د. أحمد الخميسي يكتب: عـبـد الـحـلـيـم حـافـظ.. حـكـايـة مـصـريــة
قد تكون أديبا عظيما مثل عبد القادر المازني أو فنانا لا يشق له غبار مثل الموسيقار القصبجي، لكن الفن وحده لا يؤهل المبدع لأن يكون علامة قومية، فلا بد من تضافر عوامل كثيرة شخصية وسياسية وفنية وتاريخية ليصبح الفنان رمزا قوميا إذا نطقت باسمه فكأنك قلت مصر، وإذا قلت مصر استدعيت اسمه، مثلما هي الحال مع سيد درويش. محمد عبد الوهاب. طه حسين . أم كلثوم. نجيب محفوظ. والعندليب عبد الحليم حافظ الذي حلت ذكرى رحيله الخامسة والأربعين في 30 مارس الحالي.
وقد رأيت العندليب أول مرة عام 1965، حين أجرت أختى عملية جراحية وهي في الخامسة عشرة، ورحتنا نزورها في المستشفى، وسألها والدي إن كانت بحاجة إلى أي شيء؟ فتنهدت وقالت: ” نفسي أشوف عبد الحليم”! وضحكنا جميعا من طلبها، وقد كان العندليب أيامها في عز مجده معشوق البنات، لكن أبي لم يضحك بل استأذن منا بهدوء وما لبث بعد نصف ساعة أن رجع ومعه عبد الحليم! وسرعان ما امتلأت الحجرة الصغيرة بكل ممرضات المستشفى وأطبائها ومرضى الحجرات المجاورة.
شاهدته بعد ذلك مرات عديدة في منزل والدي، كانا يجلسان في حجرة المكتب مغلقة عليهما نصف ساعة أو أكثر ثم يخرج عبد الحليم يحيي الجميع بعينيه المتدفقتين بالمودة وزهو الفنان الرقيق بحضوره. وذات مرة ساقني الفضول لأن أسأل والدي: ” عما تتحدثان؟”، فتنهد بحزن وقال : ” يحب سعاد حسني ويقول إنه لا يستطيع الارتباط بها لأنه مريض”. كان ذلك عام 1971 ، وبالفعل توفي العندليب بعد ذلك بست سنوات، وبقي في القلب، وفي الأحلام بالحب، وفي فن لا يتكرر، وتحول إلى رمز قومي لا يغيب.
وقد تضافرت عوامل كثيرة شخصية وسياسية وفنية لتجعل العندليب ذلك الرمز، في مقدمتها أنه جاء من قرى الفلاحين ضعيف البنية، يتيما بلا سند، وحتى صوته كان ضعيفا بمعايير جمال الصوت حينذاك، ولذلك فتح الناس له قلوبهم على أنه من المظاليم مثلهم، ومن بينهم، وأحاطوه بتعاطف شعبي واسع، بل وحتى وفاته كانت بسبب البلهارسيا مرض الفلاحين الفقراء. من ناحية أخرى كان العندليب مطرب الثورة الذي لم يبرز أو يلمع قبل ذلك في العهد الملكي، ثم أنه في سنوات الثورة كان الصوت المعبر عن الآمال الكبرى في البناء والعدالة الاجتماعية، وفي التصدي للاستعمار بأغنيات مثل” انذار”، و” ابنك يقول لك يا بطل هات لي انتصار” وغيرها.
على المستوى الفني كان عبد الحليم تجسيدا لثورة فنية موسيقية، فقد أبطل الإطالة والتطريب والتلييل والتكرار وتفكيك البناء الفني للأغنية، وانتقل بالأغنية على يد كمال الطويل والموجي وحسين جنيد إلى قالبها المحكم القصير الذي يشبه الومضة. واستطاع العندليب أن يهدم القاعدة القائلة بأن جمال الصوت في قوته، لصالح أن جمال الصوت في حساسيته.
لكل تلك العوامل الشخصية والسياسية والفنية أصبح العندليب رمزا قوميا يسكن النفوس ولا يغادرها، علاوة على الطبيعة النادرة لصوته، فهو المطرب الوحيد الذي بلغ صفاء صوته أنك تسمعه فلا تكاد تسمعه، لأنك حين تنصت إليه تجد أنك منصت لروحك أنت، وأحلامك، كأنما كان كل دور العندليب أن يطلق الغناء المحبوس في نفوسنا. يصونك في القلوب الفن والصوت النادر الجمال وتبقى حكاية مصرية.
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري