د. أحمد حسين يكتب: نظرة الاستخفاف في كلية طب سوهاج
من تخطى منتصف الأربعينيات يتذكر جيدًا المبدع الراحل عبد الوهاب مطاوع وأعماله الصحفية والأدبية المتعددة، ومن كان متابع جيد منهم لأحد تلك الأعمال “باب بريد الجمعة”، فبالأغلب انطبعت في ذاكرته العديد أو البعض من الرسائل الحياتية للقراء والتي تختمر ببؤس البشر وعظات خالقهم.
رسالة إلى الكاتب قرأتها وأنا طالب، انطبع مضمونها في وجداني وبعض تفاصيلها في ذاكرتي، كانت الرسالة لأستاذ كبير وشهير وقتها بكلية طب أكبر مدن الصعيد، كتب كلماتها في لحظات قوة قد تبدو للقاريء أنها أضعفها على الإطلاق في حياة كاتبها.
بعد أن أصابه السرطان، أخطر أمراض العصر وقتها والذي كان هو يعالج مرضاه منه ضمن تخصصه الجراحي، وبعد أن تخلى أبناءه وأقاربه عنه وأشرف على الإفلاس بعد أن ابتلع السرطان مدخراته.. قرر أستاذ الطب أن يكتب رسالته لينشرها بريد الجمعة على قرائه.
ضمن ما ذكره أستاذ الطب في رسالته إلى الكاتب الصحفي عبد الوهاب مطاوع، تعمده عدم تعيين طبيب متفوق وماهر وزملائه في درجات معيدين بالقسم الذي هو أستاذ به رغم أحقيتهم في ذلك، ويذكر الأستاذ أنه قام بتعيين إبنه وأقاربه بدلًا عن الأطباء المستحقين، حينها حضر الطبيب المظلوم إلى أستاذه الظالم وواجهه بأنه سيهاجر من مصر وسينجح ويرتقي بجهده، وأما هو-الأستاذ- فيومًا ما سياتي يعيش فيه الويلات جراء ظلمه ويعض أصابع الندم.. ويستطرد أستاذ الطب في رسالته، أنه يعترف بجرائمه ويطلب الصفح ممن ظلمهم من المرضى والأطباء عسى الله أن يعينه في مرضه، وتوجه برجاء لأبنائه وأقاربه أن يبروه.
ليس فقط ما شملته رسالة أستاذ الطب إلى بريد الجمعة بالأهرام، ما جعلت تلك القصة تحتل أثر في ذاكرة من قرأها، بل أيضًا رد الطبيب المظلوم الذي جاء لاحقًا لرسالة الأستاذ الظالم، والذي أرسله الطبيب إلى الكاتب عبد الوهاب مطاوع، يؤكد فيه أنه هو الطبيب المعني في رسالة أستاذه، وأنه يود إخباره عبر بريد الجمعة أن الله منَّ عليه وارتقى في مهنته ونجح في حياته أفضل مما كان يحلم إذا ما تم تعيينه بكلية الطب، ويستمر الطبيب في رده أنه يؤكد لأستاذه أنه لم ينس طيلة حياته ظلمه له وأنه يخبره أنه لم يسامحه ولن يصفح عنه.
استدعت هذه القصة من ذاكرتي، شكوى وصلتني بصفتي عضو بمجلس نقابة الأطباء، من طبيبة وثلاثة أطباء مقيمين بقسم النساء والتوليد بمستشفى سوهاج الجامعي..يكتب الأطباء في شكواهم أو إستغاثتهم: “تخرجنا في كلية الطب عام 2017 بتقدير امتياز بمادة النساء والتوليد، وقمنا بإستلام العمل في الفترة من 2019 حتى عام 2022 لم نتوان خلالها عن خدمة المرضى، وعندما استشرى فيروس كورونا وأغلقت مستشفيات المحافظة أبوابها على مرضى كورونا، كانت مستشفى سوهاج الجامعي هي الملجأ الوحيد للمرضى من غير مصابي كورونا ولحالات الطواريء بمن فيهم مصابين بالفيروس، وقد أُصبنا -الأطباء موجهي الإستغاثة- بفيروس كورونا عدة مرات، وكنا نعاود العمل بعد كل إصابة بجد وإخلاص يشهد به مسوؤلو المستشفى وتؤكده تقارير العمل وقبلهم المرضى”.. هذه كانت مقدمة الأطباء لإستعراض مظلمتهم برفض مجلس قسم النساء والتوليد بطب سوهاج بأغلبية أعضائه تعيين هؤلاء الأطباء معيدين بالقسم.
الإجابة قد تكون سهلة لدى البعض، ومبرر آخرين قد يبدو منطقي للقاريء بأن كليات الطب متكدسة بأعضاء هيئة التدريس، وليس معنى تفوق هولاء الأطباء وجدارتهم أن تعينّهم كلية طب سوهاج.. هذه الإجابة تمنعها وهذا المبرر يدحضه ما سرده الأطباء في مظلمتهم ومنها “فؤجئنا بقرار مجلس قسم النساء والتوليد بعدم الحاجة لتعيين معيدين هذا العام، حيث أنه يوجد عجز شديد، فلا يوجد معيدين مطلقًا بالقسم، وعدد المدرسين المساعدين 6 فقط منهم 3 يستعدون لإجتياز امتحان الدكتوراة ليتم ترقيتهم بعدها إلى مدرسين”، ويكمل الأطباء أصحاب المظلمة ” المدرسون المساعدون يقع على كاهلهم أعباء العمل بالقسم الداخلي والاستقبال والطواريء والعيادات التخصصية وعيادات تنظيم الأسرة والعمليات، إضافة إلى التدريس لطلبة الطب”، وعن واجبات التدريس يوضح الأطباء “يتم تدريس مادة النساء والتوليد لفرقتين من طلبة طب سوهاج، الفرقة الرابعة الحالية وتضم أكثر من 600 طالب والفرقة السادسة وتشمل أكثر من 400 طالب، ونظرًا لعدم وجود معيدين بقسم النساء ولقلة عدد المدرسين المساعدين، تم دمج فصول الطلبة في مادة النساء والتوليد ليحتوي الفصل الواحد على أكثر من 70 طالبًا، في حين أن اللوائح ومعايير الجودة تحتم أن يوجد معيد لكل 25 طالب”.
ويذكر الأطباء في استغاثتهم أن جامعة سوهاج تقترب من استكمال مستشفى جامعي جديدة بمدينة سوهاج الجديدة، ما جعل جميع أقسام كلية الطب تقرر تعيين معيدين جدد وبعدد أكثر هذا العام وعلى سبيل المثال قسم التخدير الذي قرر تعيين 6 معيدين..لا يرى الأطباء في ظل كل هذه العوامل أي مبرر لرفض مجلس قسم النساء تعيينهم سوى التعنت لأجل التعنت.
استغاثة أخرى بنفس المضمون ومن ذات الأطباء، علمت أنها وصلت إلى وزير التعليم العالي، تستصرخ فيه المساعدة التي فشل فيها مسوؤل كبير بجامعة سوهاج، وثان بكلية طب سوهاج بالوقوف ضد “التعنت القاسي الظالم الغاشم دونما هدف”- ستحتاج عزيزي القارىء لهذه الجملة إن وصلت لنهاية المقال-.
علمتني تجارب سابقة ألا أتعرض لشكوى أو أعرض مظلمة أو أكتب عن واقعة، قبل أن أتاكد من صحتها وأتحرى صدق طارحها، وأيضًا اتيح الرد للطرف الآخر إن رغب.. واطمأننت لمطابقة ما ورد بشكوى الأطباء للواقع الفعلي، خاصة أن مطلب الأطباء من شكواهم لم يكن صدور قرار فوري بتعيينهم، أو حتى أن يقر من يطلع عليها بصدق عرضهم، ولا حتى ليشاركهم القارىء دعاءً على من يرون أنه ظلمهم.. فقط طلب الأطباء في خاتمة شكواهم أن يتم تشكيل لجنة تتقصى وتحقق وتبدي الرأي للمسؤول القادر على إتخاذ القرار.
في دول المؤسسات، تكون النقابات هي الحصن الداعم لأعضائها، تقوّم من يخطىء منهم، وتناصر من يُظلم ليسترد حقه.. أملًا في أن أكون نقابيًا وأن أكون في إحدى تلك الدول، أوصلت شكوى الأطباء إلى أحد كبار المسؤولين في المجلس الأعلى للجامعات فلم أتلق رد بعد، وتواصلت مع أحد كبار المسؤولين بجامعة سوهاج فأتاني الرد بأن شكوى الأطباء المُرسلة إلى أحد المسؤولين تحتوي على سب وقذف لأعضاء هيئة التدريس بقسم النساء والتوليد، راجعت الشكوى حروفًا وكلمات فلم أجد ما قد يناسب تهمة السب والقذف-بمنظور البعض-سوى جملة “التعنت القاسي الظالم الغاشم دونما هدف”..مع الفرض الجدلي أن ببعض كليات الطب بعض الآلهة التي يحرم على البشر الإقتراب من الكلمات غير المحمودة عند وصف أفعالهم، فهل يرتضي آله على نفسه الظلم!
عشقت كلماته وشاركته إحباطاته وأحزانه، وأقر بواقع ما قاله كون الكلمة المكتوبة في مصر لا تأثير لها على الإطلاق، فأنت تعرض القضايا وتوجه الأسئلة للمسؤولين في قضايا بالغة الخطر، لا يوجد فارق ولا حتى مجيب، ولكني لا أكتب هذا المقال لأسلّي نفسي كما واسى نفسه صديقي الخالد العراب د.أحمد خالد توفيق، أكتبه لأهدي البعض ممن توهم أنه قادر على الظلم في الأرض والرحيل منها دون أن يُقتص للمظلوم، أُيقن أن مثل هولاء هم الأقل، والأكثر عددً هم من يطبقون قوانين السماء حتى وإن عجزت قوانين الأرض عن مراقبة ضمائرهم.
لهولاء الأقلية من ظالمي أنفسهم وغيرهم، أُهدي قصة أستاذ الطب الظالم الذي رحل دون أن يصفح عنه من ظلمهم وتخلى عنه من ظلم لأجلهم، تلك القصة التي رواها بنفسه الأستاذ في رسالته إلى بريد الجمعة، ونشرها المبدع عبد الوهاب مطاوع عام 1994 وما زالت مدونة بوسائل الإنترنت تحت عنوان..”نظرة الاستخفاف”.