خالد البلشي: بعض زملاء المهنة ممن صوروا أنفسهم باعتبارهم رعاة المهنية مارسوا التدليس والتزييف فصاروا شركاء في قتل الفلسطينيين
كتب – أحمد سلامة
أدان خالد البلشي، نقيب الصحفيين، الجرائم التي ترتكبها آلة القمع الصهيونية بحق المدنيين الفلسطينيين خاصة مواطني غزة، وما يتعرضون له من “محرقة صهيونية” وممارسات هي إحدى أبشع ما عرفته الإنسانية من جرائم، مشددًا في الوقت ذاته على أن مهنة الصحافة شهدت أيضًا جريمة حيث ساهم بعض الصحفيين والإعلاميين عملية “تدليس وتزييف” جعلتهم شركاء في المأساة.
وقال البلشي، خلال كلمة ألقاها بالـ“مؤتمر القاهرة الخامس للإعلام” بالجامعة الأمريكية، “بعض مَن كنا نظنهم يومًا زملاء لنا، فى المهنة، بعض مَن كانوا يصورون أنفسهم بأنهم رعاة المهنية والموضوعية، صاروا مشاركين –بما مارسوه من تدليس وتزييف- في القتل”.
ونبه البلشي إلى أن ذلك يأتي في وقت “تحدى فيه أكثر من ألف زميل آلة حرب بشعة وجرائم يومية طالت الجميع من منع الماء والكهرباء، وقطع الإنترنت، والتهديد بالقتل، فجاء وقوفهم توثيقًا للحقيقة، وإعادة للحقيقة المطموسة”.
وشن خالد البلشي هجوما شديدا ضد انحياز الإعلام الغربي للجرائم الإسرائيلية في غزة خاصة ضد الأطفال خلال تغطيته الإعلامية للحرب التي تشنها حاليا إسرائيل على قطاع غزة، لافتًا إلى استغلال الذكاء الاصطناعي في الترويج لصور مغلوطة تحاول تطهير الاحتلال من الجرائم التي ارتكبت.
وإلى نص الكلمة،
الزميلات، والزملاء
أقف اليوم بينكم وقلوبنا يدميها الألم على كل المستويات الإنسانى، والوطنى، والمهنى، أقف بينكم بينما تجرى على حدودنا،جريمة حرب مروعة ضد الإنسانية وضد أشقائنا فى فلسطين، بينما نرى محرقة صهيونية تمارس أبشع ما عرفته الإنسانية من جرائم ضد أشقاء لنا، فى الإنسانية والانتماء، وكذلك فى مهنة الصحافة، جريمة تمتد بحجم عجز يلفنا جميعًا وسط تواطؤ دولى على تمريرها وتبريرها وصل لحد المشاركة فى الإبادة بحق مدنيين عزل عبر دعاوى زائفة، بينما يشلنا جميعًا عجز شامل، وغياب قدرة على الفعل والتصدى لها، والأزمة الحقيقية أن بعض مَن كنا نظنهم يومًا زملاء لنا، فى المهنة، بعض مَن كانوا يصورون أنفسهم بأنهم رعاة المهنية والموضوعية، صاروا مشاركين –بما مارسوه من تدليس وتزييف – فى القتل، وفى هذه الجريمة الوحشية، وللأسف فإن بعض ممارساتهم غير المهنية، بل والمجرمة مهنيًا جاءت لتتماس بشكل أو بآخر مع موضوع هذا المؤتمر، ومع حلم بتطور مهنى كان يحدونا الأمل أن نلاحق آفاقه الجديدة، فارسلوا رسالة لنا جميعًا أن نبدأ بالوقت نفسه فى تنظيمه ووضع ضوابطه.
السيدات، والسادة
وأنا أنعى لكم ممارسات مهنية وصلت حد أن جانبًا منا شاركوا بالكلمة والممارسة غير المهنية فى جريمة ضد الإنسانية ، جاء الأمل على الجانب الآخر من زملاء حقيقيين، أكثر من ألف صحفى صمدوا على أرض المعركة وهم يتعرضون للاستهداف، لكنهم قرروا الانتصار للحقيقة والتصدى للجريمة بكاميراتهم وأقلامهم وسط استهداف لكل معانى الإنسانية فأعادوا بصمودهم وبالممارسة المهنية الحقة، للصحافة اعتبارها، وللمهنة قيمتها فحق لنا أن نقف لهم إجلالًا وتقديرًا خاصة مع بشاعة الجريمة، التى ارتكبت بحقهم وحق الصحافة، وهى جريمة ربما هى الأكبر ضد الصحافة والصحفيين فى العصر الحديث، التى وصل حجم ضحاياها اليوم لحد ارتقاء أكثر من 60 شهيدًا صحفيًا، وتدمير عشرات المؤسسات الإعلامية، ومنازل الصحفيين، واستشهاد واستهداف عشرات من أسرهم، واعتقال أكثر من 30 زميلًا.
أكثر من ألف زميل وقفوا وقد خلد الصمود أسماءهم، أكثر من الف زميل تحدوا آلة حرب بشعة وجرائم يومية طالت الجميع من منع الماء والكهرباء، وقطع الإنترنت، والتهديد بالقتل، فجاء وقوفهم توثيقًا للحقيقة، وإعادة للحقيقة المطموسة.
السادة، والسيدات
عندما جاءتنى الدعوة للمشاركة فى هذا المؤتمر لم يكن الطوفان قد بدأ، كنا قبل السابع من أكتوبر، اليوم وبعد مرور أكثر من 43 يومًا على التاريخ الفاصل، فإن طوفانًا آخر اجتاح أساطير عن ملاك الحقيقة والمهنية كان يعتبرها البعض راسخة، فلم يعد لنا سبيل إلا العودة لأصل هذه القيم والتمسك بها، وبالمعايير نفسها وليس الانصياع لدعاة امتلاكها.
عندما وصلتنى الدعوة كنت أحاول بكل السبل ملاحقة آفاق هذا التطور الجديد (الذكاء الاصطناعى)، وبعد 43 يومًا صرت أبحث عن سبل تنظيمه وضبط معاييره ونحن نسعى للاستفادة منه، وفى الوقت نفسه كيف نتخطى حدود حلمنا ليس فقط ملاحقة هذه الآفاق كمستفيد من أدوات التطور، ولكن أيضًا كمشاركين من المنبع فى تنميته وتطويره.
كان السؤال قبل الطوفان إلى أى حد يمكن الاستفادة من الذكاء الاصطناعى، وإلى أين وصل، وأين نحن منه، وكيف يمكن ملاحقته، وبعد أن كشفت الممارسة الإنسانية البشعة إمكانية استغلال هذا التطور فى جريمة تزييف متكاملة الأركان لتبرير واحدة من أبشع جرائم الحرب، بآلة حرب وحشية راح ضحيتها حتى اليوم ما يقرب من 40 ألف روح إنسانية بين شهيد وجريح، وبينهم أكثر من 5 آلاف طفل قتلوا، وكذلك جريمة مصادرة حقوق ملايين الأشخاص فى التعبير لفرض رؤية واحدة عبر خوارزميات صممها رعاة الديكتاتورية الجديدة، صار السؤال هو ضرورة التظيمم الذاتى له وهو ما لفتت له منظمات دولية كبرى كاليونسكو النظر مبكرًا، ثم جاءت الصور المزيفة فى حرب الإبادة الصهيونية ضد أهلنا فى غزة، وتواصل خوارزميات المصادرة والمنع وفرض الديكتاتورية الجديدة لمنصات التواصل الاجتماعى، لتؤكد هذه المطالبات، وتؤكد ضرورة أن يسير الأمران (ملاحقة آفاق تطور واستخدام الذكاء الاصطناعى فى مهنتنا)، وكذلك (تنظيمه ذاتيًا وضبط معاييره) جنبًا إلى جنب حتى لا يتحول السلاح الجديد كما حدث إلى سلاح فى يد مجرمى الحرب والنازية الجديدة، وديكتاتوريات المنع، ومصادرة الحق فى التعبير وقتل المدنيين العزل.
السيدات، والسادة
لقد جاءت المحرقة الصهيونية فى غزة لتكشف أن الذكاء الاصطناعى واستخداماته، خاصة فى مهنتنا مثله مثل كل اختراع إنسانى له وجهان، وأنه يحكمه الاستخدام البشرى، ويمكن للقوى المسيطرة أن تستغله لزيادة سيطرتها، وفرض هيمنتها خاصة أنها حتى الآن مالكة معطياته، ومالكة أدوات تطوره، فوفقًا لموقع الإذاعة الدولية الألمانية، فإن المحتوى المضلل حول الحرب على أرض غزة لم يؤد فقط لتشكيل وجهات نظر مزيفة، بل إنه أدى إلى تضخيم الارتباك والكراهية على وسائل التواصل الاجتماعى، وتسبب فى تشكك البعض فى صحة صور الحرب الفعلية، ومنها بالطبع صورة (الجريمة ضد الإنسانية فى غزة) فى وقت يتسم بالاستقطاب الشديد.
ولعل أبرز مثال على ما جرى من تزييف،تلك الصورة المزيفة التى روجها الساسة الصهاينة بينهم رئيس وزراء دولة الاحتلال، وأعاد نشرها ساسة وإعلاميون غربيون لجثة طفل متفحمة على أنها جثة طفل إسرائيلى، لكن الممثل والإعلامى الأمريكي، جاكسون هينكل، أشار إلى أن الصورة تم إنشاؤها باستخدام الذكاء الاصطناعي.
وبالبحث تبين أن الصورة الأصلية كانت لعملية إنقاذ كلب صغير ملفوف بمنشفة، وأن المروجين استخدموا أدوات الذكاء الاصطناعى لتحرير الجرو، ووضع جثة محترقة في مكانه ومع ذلك، لم يكلف أحد ممن نشروا الصورة المزيفة بتتبع أي مصدر لها، أو حتى تتبع صور ضحايا آخرين محروقين بشكل مماثل، ولم يكلف أي منهم نفسه عناء الاعتذار رغم أن الصورة استخدمت لتبرير جريمة بحجم قتل 5 آلاف طفل، وتدمير البنية الأساسية لشعب كامل.
مثال آخر على التزييف كشفته صورة لمدينة خيام مزيفة أنشئت بواسطة الذكاء الاصطناعى، التى ادعى المستخدمون أنها بنيت للاجئين الإسرائيليين. وانتشرت سريعًا على منصتى(إكس وإنستجرام).
ومنها انتقلت لبعض الصحف، كما انتشرت صورة تظهر جنودًا وهم يلوحون بالأعلام الإسرائيلية أثناء سيرهم فى منطقة بغزة وسط ركام منازل مدمرة. ومنها تبين أن الحسابات التى نشرت الصورة على موقعى (إكس وإنستجرام) داعمة للكيان الصهيوني. وللأسف جرى العثور على الصورة في مقال لصحيفة بلغارية دون التصريح بأنها صورة مزيفة.
على الرغم من أن فبركة الصورة كانت ظاهرة بالملاحظة للعين المجردة عن طريق رصد الطريقة، التى ترفرف بها الأعلام. كما يبدو الشارع الذى يظهر فى منتصف الصورة نظيفًا، بعكس جانبيه، فضلًا عن أن الركام فى شكل متجانس للغاية، وكأنها مرسومة بما يعد دلالة على استخدام الذكاء الاصطناعي.
ولمخاطبة العاطفة، يستخدم مروجو المعلومات المضللة أيضًا تقنية GAI لسرد قصة خيالية عن الصراع تحتوى على الكثير من الصور،
ورغم أنها عادةً تحمل علامات واضحة تدل على عدم حقيقتها، لكنها للوهلة الأولى قد تُخدع، أو تستخدم للخداع، حيث تصدقها العين غير المدربة، وقد يكون من الصعب تمييزها عن الصور العديدة، التى تظهر الضحايا الفعليين.
وفى ظل الاستقطاب الحاد، فإن هذه الصور قد تخدع أيضًا بعض وسائل الإعلام، أو تقوم باستخدامها لخدمة وجهة نظر محددة ولو على حساب الحقيقة.
وفي ظل معايير الحرب الوحشية، وسيادة الرؤية العنصرية لمَن يمتلكون هذه الأدوات، تم تبرير واحدة من أبشع الجرائم ضد المدنيين، وهو ما يتطلب منا وقفة خاصة ونحن نلاحق فيها الآفاق، كي نسعى فى الوقت نفسه لامتلاك آليات هذا التطور ليس لصنع تزييف مقابل، ولكن لكى نكون شركاء فى التطوير، وكذلك فى ضبط المعايير، خاصة وقد اتضح أن شبح التزييف العميق أكثر أهمية بكثير الآن، فهو لا يتطلب عشرات الآلاف من المزيفين أو وقتًا للانتشار، بل يكفى عددًا قليلًا جدًا من الأشخاص لنشره وتعميمه خلال دقائق معدودة يكون ثمنها مصادرة حق شعب كامل فى الحياة وهدم كل مقدراته.
السيدات، والسادة
الحضور الكريم
لقد صار السؤال ونحن نتحدث عن حقبة جديدة تعمل الثورة التكنولوجية فيها على تغيير حياتنا ومهنتنا بسرعة هائلة، مما يغير بشكل كبير الطرق التى نعمل ونتعلم بها، وحتى تلك التى نعيش بها معًا، هو أيضًا كيف يمكننا التأكد من أن الخوارزميات لا تنتهك حقوق الإنسان الأساسية من الخصوصية وسرية البيانات إلى حرية الاختيار، بل وحرية الضمير؟
وهل يمكن ضمان حرية التصرف عندما تكون رغباتنا متوقعة وموجهة من قبل أطراف بعينها؟ كيف يمكننا ضمان عدم تكرار الصور النمطية الاجتماعية، والثقافية فى برامج الذكاء الاصطناعى، لا سيما عندما يتعلق الأمر بقيمنا الإنسانية بدءًا من حق الشعوب فى التحرر والاستقلال من القوى العالمية المهيمنة على العالم، وعلى التطور التكنولوجى إلى وقف التمييز بين الجنسين؟
هل يمكن تكرار دوائر الماضى البغيضة من التمييز؟ عبر برمجة نفس القيم، وكيف يُوقف ذلك، وبواسطة مَن؟
كيف يمكننا ضمان المساءلة عندما تكون القرارات والإجراءات مؤتمتة؟ كيف نتأكد من عدم حرمان أى شخص،
أينما كان فى العالم، من فوائد هذه التقنيات؟
كيف يمكننا ضمان تطوير الذكاء الاصطناعى بطريقة شفافة، بحيث يكون للمواطنين العالميين، الذين تتأثر حياتهم به رأى فى تطويره والأهم فى التصدى ووقف جرائم استخدامه؟
إن كل ذلك لا يعطلنا عن ملاحقة التطور، بل إنه يفرض علينا ضرورة الإسراع لامتلاك أدوات الذكاء الاصطناعى، ليس فقط كمستفيدين، ولكن كمشاركين من المنبع، فى تنميتها، لكى نساهم فى ترشيد استخدامه لخدمة المهنة والحقيقة، ولنرسم من خلاله بحق الحدود الجديدة لمهنتنا، بل وللإنسانية بشرط ألا يصبح مستقلًا عن قيمنا المهنية، أو يحل محل العقل البشرى. ولكن يجب علينا أن نتأكد من تطويره من خلال نهج إنسانى قائم على المعايير المهنية المنضبطة وحقوق الإنسان.
أعود للتأكيد أننا لا بد أن نسأل أنفسنا ونحن نسعى لاستخدام هذا التطور الهام ومطاردة آفاقه: كيف يمكن أن يكون سلاحًا لتطوير مهنتنا وقيمنا، وما نوع المجتمع الذى نريده غدًا؟ فثورة الذكاء الاصطناعى بقدر ما تفتح آفاقًا جديدة ومثيرة، لكن الاضطراب الذى كانت جزءًا منه فى محنتنا الإنسانية يتطلب أيضًا دراسة متأنية.