضطرًا بماء بارد فلم يكن لديهِ سَخَانًا للماء. كان الأستوديو في حالٍ مُزرٍ، لم يقم بالإتصال بالفتاة التي تقوم بتنظيف منزله ثم تمارس معه الجنس بعد إنتهاءها من عملها لقاء وجبة لَحمٍ مشوي و ورقة من فئة المائتي جنيه، قرر تنظيف الأستوديو بنفسه.
كانت أعقاب السجائر في كل مكان، تحت السرير، في الزوايا، في الحمام و في بقايا القهوة التي تَحَجَرَت بالأكواب الزجاجية لتبدو معها أعقاب السجائر كما لو كانت أطرافُ حِرابٍ غُرِسَت في جَسَدِ مُقاتلٍ مملوكيٍ قديم. لم يكن يحب شُرب القهوة في الفناجين المُزَخرفة صغيرها والكبير، فالفنجان الصغير لا يُشبِعُ نَهَمَهُ فيطلب المزيد بغير توازن بينما يفقدهُ الفنجان الكبير إحساسهُ بقداسة القهوة، كان الكوب الزجاجي يُلبي حاجته بدقة و يُشعِرهُ بقدر من الحَمِيمِيةِ المُباشِرةِ دون زيفِ زَخرفاتِ الفناجين الصماء التي تُخفي طبقات القهوة فلا يظهر منها سوي “الوِش” فقط، كان يجد في متابعة ذَرَات البُن الدقيقة تتماوج بالسائل الداكِن المَجيد في الكوب الشفاف متعةً تضاف إلي مُتعة تذوق طعم القهوة المُحَمَصة بقدرٍ محسوب.
تَغَلبَ علي أعقاب السجائر و أكواب القهوة فأزال آثارهما تمامًا من الأستوديو، بقيت مُعضِلَةٌ تنظيفيةٌ أخري أمامه لكنها كانت سهلةً إلي حد ما، جَمَعَ زجاجات البيرة الفارغة التي تناثرت في الأركان بغير نظام خلال دقائق فأودعها بالكيس البلاستيكي الأسود الكبير ثم حَمَلهُ فألقاه بصندوق القمامة الضخم علي باب البناية و عاد مرة أخري، تَمَدَدَ علي السرير وراح في غفوة أفاق منها قرب غروب الشمس.
علي عجل إرتدى بنطلونه الجينز السرمَدي الذي لا يبلى و من فوقه وضَعَ قَميصًا أبيض ثم بلوفر أزرق تَوَجَهُ بجاكيت بُني عتيق و كوفيةٍ كان قد نسيها أحد أصدقاءه بمنزله في إحدى الليالي فصارت مُلكَهُ ثم إعتمر البيريه الصوف حمايةً لصلعته من صقيع يناير و إستعد للمغادرة. لم يكن قادرًا علي إستيعاب معنى أن يقوم ملياردير لا وقت لديه إلا لمتابعة نشاطاته التجارية من بيع و شراء و تقسيم أراضي ومضاربات في بورصات الأسهم والمعادن بتخصيص قدر من المال للإنفاق علي مسابقة للشعر. كانت قناعته أن هذا الملياردير يُضَحي بقَليلٍ من أموالٍ لا تؤثر بأي نسبة في حجم ثروته فيمنحها لبعض الأدباء الفقراء كي يلتقط معهم صورًا يُكمِل بها هيئته العامة كَراعٍ للثقافة علي طريقة أسلافه التاريخيين لكن بدرجة أكثر إنحطاطًا، كانت يؤمن بأن هناك تناقض دائم بين إكتناز المال وتراكُم الثقافة، كان يرى أن الثقافة الحقيقية لا ينبغي إلا أن تكون عذراء حرة لا يهتك أحدٌ بكارتها ولا يضع المال لها قيودًا فَيُكَبِلُها، أنصت لتفسير أحد أصدقاءه من أن هذا هو ما يُطلق عليه في علم الإدارة مصطلح “المسئولية الاجتماعية للشركات”، لم يقتنع لكنه قَبِلَ هذا التأويل علي مضض.
إنطَلَق إلي الفندق الفخيم المطل علي شاطئ النهر بأرقى أحياء المدينة، تَوَجَهَ نحو قاعة الإحتفالات الكبرى، استقبلوه بترحابٍ ارتابَ من شدة حفاوتِه، التُقِطَت له صورٌ كما تَوَقَعَ مع الملياردير وهو يصافحه بيُمناه ويقدم له باليُسرى شيك الجائزة، وضع الشيك في جيب الجاكيت العلوي إلى جوار قلبه، انتهى الأمر سريعًا فمضي.
قرر الاحتفال، اشترى زجاجة ويسكي من النوع الفاخر الذي لم يَعتَدْه، أتبعَها بكيلو من الكباب والكفته، عَبَر الشارع نحو أكبر محال الحلوى بوسط المدينة فاشتري كعكة شوكولاتة كبيرة مغطاة بحبات كريز لامِعة وعاد إلي الأستوديو وحيدًا، أكَلَ كل ما أتى به و شَرِبَ حتي آخر قطرة من الويسكي ثم راح في نومٍ عَميق.