حين يتحكم “المعيار التجاري” في سوق العمل.. كيف رد الخبراء والمهتمون على تصريحات “التاريخ والجغرافيا”؟
كتب – أحمد سلامة
بعض الأمور لا ترتبط بـ “العوائد المالية” وليس ما يحتاجه “سوق العمل” هو المعيار الوحيد الذي على أساسه تتحدد قيمة الأشياء، فالعلوم الإنسانية وهي دراسة الخبرات، والأنشطة، والبُنى، والصناعات المرتبطة بالبشر وتفسيرها علمياً، يُصر البعض على أنها ليست ذات جدوى لاحتياجات العمل والتنمية، وهو أمر خاطئ شكلا ومضمونًا، فأثرها واضح سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
تسعى دراسة العلوم الإنسانية لتوسيع وتنوير معرفة الإنسان بوجوده، وعلاقته بالكائنات والأنظمة الأخرى، وتطوير الأعمال الفنية للحفاظ على التعبير والفكر الإنساني. فهو المجال المعني بدراسة الظواهر البشرية، ومنها العديد من العلوم مثل الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والمنطق.. والتاريخ والجغرافيا.
لو نظر جمال حمدان وسليم حسن وطه حسين ونجيب محفوظ وعباس العقاد، وغيرهم الكثير، لو نظروا فقط إلى معيار “المادة” وما يحتاجه سوق العمل، لكان أولى بهم أن يتجهوا إلى التجارة، والتجارة عمل شريف بلا ريب، لكننا حينها كنا سنفتقد “شخصية مصر” بانقطاعنا عن “مصر القديمة” فينهار الحاضر ليقطع ركامه الطريق على المستقبل.
– تصريح يسبب غضبًا
خلال فعاليات إطلاق المشروع القومى لتنمية الأسرة المصرية قال عبدالفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، “لما أخرج آلاف الطلبة من كلية الآداب أقسام جغرافيا ولا تاريخ.. هو سوق العمل فيه الكلام ده؟”.. وتابع: “إنتو عاوزين إيه.. عاوزين تعلموهم لسوق العمل ولا عاوزين تغسلوا إيديكم إنكم علموتهم وخلاص.. العدد اللي بيخرج ملوش مكان”.
التصريحات الرئاسية أثارت حفيظة المتابعين، حيث تناولوها بالدهشة تارة وبالغضب تارة أخرى، ففي نظرهم ربط “سوق العمل” بالاحتياجات التجارية فقط هو أمر غير صحيح والتعامل وفقًا له كمعيار وحيد هو أمر غير مقبول.
الكاتب الصحفي عبدالعظيم حماد يقول “في بلاد ونظم لاتفهم معني سوق العمل إلا على نحو تجاري مباشر، لا حاجة حقا لتخصصات التاريخ والجغرافيا والفلسفة والاجتماع والاعلام والمسرح والموسيقى والرياضة البحتة والفلك والفيزياء النظرية وسائر العلوم الأساسية النظرية والبحثية، خاصة وأننا نستورد نتائج البحث في كل هذه التخصصات من الخارج.. وما لا نستطيع إن نستورده فغير مهم”. يضيف حماد في مرارة بدت من خلال الكلمات،
“أصلا ماذا فعلنا بأبحاث ونظريات مؤرخينا وجغرافيينا العظام؟ وماذا فعلنا بالفلسفة غير الوصف الساخر لكل مفكر بأنه يتفلسف علينا؟ أليست كل بحوث المركز القومي للبحوث الاجتماعية مركونة على الرفوف وفي الأدراج؟ ثم معهد مسرح لماذا؟ أليست كل المسارح مغلقة والممثلون يبحثون عن الرز السعودي؟ وما لزوم الموسيقى والكونسرفتوار بمعيار سوق العمل؟. وأين هي الصحافة وأين هو الاعلام الذي يحتاج معاهد وكليات؟ وأين الجهات التي تحتاج رياضيات. وفيزياء مشرفة ومرسي أحمد وعبد العظيم أنيس وسميرة موسي. ويحي المشد. الخ ؟”.
من زاوية أخرى يتحدث القيادي اليساري سيد كرواية، الذي كتب يقول “المفروض إن مثال التاريخ والجغرافيا في آداب يتسع ليشمل مثلا تجارة وحقوق حيث يتخرج آلاف كل عام لايحتاجهم سوق العمل، وبالمرة يتخرجون بلا تعليم حقيقي، لكن من المؤكد أن النسبة العظمى منهم لادخلوا هذه الأقسام ولا كان لهم غرض فيها”.
يضيف كراوية “طبعا أوضاع التعليم الجامعي وعلاقته بحاجة سوق العمل، والأهم علاقة التعليم الجامعي بالمستوى العلمي والمعرفي في غاية الأهمية، ومنذ الاعتداء على الجامعة واستقلالها فى 54 تدهورت أوضاع الجامعات، ومنذ توجه الجامعات الإقليمية بما صاحبها من سياسات ونمو ديناصوري لإدارات ولوبيات في المجال والأمور تسير بعشوائية حتى أن التدخلات الأمنية أصبحت بند متأخر في المشكلة وهو جدير بأن يكون أولى.. الجامعة وأوضاعها تستأهل أن تكون أمرا أساسيًا، وقوميًا.. وتحتاج شئ شبيه بتقرير (أمة فى خطر)”.
– لو كنا نُريد حلولًا جذرية
في السياق، وحول التعليم الجامعي واحتياجات سوق العمل، كان العالم الكبير الأستاذ الدكتور محمد غنيم رائد جراحات الكلى، قد قال إن التعليم الجامعي بشكله الحالي يشهد عدة “خطايا” من حيث تعزيز التفاوت الطبقي بين الطلاب أو من حيث استنزاف أعضاء هيئة التدريس أو من خلال شراكات متدنية مع جامعات أجنبية ليس لها قيمة علمية إضافة إلى غياب كامل للبحث العلمي كأحد أسس تقدم الحركة العلمية وتقدم الدول والمجتمعات.
وشدد غنيم في حوار مع “صالون التحالف”، أجراه الخبير الاقتصادي إلهامي الميرغني، على أهمية دور البحث العلمي في الجامعات كإحدى أساسيات تقدم الدول والمجتمعات.. مضيفًا أنه “بدون البحث العلمي لا مبرر لوجود جامعة، فالتدريس في الجامعات دون البحث العلمي كالشرب من الماء الآسن”.
وقال غنيم “يوجد أكثر من وسيلة لتقييم الجامعات وترتيبها لكن أهمهم وأكثرهم دقة لأنه مبني على أسس علمية بحتة هو “تقييم شنجهاي”، هذا التقييم بدأ في عام 2005 / 2006 وكان يشمل 500 جامعة لم يكن من بينهم أي جامعة مصرية، ثم بعد سنوات أدرجت جامعة القاهرة وكان ترتيبها يتراوح ما بين 405 و 500”.
وتابع “منذ عدة سنوات امتد التقييم ليشمل ألف جامعة، منها 4 جامعات مصرية أدمجت هي جامعة القاهرة والإسكندرية وعين شمس والمنصورة، لكن يجب أن نلاحظ أن دولة الحدود الشرقية -يقصد الكيان الصهيوني- لها 7 جامعات يأتي تصنيفها ضمن الـ 500 جامعة الأوائل في التقييم، ومن بيهم جامعتين وازمان للبحوث وجامعة حيفا من أول 50 جامعة لأن لهما نشاط علمي ملحوظ”.
وأشار غنيم إلى تطور حدث على ساحة التعليم الجامعي في مصر خلال الآونة الأخيرة، واصفًا إياه بـ”بذور الخطيئة”، موضحًا أن “أول بذرة من بذور الخطيئة هو ابتكار ما يُعرف بالبرامج الخاصة والذي يتيح التعليم والاهتمام مقابل مادي، هذا النظام يعكس تفاوت طبقي، لأن هناك طالبتين أو طالبين حصلا على نفس التقدير لكن أحدهما حصل عليه برعاية خاصة نظير مبلغ مالي”.
واستكمل “طبعا النظام دا كان (سبوبة) لبعض أعضاء هيئة التدريس وبعض العاملين بالجامعة، مع سوء استخدام للموارد، إحنا عندنا حُب وولع بالخرسانة، لكن مش هنبني معامل فنقوم نبني جامعة تانية منبثقة من جامعة المنصورة مثلا، البرنامج الخاص دا تولد عنه فكرة في الثمانينات هي إنشاء الجامعات الخاصة، وبدأ الموضوع بهدوء لكنه انتشر حتى زادت أعداد الجامعات الخاصة عن الجامعات الحكومية.. ولو نظرنا إلى مشروع مصر 2030 لوجدنا أن هناك تشجيع كبير للجامعات الخاصة”.
وشدد غنيم على أن انتشار الجامعات الخاصة هو أمر له مساوئ كثيرة، فبخلاف أنه يحقق مكاسب ضخمة للمنشئين فهو يكرس للتفاوت الطبقي ويستنزف أعضاء هيئة التدريس العاملين بالجامعات الحكومية.. متسائلا “من الذي يدرس في الجامعة الأمريكية والألمانية وأي جامعة خاصة؟” مضيفًا “هم أعضاء هيئة التدريس في الجامعات الحكومية”.
واسترسل “هناك أيضًا ما يُعرف بالجامعات الأهلية، وهي جامعات حكومية لكنها حملت مسمى جديد وهو الاسم الذي يتيح الالتفاف على الدستور، لأن الدستور ينص على أنه إذا أنشأت الحكومة جامعة فإنها تكون مجانية، لذلك سُميت الجامعات الحكومية باسم (الجامعات الأهلية) لتكون بأجر”، مشيرًا إلى أن هذه الجامعات الأهلية تضيف عبئًا جديدًا في مسألة استنزاف أعضاء هيئة التدريس من الجامعات الحكومية.
وتابع “لدينا حاليا قانون فاسد ومفسد أضيفت إليه جامعات حكومية بها برامج خاصة وهو أمر غير دستوري، وجامعات خاصة تمثل رأسمالية شرسة تبغي ربحا كبيرا، وجامعات أهلية هي في الواقع جامعات حكومية لكنها تخالف الدستور، ودولية لها شراكة متدنية مع جامعات أجنبية ليست في المستوى المطلوب ولا ترفع مستوى التعليم الجامعي في مصر”.
وخلال اللقاء قال غنيم إن الدستور حدد نسبة 2% من الناتج القومي للإنفاق على التعليم الجامعي، مضيفا “أنا حاولت أعرف ما هي ميزانية التعليم الجامعي للعام 2021 / 2022، لكنني لم أصل إلى إجابة”.
واستكمل غنيم، “اللي أنا عارفه إنه ما يتم تخصيصه للتعليم الجامعي متدني ولا يقترب ولو قليلا من الـ 2% المحددة في الدستور، فوفقا للناتج المحلي والذي يصل إلى 6 تريليون، فإن ما يفترض تخصيصه للتعليم الجامعي هو في حدود 120 مليار جنيه.. فأنا دلوقتي عايز أعرف المخصص فعليا كام؟”.
وأشار غنيم إلى أن تخصيص هذا الرقم بالفعل يحقق نقلة نوعية كبيرة في مسار التعليم الجامعي، لافتًا إلى أنه يمكن الإنفاق على أعضاء هيئة التدريس وإنشاء معامل وتدعيم البحث العلمي.
– عن التاريخ والجغرافيا
تعليقا على ما قاله الرئيس السيسي كتب الدكتور عاطف معتمد أستاذ الجغرافيا الطبيعية تحت عنوان “مستقبل الجغرافيا في مصر” قائلا: في عام 2004 أي قبل ما يقرب من عقدين من الزمن عملتُ ثلاث سنوات في جامعة بدولة عربية شقيقة. أخذت هذه الدولة بنصيحة برنامج أمريكي بإغلاق أقسام الجغرافيا طالما أن سوق العمل لا يستوعبهم.
وأضاف معتمد “في هذه الدولة العربية المحافظة لا يمكن للصحافة أو الإعلام أن تقدم اعتراضا على القرار لكن الذين اعترضوا هم أساتذة التخصص في تلك الجامعات، واستمر هذا الاعتراض حتى عقدت الدولة اجتماعا موسعا أبلغت فيه الأساتذة أن إغلاق الأقسام لن يمس وظائفهم ورواتبهم بل إن إغلاق الأقسام سيجعلهم على نفس الوظيفة حتى سن المعاش وما بعده دون أن يقوموا بالتدريس أو أية أعباء تعليمية تجاه القسم الذي أغلق، على هذا النحو سكتت الأصوات فجأة لكن بعد 10 سنوات من ذلك القرار – وحين احتاج سوق العمل في تلك الدولة إلى معلمي جغرافيا في المدارس – أعيد فتح بعض الأقسام تلبية للطلب الجديد.
ويستكمل “لقد اتضح أن الجغرافيا تشعبت وتفرعت إلى تخصصات كبرى ودقيقة ولا يمكن جمعها في تخصص واحد ولا يمكن لقسم أو كلية أن تستوعيه. لدينا أكثر من 60 تخصص ومسار بحثي في الجغرافيا بداية من دراسة المدن والريف والطبوغرافيا والسياسة والاقتصاد والخرائط الرقمية والمساحة الجغرافية والسكان والأعراق والانثروبولوجيا.. إلخ”.
يضيف معتمد في تدوينة سابقة “عندي شهادة أمام الله لابد أن أقولها قبل أن يحل الأجل فجأة، هذه الشهادة تكونت لدى بعد سنوات طويلة من العمل تدريسا وبحثا في هذا التخصص. تتعلق شهادتي بالضرر الكبير الذي تسبب فيه الإفراط في تحويل أقسام الجغرافيا في مصر إلى أقسام متخصصة في تدريس الخرائط الرقمية التي تعرف اصطلاحا باسم “نظم المعلومات الجغرافية” وما يرتبط بها من تحليل صور الأقمار الصناعية وإكساب الطلاب بعض مهارات الرفع المساحي. وسأفرد شهادتي في أربع نقاط”.
يستكمل معتمد “- لقد تراكم لدينا عبر العقدين الماضيين والمختصون في إعداد الخرائط بالكومبيوتر ولكن ذلك لا يعني أنهم جغرافيين بالمعنى الحقيقي للعلم. إن ما يقوم به كثير من أقسام الجغرافيا في مصر من إعطاء أولوية لهذه المواد على حساب أصول المعرفة الجغرافية هو ضرر بالغ بتعليم الجغرافيا في بلادنا، – لعب بعض أساتذة أقسام الجغرافيا دورا ساهم في تقويض أركان علم الجغرافيا في مصر حين قاموا بدعوة الطلاب للالتحاق بأقسامهم حتى يتخرجوا حاملين لقب “مهندس مساحة” وهذا تغرير سيحاسبهم الله عليه لأن هؤلاء الخريجين لا يمكن أن يحملوا هذه الصفة ولا يمكن أن يحلوا محل مهندسي المساحة لمجرد معرفتهم بطرق تشغيل بعض أجهزة المساحة، – كان من نتيجة ذلك دخول طلاب إلى أقسام الجغرافيا في الجامعات المصرية (خاصة في الدلتا) بأعداد يقترب بعضها من ألف طالب في الدفعة، وهو ما أنتج لدينا عشرات الآلاف ممن يسمون “جغرافيين” دون أن يكونوا على معرفة حقيقية بهذا العلم، بل اكتساب مهارات تقنية محدودة لا تصنع الأفكار ولا تطور الإبداع ..مجرد تقليد وحفظ آليات برمجية، – تتحمل الدولة جانبا من المسؤولية لأنها لا توفر فرص عمل لخريجي الجغرافيا الحقيقية وتركت الدولة هذا العلم القومي لسوق العمل الذي لا يقبل سوى هؤلاء الذين يعرفون برنامج أو برنامجين وطريقة تشغيل جهاز رفع مساحي”.
ويختتم معتمد “أنا لا أنكر أهمية هذه التقنيات التي قمت شخصيا بتدريسها في الجامعة وأعددت بها بعض بحوثي العلمية وأشرفت من خلالها على بعض طلاب الدراسات العليا. لكني أكرر كما قلت في مناسبات عديدة أن هذه مجرد “وسائل” وأدوات” لا يمكن أن توضع على نفس الدرجة مع (علوم ومعارف الجغرافيا).
وعلى الرغم من ذلك يجب الإشارة إلى أن أقسام الجغرافيا والتاريخ تنتج العديد من المتخرجين الذين يستوعبهم سوق العمل بل ويطلبهم على وجه السرعة كمهندسي المساحة ومُعدي الخرائط بالكمبيوتر، إضافة إلى المرشدين السياحيين في بلد يعتمد بالكلية على السياحة كمورد رئيس للدخل القومي.