رائد سلامة يكتب: الجَنْة.. (ابداعات)
كنت دائما ما أنتظر جَدْي “يوسف” هناك عند وصوله من مَكتَبِهِ عَصر كل يوم، كان يَصُفُّ سيارته الأوبل “ريكورد” الزرقاء موديل 1958 إلى جوار الرصيف وبالتحديد مقابل باب منزله الذي إنتقلنا للإقامة به والذي وضعت الحكومة أمامه حائطًا من الطوب الأحمر وأحاطت جانبيه بأجوِلةٍ ضخمة محشوة بالرمل الثقيل إتقاءًا لنتائج غارات جوية مُحتَمَلة.
كان محيرًا جدًا لطفلٍ لم يبلغ السابعة من عمره أن يفهم معاني تلك الكلمات التي يرددها الكبار كالحربِ والغَارةِ وصفَارة الإنذار والمَخبأ وغياب أبي في سيناء، وما عساها تكون تلك “السيناء” التي ذهَبَ أبي إليها ولم يَعُد، عَلَّها تَقَعُ بعيدًا قرب منزل عَمْيَ علي تخوم الصحراء البعيدة القاحلة إلي جوار استاد “ناصر” الرياضي لكن كان السؤال يؤرقني، “لماذا لم يَعُد أبي من “سيناء” وهي إلي جوار بيت أخيه”.
كان جَدْي يعلم أنني أنتظره كل يوم جالسًا علي الرصيف لأُلقي بنفسي بين ذراعيه المفتوحتين بمجرد أن يُغلق باب “الريكورد” الزرقاء فيضمني إلي صدره مُقَبِّلًا ثم يصطحبني إلي هناك كما اعتاد منذ أن انضم أبي إلى ثلة الغائبين من شباب العائلة في سيناء، كنت أحرص علي تلك الرحلة اليومية بشغفٍ لا حُدودَ له، إنها رحلة إلى الجَنْة كما كان يصفها شيخ المسجد القريب من البيت في خُطَب الجمعة التي كانت تتناهي بعض كلماتها إلى سَمعِ أُذُنَيَّ الصغيرتين حيث التين والرُمان والعنب وأشياءٌ أخرى. كان الجو هناك باردًا طوال العام بلا تكييفٍ للهواء، فقط أجنِحَةُ ملائكة ضخمة مُعَلَقَة بالأعلى تَحرُس المَكان في صَخَبٍ رتيبٍ مُحَبَب، أَلَمُ يَقُل الشيخ أن الملائكة مَقرها الجنة.
علي الحائطين خارج الباب صناديقٌ خَشَبيةٌ صُفَت مَفتوحةٌ فوق بعضها مَليئةٌ بحبات من ثمرات الجَنة التي غُلِفَت في عناية بأوراقٍ ملونةٍ من السوليفان اللامع، علي يمين الباب الضيق الذي يُفضي إلي الداخِل المَحروسُ من أعلى بأجنحة الملائكة الأربع كان يجلس “عم رِضوان” في خُيلاءٍ بجلبابه الأزرق وشاربه الدقيق المرفوعةِ أطرافه دائمًا صوب السماء، هكذا كان اسمُه وهكذا كان يقول شيخ المسجد، “رضوان” هو حارس باب الجنة الذي يُدخِل إليها من يشاء ويَلفِظُ من يشاء حسب تعليمات الرب. لم يَكُن كيانُ الجنة الداخِلي الفَخيم فارِغًا، كان مليئًا بالمزيد من الأخضر والأحمر والأصفر عَبِقًا بالرائحة عبقرية البهجة التي مازالت لم تبرح أنفِيَ المُجهَدِ بحساسيةٍ لا شفاء منها.
خرجت من هناك اُمسِكُ بيد جَدْيَ مُنتشيًا كَثَمْلٍ برائحة ثمرات البرتقال والخوخ التي كانت تملأ عُبوَتَين ورقيتين احتَضَنَهما بيده الأخري إلى صَدرِه، ابتعدنا قليلًا، أدَرتُ رأسي ونظرتُ بطرف عيني إلى الخلف، لم أجد “عم رضوان”، كان يجلس على الباب الذي ضاقَ كثيرًا عملاقٌ ضخَمٌ ينفُث من مِنخَرَيهِ دخانٌ كَثيفٌ كتنينٍ كَسولٍ وعلى الحائطين الأسطوريين كانت هواتف محمولة رخيصة الثمن مُعَلَقَةٌ دون إنتظام، نَظرتُ إلي الأسفل لأجدني مُمسِكًا بيد “يوسف” حفيدي وكان صوتٌ يأتي من الداخلِ مصحوبًا بصخبٍ عَظيم….”بِهَوايا إنتي قاعدة مَعايا”.
Muchas gracias. ?Como puedo iniciar sesion?