رائد سلامة يكتب: البريموس.. (إبداعات)
لم يَنْسَ ما حدث في ذلك الثلاثاء أبدًا، صار يكره تلك الأيام ويَتَطيْر منها متوقعًا الأسوأ دومًا. عائدًا من الحقل بعد يوم عمل طويل كان، مُتعَبًا يلهث بحاجةٍ إلي وجبة غداء فقيرة وحمام ساخن، إعتادت أمه أن تَغْلِي مَاءَهُ في “الباستيلة” الألومنيوم علي وابور الجاز الباقيين من جهاز عُرسِها في بداية سبعينات القرن الماضي كشأن كُل نساء القرية، كانت “الباستيلة” والوابور “البريموس” تراثٌ أسطوري يأبى النفاد ولا يقبل التفريط.
على مبعدة أمتار من المنزل المَبنيِّ من الطين لَمَحَ شراراتٍ نارٍ ضئيلة ما لبثت إلا وقد تحولت لألسنة لهبٍ خلال ثوانٍ لِتَلتَهِم المنزل في دقائق معدودة، لَم تَتَعَد ألسنة اللهب حدود المنزل إلى المنازل المُلتَحِمة به في إلتصاق دَبِقٍ إذ توقفت النار عند حوائط المنزل بالضبط، كان الأمر مثيرًا للإرتياب، فالحوائط مُشتَرَكَة في العموم لكن النار لم تلتهم إلا ما هو خَاصٌ فقط كالسقف والحائطين الأمامي والخلفي المفتوح علي الزرائب والحقول وكذا المحتويات الداخلية، لم تَكُن تلك أول الحرائق التي تحدث بالقرية علي هذا النحو منذ الساعات الباكِرَة لأول أيام هذا الأسبوع، كانت تلك هي الحريق الرابعة.
لم تفلح محاولات شباب القرية لإطفاء أي من تلك الحرائق عند إندلاعها لكنها كانت تنطفئ من تلقاء نفسها فجأة – مثلما إندلعت فجأة – كما لو كانت يَد شيطانٍ مَريدٍ أشعَلَتها ثم رُفِعَتْ حسب أَمرِهِ لتَنطَفئ فإستجابت، أخبرهم شيخ المسجد بأن ألسنة اللهب كانت تَخفُتُ حين كانوا يرددون “الله أكبر”، كانت أمه وأخواتِهِ البنات وبعض مَوَاشٍ بالداخل حين إندلع الحريق فاستحالوا جميعًا إلي قطعِ لحمٍ مَشويٍ إمتزج برمادِ حوائط المنزل، نامَ في منزل خَالِهِ مُنْتَحِبًا في تلك الليلة.
في صباح الأربعاء أتَاهُ مبعوث من الشيخ يَطلُبَهُ للقاء بالمسجد بعد صلاة العشاء، لم يَكُن هو الوحيد الذي دُعِيَ إلى هذا اللقاء غير المُعتاد، كانوا أربعة من الشباب الذين فَعَلتِ النار فعلتها ببيوتهم وخامِسٌ لم تَمَسُ النار من بيتِه شيئًا، بعد الصلاة جمعَهُم الشيخ حولَهُ في حَلَقَةٍ، “إسمع يا وِلد مِنَكْ لُه، أعلَمُ أنكم تُنَقِبون في الليل بأرض منازلكم بَحثًا عن المساخيط، فهل تستعينون بالجن؟ إياكُم والكَذِب في بيت الله”، أقسَموا أيمانًا غِلاظًا علي كتاب الله المفتوح أمامهم بأن أيهم لم يستعِن بالجن لكنهم لم ينكروا جميعا أمر التنقيب، “طيب قُل يا وِلْد مِنَكْ لُه، هل يوجد بمنازلكم كلابٌ سُود؟”، كانت إجابتهم بالنفي وإن أفصحوا جميعًا عن سماعهم لنباح كلابٍ أثناء الحَفْر، تَذَكَرَ واحد منهم فقط أنه رأي كلبًا أسودًا كان قابِعًا قُربَ منزله قُبَيْلَ إحتراقِه، “تلك هي المسألة إذن، قُضِىَ الأمرُ الذي فيه تستفيان” هكذا صاح الشيخُ و طَلَب ممن مازال يُنَقِب الاستمرار بمساعدة باقي الشباب. بدأوا الحَفْرَ جميعًا في الحادية عشر مساءًا في اليوم التالي ببيت الشاب الخامس وكان الشيخ سادِسُهُم، سَمِعوا نباحًا يأتي من وراء الجبل الذي يُشرِفُ علي منازل القرية كعباءة سوداء عملاقة، كان القيظ شديدًا والهواء شحيحًا كأن السماء قد احتجَزَت ما تَبَقى في الكون من هواءٍ هناك بالأفق البعيد، مَضوا في الحَفْرِ علي خلفية النباح الذي كان يخفتُ شيئًا فشيئًا حتي انقطَع تمامًا بعدما دقت الثانية عشر، صَرَخ الشيخ: “توقف يا وِلْد مِنَكْ لُه، دخلنا في نهار الجمعة، خلاص لن تسمَعوا شيئًا”، تَوَقَفَ الجمع عن الحَفْرِ وافترقوا.
“إن الحمد لله نستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهدِه الله فلا مُضِلَ له ومن يُضلِل فلا هاديَ له، أما بعد، أخرج الإمام مسلم في “صحيحه” من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ تَقْدَمُ مِنَ الْبَادِيَةِ بِكَلْبِهَا فَنَقْتُلُهُ، ثُمَّ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهَا، وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ، أقولُ قولي هذا وأستغفِرُ الله لي ولكم وأقِمِ الصلاة”، كانت تلك أقصر خطبة أدَّاهَا منذ سنين بعدما هَجَرَ الفِلاحة وامتهن الخطابة، صَلَّى الشيخ بسورة الإخلاص ثم اختَتَم بآياتٍ من سورة الإنعام “يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ“.
في الحادية عشر مساءًا كان أهل القرية قد أنجزوا المَهَمَة ونَحَروا كل كلابها السُود، و بعدما انتصف الليل كانت نسائم الهواء الشحيحة تحمل نباحًا يأتي من وراء الجبل حين بدأت النار في الاشتعال بمنزل آخِرِ المُنَقِبين حيث شُعلَة “البريموس” وعيدان الذرة الجافة والبُوص الخَشِن.