حسين جعفر يكتب: صيحة أم كلثوم في ذكرى رحيلها: «أعطني حريتي أطلق يديا».. حينما حوّلت الست أرصفة محطات القطار لمسارح (3/2)
استطاعت أم كلثوم توحيد المصريين والعرب على صوت الفن وحول رؤيتها للصراع الدائر والدائم في المنطقة بأن الأمل هو فلسطين والعدو هو إسرائيل
أم كلثوم حوّلت أرصفة محطات القطارات إلى مسارح قبل أن يفكر صانعو فيلم “هيستريا” في أن يغني الراحل أحمد زكي على رصيف المترو بـ 85 عاما
أم كلثوم قرأت لـ مصطفى لطفي المنفلوطي و دواوين ابن الفارض وابن الرومي والبحتري والمتنبي وأمهات الكتب كـ”الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني”
بدأت الغناء في الخامسة من عمرها وأولى حفلاتها الغنائية على الإطلاق “كانت مزدحمة بالناس”.. عدد الجمهور كان 15 شخصا
أغنية «اللي حبك يا هناه» أولى الأغنيات التي تلحن خصيصا لها.. وقصيدة «الصب تفضحه عيونه» للشيخ أبو العلا محمد كانت سببا في التقائها بالشاعر أحمد رامي
في الذكرى الثامنة وأربعين لرحيل كوكب الشرق، التي استطاعت توحيد المصريين والعرب على صوت الفن، صوت ثوار ثوار ولآخر مدى، وجعلتهم يلتفون ويلتقون حول هذا الصوت السماوي، وحول رؤيتها للصراع الدائر والدائم في المنطقة، بأن الأمل هو فلسطين والعدو هو إسرائيل.
علينا أن نعرف كيف فعلت ذلك على مدار نصف قرن من الغناء المتواصل، ففي الأربعينيات من القرن الماضي انتشرت طرفة تقول إن أمريكيا سأل مصريا عن أحوال مصر فقال له: الحمد لله كل شيء بخير، 3 أيام لكرة القدم، و3 أيام لأم كلثوم ويوم للحمة..”فاكرينها”.
من هذه الست التي جعلت المصريين يعطونها 3 أيام من الأسبوع مثلها مثل مباريات كرة القدم الساحرة المستديرة التي “هبلت” الناس، كما أعطوها لقبا لم تحصل عليه فنانة أخرى من قبلها أو من بعدها، لقبا أطلقوه قبلها بآلاف الأعوام على الست إيزيس، وأطلقوه قبلها بمئات الأعوام، على نساء آل البيت في مصر، الست أم هاشم، الست نفيسة، الست عائشة، وتكتب مفردة الست في مصر القديمة كما ننطقها الآن بدون حرف اللام، “است”.
“قومي جاوبي انتي يا بت يا فالحة”.. وكرسي السلطان
كبرت الطفلة، وقبل أن تتم 5 سنوات أخذتها الغيرة من أخيها، الذي يذهب للكتاب يوميا فأرادت أن تذهب هى أيضا للكتاب، حتى لو متفرجة، وفي بداية علاقة أم كلثوم بالكتّاب، لم تكن تحب التعليم، فلم يكن بينها وبين شيخ الكتّاب ما يشجعها على هذا الحب، بل كان دائما ما يوبخها: “قومي جاوبي انتي يا بت يا فالحة”، ولهذا التوبيخ أصل وفصل، حدث أن ذهبت أم كلثوم للكتاب مبكرا، قبل كل التلاميذ، لتنتقم من إحدى زميلاتها، التي أساءت إليها في اليوم السابق، وفتحت درج زميلتها وكسرت لوح الإردواز الذي تكتب عليه، ودخل مفتش وزارة المعارف فجأة، وسألها عن شيخ الكتاب، فقالت له إنه لم يحضر، وبعد فترة من انتظار المفتش حضر الشيخ عبد العزيز، فقال له المفتش:” ما شاء الله، البنت الصغيرة تحضر في الميعاد، وحضرتك تتأخر نصف ساعة”.
وحمّلها الشيخ عبد العزيز المسئولية في لوم المفتش له، فبدأ في اضطهادها، فكان يقول لها ساخرا “قومي جاوبي إنتي يا بنت يا فالحة”، وكان زملاؤها يضحكون عليها، وهو ما جعلها تقول ـ بعد ذلك ـ في مذكراتها: “ضاقت الدنيا في وجهي، وأصبحت أكره الذهاب إلى الكتاب، حتى لا أقع في قبضة الشيخ عبد العزيز وأسئلته”، ثم تضيف:” وفي يوم فتحت لي السماء أبوابها، ومات الشيخ عبد العزيز فقيه الكتاب”.
وأغلق كتاب الشيخ عبد العزيز وانتقلت مع أخيها خالد، وصابر ابن زوج أختها، وتلميذ من قرية مجاورة اسمه عمرو إلى كتاب آخر، يبعد عن قريتهم ثلاثة كيلو مترات ذهابا ومثلها إيابا. تقول أم كلثوم إن ما كان يعينهم على قطع تلك المسافة هو أنهم كانوا، الأربعة، يلعبون لعبة كرسي السلطان، وهى أن يمشي ثلاثة ويحملون الرابع من عمود تليفون إلى العمود الذي يليه، ثم ينزل ليحملوا غيره، وكانوا يختلفون على دور كل منهم، وكانت هى أكثرهم مغالطة، وبسبب هذه اللعبة بدأت أم كلثوم تحب الكُتّاب والقراءة والكتابة، خاصة أن شيخ الكتاب الجديد لم يكن يضطهدها، ولم يقل لها “قومي جاوبي انتي يا بت يا فالحة”.
قلّدت أبي وفزت بـ”طبق مهلبية”.. وأعطيت أمي مال قارون
بدأت أم كلثوم الغناء، وهى في الخامسة من عمرها، مقلدة لأبيها الشيخ إبراهيم البلتاجي، وهو يُحفّظ أخيها خالد الأناشيد والمدائح النبوية، وفي أحد الأيام سمعها أبوها وظل يراقبها من خلف الباب، ولما انتهت من تقليده، قال لها تعالي معايا حفلة شيخ البلد، فرفضت، عرض عليها أن يعطيها كراملة فرفضت، وحين عرض عليها طبق مهلبية مقابل أن تذهب لتنشد معهم في الحفلة وافقت على الفور.
وعن هذه الحفلة، أولى حفلاتها الغنائية على الإطلاق، تقول أم كلثوم: “كانت مزدحمة بالناس فقد كان عدد الجمهور 15 شخصا، وطلب مني أبي أن أجلس بجواره على الكنبة، فرفضت وأصرَرْت على أن أقف على الكنبة وبدأت أغني، وبعد 5 دقائق انتهيت من الغناء، وسمعت لأول مرة في حياتي تصفيق الناس لي، ولكن هذا التصفيق لم يهزني، فقد التفت لأبي وقلت له فين بقى اللي قلتلي عليه، فين طبق المهلبية “.
وفي ثاني حفلاتها في مركز السنبلاوين اختفت أم كلثوم مع قطتها تحت الكنبة، وظل أبوها يبحث عنها حتى خرجت القطة وأم كلثوم من خلفها، وزاد جمهورها ووصل إلى 20 شخصا، ولكنها لم تهتم، فقد كانت تغني، وتحلم بطبق المهلبية.
وذاع صيت أم كلثوم ووصل للكثير من القرى المجاورة، حتى أن شيخا أعطاها 10 قروش دونا عن باقي الفرقة، التي كانت تتكون من 4 أفراد غيرها، أمسكت بالعشرة قروش في يدها وأحكمت قبضتها عليها، حتى وهى نائمة على كتف والدها في طريق العودة للبيت، كي تعطيها لوالدتها، تقول أم كلثوم: “أول ما رأيت أمي، فتحت يدي وأعطيتها مال قارون”.
حوّلت أرصفة محطات القطار لمسارح
حوّلت أم كلثوم أرصفة محطات القطارات إلى مسارح، قبل أن يفكر صانعو فيلم هيستريا، في أن يغني الفنان الراحل أحمد زكي على رصيف محطة المترو بحوالي 85 عاما، وقد تكون فكرة غناء أحمد زكي على رصيف المحطة أُخذت من حياة أم كلثوم، خاصة أن زكي غنى إحدى أغاني الست “اسأل روحك”، كلمات عبد الوهاب محمد، وألحان محمد الموجي”.
كان أجر فرقة الشيخ إبراهيم البلتاجي، قد ارتفع بعد انتشار اسم الطفلة المعجزة أم كلثوم وصوتها الساحر، وصل أجرهم إلى 150 قرشا، وطبق مهلبية و”قزازة كازوزة/ حاجة ساقعة” لأم كلثوم، وعددا من الحمير لزوم الطريق بين القرى بدلا من المشي، وركبوا القطار للقري والمراكز البعيدة، ولما كانوا لا يلحقون بالقطار، ذي التوقيتين اللذين لا يتغيران، السادسة صباحا والسادسة مساء، كانوا يجلسون على الرصيف “12ساعة” في البرد الشديد وتحت المطر الغزيز، وأخيرا وجد إبراهيم البلتاجي حلا يوصلهم للجلوس في استراحة الركاب، وهو أن تغني ابنته لناظر المحطة، تقول أم كلثوم: “غنيت على أرصفة مئات المحطات بالوجه البحري، وتركت في كل قرية وكل محطة عددا من المعجبين”.
بلد تتكلم فيها الغربان وأعظم مطرب سمعته أم كلثوم
عرفت أم كلثوم طريق القاهرة، أول مرة، عن طريق ناظر عزبة عز الدين يكن، أحد أثرياء مصر في العهد الملكي، بعد أن رشحها له لتغني في قصره بحلوان ليلة الإسراء والمعراج، وغنت واستعادها الحاضرون أكثر من مرة والتقت بالشيخ إسماعيل سكر، المنشد ذائع الصيت وقتها، وأعجب بها وتنبأ لها بمستقبل باهر، وعادت للقرية لتحكي لأصدقائها وصديقاتها عن القاهرة بلد العجائب والكراملة الحلوة والغربان، التي تتكلم، تقصد الببغاوات التي رأتها في قصر عز الدين يكن.
تغيرت علاقة أم كلثوم بالقاهرة بعد أن رأت الشيخ أبو العلا محمد على رصيف محطة السنبلاوين، لم تكن تعرف أنه حي يرزق، فقد كانت تسمع غناءه فقط من خلال فونوغراف عمدة القرية، تقول: “قبل أن أستمع إليه كنت أغني بلا شعور ولا إحساس، كنت أردد الأغاني التي أسمعها من أبي كالتلميذ الذي يردد جدول الضرب، وهزني صوته، كان الفونوغراف يسكت، ولكن صوت الشيخ أبو العلا كان يستمر يغني في أذني، فقد غيرني وعلمني أن أفهم الكلام قبل أن أحفظه وأغنيه”، واقترح الشيخ أبو العلا، بعد أن سمع أم كلثوم، على أبيها أن ينتقل بابنته للقاهرة لأن صوتها أكبر من أن يحبس في قرية، ورفض الأب وتحت إلحاح ابنته ورجائها وافق. وفي القاهرة كان يدربها الشيخ أبو العلا على الغناء طوال الليل، وعلى مدار 5 سنوات حفظت كل أغانيه، لم يلحن أيا منها لأم كلثوم بالذات، ولكنها غنت الكثير منها في حياته، وأربع قصائد غنتها بعد وفاته، كما يقول الشاعر والكاتب الصحفي كمال النجمي، في كتابه تاريخ الموسيقى العربية، وتقول أم كلثوم عن أثر الشيخ أبو العلا في حياتها: “كان والدا ثانيا لي، ولن يقل وفائي وامتناني له عن وفائي لأمي وأبي، لكنه لم يحصل على ما يستحقه من الشهرة “.
الطرب والثقافة.. لولا القراءة لكتبت الشعر
لم تكتف أم كلثوم بتعلم الغناء على أصوله، ولكنها قرأت وثقفت نفسها، بدأت بقراءة مصطفى لطفي المنفلوطي العبرات ثم النظرات، إلى دواوين ابن الفارض وابن الرومي والبحتري والمتنبي والشريف الرضي ومهيار الديلمي، وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وعن طريق الشيخ أبو العلا عرفت الشاعر أحمد رامي، الذي كتب أغلب أغانيها فيما بعد، وكان يمدها بالكتب وتناقشه فيها، وتقول أم كلثوم: “وكان لرامي الفضل الكبير، في تذوقي للشعر وفهم معانيه، كان يقدم لي ديوانا كلما كان يزورني، وتعلمت أوزان الشعر، ولولا قراءاتي لكتبت الشعر، ولكننا حينما نتعلم، نعرف مكاننا، وقد عرفت مكاني”.
ويشهد بعض الكتاب بكثرة اطلاع أم كلثوم، وقراءتها لكل ما تقع عليه يداها، وفهمها لما تطالعه، فمثلا يقول الكاتب الصحفي الراحل موسى صبري في كتابه “مذكرات موسى صبري”: عندما أهديت أم كلثوم كتابي ملك وأربع وزارات، فاجأتني في اليوم التالي باتصال تليفوني وهى تقول إنها سهرت على قراءة الكتاب، ولما انقطعت الكهرباء استعانت بشمعة، أكملت القراءة على ضوئها حتى آخر صفحة”. ويقول الكاتب ثروت عكاشة في كتابه ” ذكريات لا مذكرات”: أم كلثوم تحفظ كثيرا من الشعر، وكنت مريضا وزارتني، وكان المفروض أن تبقى دقائق ريثما يقدم لها أهل البيت من إكرام، ولكن حلا لها أن تكلمني في الشعر، فإذا زيارتها تمتد ثلاث ساعات، دون أن نشعر بالوقت”.
أولى أغنياتها.. “أهلا سي رامي”
كبرت البنت، وخرّاط الفن حسّن صورتها وصوتها، واستقرت بالقاهرة بمنزل في حي عابدين، وبادر الشيخ زكريا أحمد بتعريف جمهور القاهرة على أم كلثوم، وجعلها تغني في مولد الحسين، ثم غنت أم كلثوم في فواصل مسرحيات على الكسار، ولما كان زكريا يلحن اغاني تلك المسرحيات، طلبت منه أم كلثوم أن يلحن لها أغنية، فلحن لها أغنية “اللي حبك يا هناه”، وكانت هذه أولى أغنياتها، التي تلحن خصيصا لها، كما يقول كمال النجمي، ولكن الكاتب الصحفي لمعي المطيعي، في كتابه” موسوعة نساء ورجال من مصر”، يقول إن أولى أغنياتها هى عصفورة تأليف مصطفى صادق الرافعي، ولكني لم أعثر على هذه الأغنية بصوت أم كلثوم أو بصوت غيرها، وأغنية اللي حبك يا هناه موجودة ومتاحة للجمهور حتى الآن، أما قصيدة عصفورة فلم أسمع بأحد قام بغنائها.
وسمعت أم كلثوم قصيدة الصب تفضحه عيونه من الشيخ أبو العلا فغنتها، وكانت هذه الأغنية سببا في التقائها بالشاعر أحمد رامي، الذي عرفها بنفسه، قبل أن تبدأ حفلتها، طلب منها أن تغني تلك القصيدة، فوجدها تعرفه “أهلا سي رامي”.
ونكمل غدا الإجابة عن باقي الأسئلة