حديث الفرص الضائعة (4) | ماذا لو وجهنا نصف استثمارات العاصمة والعلمين للزراعة؟ هل أهدرنا فرصة مواجهة فجوة الغذاء؟
🛑 د. فؤاد سراج الدين: تكلفة استصلاح الفدان تتراوح بين 150 إلى 200 ألف جنيه بما يشمل المرافق وتوصيل المياه وحفر الآبار
🛑 سراج الدين: تقدمنا بدراسات تؤكد إمكانية استصلاح 8 ملايين فدان إذا تم توفير الإمكانيات.. والعائدات تتحقق خلال 3 سنوات
🛑 خبير اقتصادي: مخصصات الزراعة سنويا بين 40 لـ 80 مليار جنيه.. ونصف المبالغ المُخصصة للعاصمة والعلمين كانت تكفي استصلاح 3.75 مليون فدان
🛑 خبير: أهدرنا الأموال على ما لا ينبغى.. وتم الإعلان عن خطط لاستصلاح ٤ ملايين فدان انخفضت لـ 1.5 مليون وفشلوا في تحقيق المستهدف
🛑 د. نادر نور الدين: لا أفضل مشروع توشكى لأنه يحتاج محاصيل مُعينة.. ويجب تقنين الاستثمارات الأجنبية في أراضي مصر الزراعية
🛑 نور الدين: الشركات الخليجية تستحوذ على المياه والمحاصيل نظير مقابل ضعيف.. والباحث محمد رمضان: مياه مصر تؤمّن الأمن الغذائي لدول الخليج
كتب – أحمد سلامة
“ولماذا يصح وصف تجربة محمد علي بأنها تجربة رائدة في (الاعتماد على النفس)؟ يصح ذلك في رأيي من ثلاثة وجوه أساسية، نفتقدها كلها اليوم:
أولها: يتعلق بما توفّر لمصر في عهد محمد علي من اكتفاء ذاتي في الغذاء. كانت واردات مصر تتكون أساسا من الآلات والسفن والمدافع والحديد والخشب، ولكنها لم تكن تستورد الغذاء.
وثانيها: أن مصر كانت في عهده تتمتع بدرجة عالية من القدرة على المساومة مع المُصدرين والمستوردين على السواء.
وكان الوجه الثالث من وجوه الاعتماد على النفس في عهد محمد علي هو أهمها على الإطلاق.
فهذا الرجل الذي بنى المصانع، وأقام الخزانات والسدود، وأحدث ثورة في التعليم، وأرسل البعثات، وأنشأ أقوى جيش في المنطقة، لم يسمح لنفسه قط بالتورط في الديون”.
من كتاب “قصة الاقتصاد المصري” لـ جلال أمين
***********************
في وقت تزداد فيه حدة المخاوف من تراجع الحالة الاقتصادية، يتواكب مع ذلك قلق عام من اتساع فجوة عجز الغذاء خاصة بعد الأزمة الروسية الأوكرانية.. ليثور التساؤل الذي يؤرق الخبراء.. هل كانت أموال العاصمة الإدارية والعلمين الجديدة والمشروعات العقارية بشكل عام تكفي لتحقيق قدر من الاكتفاء الذاتي في الغذاء وسد جزء من حاجات الشعب؟.
وزير المالية محمد معيط، في تصريحات أثارت جدلا أدلى بها في يونيو الماضي، حذر من أن الزيادات في أسعار المواد الغذائية الناجمة عن الحرب الروسية في أوكرانيا قد تقتل الملايين من الناس على مستوى العالم، لكنه أوضح بعد ذلك أنه لم يقصد مصر تحديدا، مؤكدا أن وضع مصر الاقتصادي آمن رغم التحديات، غير أن النفي الأخير لم يمنع الهواجس كما لم يمنع التساؤلات التي أبرزها: ما الذي يمنع دولة بحجم مصر من القدرة على سد فجوة الغذاء رغم قدرتها الظاهرة في الاستثمار العقاري؟
🛑 هل كانت نفقات العاصمة والعلمين تكفي لسد الفجوة الزراعية؟
بلغت الاستثمارات الموجهة لقطاع الزراعة وفق بيانات وزيرة التخطيط ٤٣ مليار جنيه في عام 2020 / 2021 ثم ارتفعت إلى ٧٣.٨ مليار بنسبة ٥.٩ % فقط من إجمالي الاستثمارات في عام 2021- 2022.. وهو ما دفع الخبير الاقتصادي الدكتور زهدي الشامي إلى وصف ذلك بأنه “مبلغ هزيل للغاية” يبتعد كل البُعد عن تريليونات المشروعات العقارية.. لذلك يضيف “إن النتيجة المنطقية لذلك هي التراجع الواضح للناتج الزراعي، ويتجلى ذلك في استمرار العجز الكبير في الميزان التجاري نتيجة ضعف الصادرات السلعية وزيادة الواردات السلعية، ويقدر عجز الميزان التجاري السلعي بما يتجاوز ٤٠ مليار دولار، كما تعاني مصر كما هو معروف من ضعف الاكتفاء الذاتي من الغذاء، ويتجلى ذلك في ارتفاع فاتورة واردات السلع الزراعية إلى ١٠.٤ مليار دولار في عام ٢٠٢١، إضافة إلى ٦.٧ مليار أخرى من الصناعات الغذائية”.
وتربط دراسة “الآثار الاقتصادية للاستصلاح الزراعي في جمهورية مصر العربية” لـ د. سيده حامد عامر و د. إيناس محمد عباس، المنشورة في المجلة المصرية للاقتصاد الزراعي بين الأزمة وتقلص الغذائية وتقلص الأراضي الزراعية وتقول “على الرغم من الزيادة المضطردة في عدد السكان وتزايد احتياجاتهم من الغذاء والكساء مع محدودية الأرض الزراعية وتحولها إلى استخدامات غير زراعية نتيجة حدوث تعديات وتصحر وتملح التربة، إلا أنه يلاحظ تباطؤ أنشطة الاستصلاح نتيجة المعوقات التي تواجهها”.
وتضيف الدراسة أن أهم هذه المعوقات هي “معوقات فنية تتمثل في عدم توافر مياه الري وندرة العمالة الفنية وعدم وجود بيانات تفصيلية عن المشروعات وعدم كفاية البنية الأساسية والاجتماعية، إضافة إلى معوقات مالية تتمثل في عدم توفر الاستثمارات اللازمة لأعمال البنية الأساسية وعدم توافر مصادر تمويل للاقتراض”.. ونشير هنا إلى أن مصادر تمويل الاقتراض هو أمر كان يقوم به البنك الزراعي غير أن ذلك الدور قد توقف تمامًا في الآونة الأخيرة وهو ما سنرد على ذكره لاحقا.تستكمل الدراسة أن أبرز المعوقات هي الإدارية والتشريعية حيث تتعدد الجهات الحكومية ذات الصلة بتخصيص الأراضي وضعف التنسيق بينها وتعدد التشريعات التي تحكمها.
أسباب تباطؤ أنشطة الاستصلاح، لا تقف فقط عند ما ذكرته الدراسة ولكنها تمتد لطريقة إدارة السياسات الزراعية وسياسات الاستصلاح في مصر، فبدلا من السياسات القديمة التي كانت تمنح راغبي الاستصلاح الاراضي بأسعار زهيدة بل وتساعد في مد المرافق لهم، فإن الدولة تعاملت بمنطق مختلف خلال السنوات الأخيرة حيث لجأت للمبالغة في سعر بيع الأراضي، فيما تراجعت مشروعات مد البنية التحتية وفي مقدمتها توفير المياه، ويضرب أحد مزارعي مشروع الدلتا الجديدة المعروف بالمليون ونصف مليون فدان، رفض ذكر اسمه مثلا بذلك، مشيرًا إلى أن الدولة لجأت لبيع فدان الأراضي الزراعية لراغبي الاستصلاح بأسعار تصل لأكثر من 20 ألف جنيه للفدان على أقساط بفوائد رفعت القيمة لما يقرب من 30 ألفًا، لافتًا في الوقت ذاته إلى أن القسط الأول وحده كان كافيا للبدء في عملية الاستصلاح، ورغم أن عددا كبيرا من راغبي الاستصلاح دفعوا القسطين الأول والثاني إلا أنهم فوجئوا بأزمة ملوحة المياه وكان يمكن توجيه جانب كبير منها لحل المشكلة سواء عبر مد المياه للمنطقة أو من خلال خلطها بمياه الصرف المعاد تحليتها أو حتى توجيه جزء من الأقساط لإقامة محطة لتحلية المياه، وبعد سنوات من الإنفاق فإن المشروع تعطل منتظرا توفير المياه والتي كان يمكن حلها عبر إعادة تدوير الاستثمارات وتخصيص جانب منها لمشروعات كتحلية المياه، الذي لو تم كانت المنطقة مصدرًا للكثير من الزراعات المهمة.
إعادة تدوير الاستثمارت يطرح السؤال الأهم حول قيمة استصلاح الفدان الزراعي؟ يجيب على ذلك السؤال وزير الزراعة السيد القصير، إذ قال في تصريحات تلفزيونية إن تكلفة استصلاح الفدان تتخطى ما يقرب من 300 ألف جنيه، مشيرًا إلى “أهمية وجود وعي لدى كافة فئات المجتمع بأهمية مواجهة التعديات”.
ورغم القيمة العالية للاستصلاح لاتزال الدولة مصرة على تحصيل مبالغ عالية مقابل تخصيص الأراضي المستصلحة وهو ما شكا منه المزارع الذي فضل عدم الافصاح عن هويته.غير أن خبير الاقتصاد الزراعي الدكتور فؤاد سراج الدين، يرى أن المبلغ الذي تحدث عنه وزير الزراعة كتكلفة لاستصلاح الفدان الزراعي هو رقم مبالغ فيه، إذ يرى أن تكلفة استصلاح الفدان لا تتجاوز نصف هذا الرقم، حيث تتراوح ما بين 150 إلى 200 ألف جنيه بكل ما يشتمل عليه ذلك من مرافق وتوصيل مياه أو حفر آبار وما إلى ذلك.
ولفت فؤاد سراج الدين في حديث مع “درب” إلى أن ما يشكل عائقًا عن عملية الاستصلاح في التوقيت الحالي هو قضية المياه، لكنه نبه إلى أنه لدى مصر خزانات للمياه الجوفية يُمكن الاعتماد عليها لفترات لكنها لا تصلح أن تكون موردًا دائمًا، مُشددا في الوقت ذاته أيضًا على أن استصلاح بعض الأراضي الزراعية يستلزم إنشاء محطات تحلية مياه، وهي ليست منخفضة التكلفة، لكنها تظل حلا للتنمية ومواجهة الأزمات خاصة فيما يتعلق بالمحاصيل الاستراتيجية.
حل تحلية المياه طرحه أيضا عدد من الخبراء، كان من بينهم الدكتور هانى سويلم، أستاذ الإدارة المائية، الذي قال إن تحلية مياه البحر يعد أحد حلول أزمة السد الإثيوبى، مشيرًا إلى أن الكثير من الدول العربية تعاني من مشكلة ندرة المياه، حيث أكدت الدراسات أن ثلثي الدول العربية في عام 2050، سيصل فيها نصيب الفرد من حصة المياه 200 متر مكعب فقط.
وأوضح سويلم، أن الأولوية فى إيجاد موارد مياه جديدة؛ وأن تحلية مياه البحر للري، واستخدامها في إنتاج المحاصيل الزراعية أصبح ضروريًا.. مُشيرًا إلى أن مشكلة تحلية المياه مكلفة، وتستهلك 40 % من الطاقة، كما أن المياه المستخرجة يتم حقنها في التربة، وهو ما يمثل خطورة بيئية، لذلك تم إيجاد فكرة جديدة تتمثل في استخدام بعض مركبات الحديد، وإضافة بعض الأسمدة للمياه ليتم استخدامها في الري، وهذه التجارب تمت في الجامعة الأمريكية بالقاهرة.
وأضاف أستاذ الموارد المائية أن إضافة الأسمدة للمياه، وهوما نسميه بـ”التناضح الأمامى” دون استرداد محلول مركز من الأسمدة، نستهدف منه استخدام هذه المياه فى مناطق غير الدلتا، وزراعة النباتات فى الأماكن غير التقليدية.وخلال العام الماضي، افتتح عبدالفتاح السيسي، رئيس الجمهورية مشروع محطة معالجة مياه مصرف بحر البقر، بتكلفة بلغت 18 مليار جنيه (1.14 مليار دولار)، بطاقة إنتاجية 5.6 مليون متر مكعب يوميًا، لتصبح أكبر محطة لمعالجة المياه (ثلاثيًا) في العالم.. وأعلنت الحكومة أنه سيتم نقل المياه المعالجة لتساهم في استصلاح 476 ألف فدان لتنمية سيناء، فيما أشاد خبراء بالأهمية الاقتصادية لهذه المحطة في معالجة أزمة المياه التي تواجهه مصر وفي الوقت نفسه الحد من التلوث باستغلال مياه المصرف في استصلاح أراضي صحراوية جديدة في سيناء بدلًا من إلقائها في بحيرة المنزلة.
يُشير فؤاد سراج الدين إلى أن المساحة المزروعة في مصر تتجاوز الـ 9 ملايين فدان، وهو ما كان يُمكن أن يزيد بـ 8 ملايين فدان أخرى هي مساحة الأراضي الصالحة للزراعة، إذا ما تم توفير الإمكانيات اللازمة وإعادة توجيه الاستثمارات بشكل مخطط وبناء على استراتيجيات للمستقبل.
وفي رده على سؤال حول مردود مثل هذه المشروعات والفترة الزمنية المستغرقة لتحقيق عائدات، قال سراج الدين “نحن كنا قد تقدمنا بمشروع سابق يشمل مساحات الأراضي القابلة للزراعة، والتي تصل إلى نحو 8 ملايين فدان، على أن يبدأ المشروع في إنتاجيته في خلال 3 سنوات من أعمال البداية.. وبدون شك تخصيص موارد مالية لدعم ملف الزراعة كان يمكن أن يحقق طفرة في سد الفجوة الغذائية”.
🛑 هل نحن بحاجة إلى استراتيجية مُختلفة في الزراعة؟
الحديث المنطقي عن المياه كأحد دعائم الزراعة، يدفع حتمًا إلى التساؤل عن إعادة إحياء مشروع “توشكى” في ظل تأثير عمليات البخر في هذه المنطقة على استهلاك المياه، كذلك يدفع إلى التساؤل حول استغلال بعض الدول الأجنبية للتربة والمورد المائي المصري في زراعة محاصيل نظير عائدات “ضعيفة” على المصريين وفق وصف بعضهم.لذلك، وفي ردٍ على سؤال حول مشروع توشكى وجدواه، خاصة وأنه قد سبق لهذا المشروع أن تعرض لانتقادات كبيرة في عصر الرئيس السابق محمد حسني مبارك، قال الدكتور نادر نور الدين، الخبير الدولي في الحبوب والغذاء، إنه شخصيًا لا يُفضل الأراضي الزراعية الموجودة في توشكى لأنها تستهلك الكثير من المياه، مبررًا ذلك بنسبة البخر المرتفعة بسبب ارتفاع درجات الحرارة، مضيفًا أن “توشكى أقرب في أجوائها إلى دول الخليج منها إلى مصر”.
وأوضح نور الدين أن توشكى تحتاج إلى زراعة أصناف معينة تتحمل قسوة الحرارة وشدتها، فمن الصعب مثلا أن يتم زراعة محاصيل القمح، وإنما يحتاج المشروع إلى أشجار معينة ومحاصيل مُعينة مع مراعاة استهلاك المياه.وقال نور الدين إنه يفضل أن يتم التوسع في المشروعات الزراعية شمالا في اتجاه الدلتا وشمال سيناء وباتجاه الساحل الشمالي، لأنهم الأكثر خصوبة والأعلى إنتاجية بعكس الأراضي في توشكى.
ويرى نور الدين أن الدولة تعمل على طرح استثمارات كبيرة في الأراضي الزراعية أمام الشركات، مُحذرًا في الوقت ذاته من عدم تقنين استثمارات الخليج في مصر.ويقول نور الدين إنه يجب أن يكون هناك تقنين للاستثمارات الخليجية في الأراضي الزراعية المصرية، لأن ما يحدث هو أن بعض تلك الاستثمارات تحصل على المياه والمنتج الزراعي نظير مقابل مادي زهيد متمثل في ثمن الأرض من حق الانتفاع، وبالتالي يُحرم المصريين من أراضي خصبة وموارد مائية لري الأراضي الزراعية في بلد يعاني من الشُح المائي.
واقترح نور الدين أن تكون هناك قوانين ملائمة لعملية الاستثمار الزراعي في مصر، كأن تحصل الدولة على نصف الإنتاجية من الأراضي التي يتم زراعتها أو أي قوانين أخرى كفيلة بحماية حقوق المصريين، مشددًا على أن هذا أمر يجب الانتباه إليه خاصة وأن بعض الشركات الخليجية التي جاءت إلى مصر للاستثمار في الأراضي الزراعية قد اتجهت إلى زراعة البرسيم على سبيل المثال، وهو منتج كثير الاستهلاك للمياه، من أجل استغلال المحصول في مشروعات الثروة الحيوانية في تلك البلدان.
وأضاف نور الدين أنه يجب على الدولة المصرية أن تُلزم تلك الشركات بزراعة محاصيل مُعينة وطرق ري معينة لضمان الاستغلال الأمثل للأراضي الزراعية والمياه على حد السواء.
مسألة الاستثمارات الخليجية التي حذر الدكتور نادر نور الدين من التوسع فيها دون تقنين وضبط، حذر منها كذلك الباحث الاقتصادي محمد رمضان الذي قال إن الأمر بالغ الخطورة ويمس سيادة الدولة.
يوضح رمضان، في تقرير نشرته “شبكة شمال إفريقيا للسيادة الغذائية” أنه بحسب موقع “مصفوفة الأرض”، المتتبع لعمليات استحواذ الشركات الكبرى على الأراضي، فقد تم الاستحواذ على حوالي 450 ألف فدان عبر 14 عملية استحواذ استطاع الموقع الوصول لبيانات حولها.
وأضاف رمضان، تشكل تلك المساحة ما يقرب من 4 % من المساحة المزروعة في مصر البالغة (حسب بعض التقديرات) 10 ملايين فدان.. أما أبرز الشركات الخليجية التي تعمل في القطاع الزراعي المصري فهي شركة جنان الإماراتية، المستحوذة على ما يقرب من 150 ألف فدان في مصر في مناطق مختلفة، آخرها في شرق العوينات، ضمن مشروع طموح تبنته الدولة للاستصلاح الزراعي يهدف لإضافة مليون ونصف فدان للمساحة الزراعية في السنوات القادمة، وشركة الظاهرة الإماراتية، المالكة ما يقرب من 120 ألف فدان في مصر، لكن المساحة المزروعة منها تناهز 20 ألف فدان فقط حاليا، يُزرع معظمها بالموالح وخاصة البرتقال من أجل التصدير إلى الإمارات ودول الخليج الأخرى، شركة الراجحي السعودية المستحوذة على 100 ألف فدان من مشروع توشكي في جنوب مصر.
ونبه الباحث الاقتصادي إلى أنه “لا يمكن تتبع الحجم الدقيق لعمليات استحوذ رؤوس الأموال الخليجية على الأراضي في مصر، لأن تلك الشركات تدخل في تحالفات معقدة من الشركات الصغيرة من أجل الاستثمار في الزراعة في مصر، وغالبا ما تكون تلك التحالفات مع شركات استثمار زراعي محلية كبيرة مثل الفتح والمغربي ودلتاكس والتي توجه استثماراتها الكبرى في تصدير المحاصيل النقدية خاصة البصل – والبطاطس والموالح”.
ويذكر الباحث أن “مساحة توشكي الحالية تبلغ 405 ألف فدان، منها 100 ألف فدان لصالح شركة الراجحي السعودية، و100 ألف أخرى لشركة الظاهرة الإمارتية، بالإضافة إلى 25 ألف فدان تحت ولاية جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، بعد شراء المساحة من شركة «المملكة للتنمية الزراعية» المملوكة للوليد بن طلال في 2017، ويقع 62 ألف فدان في حوزة شركة جنوب الوادي للتنمية، و92 ألف فدان تم تخصيصها مؤخرًا لشركة الريف المصري، وكلاهما شركات استصلاح زراعي تابعة للدولة المصرية. كما خصص 10 آلاف فدان لوزارة الإسكان لإقامة مدينة توشكى الجديدة. ويوجد حاليًّا 16 ألف فدان لم يتم تخصيصها بعد.
إذن، تستحوذ شركتان خليجيتان فقط هما شركتا الراجحي والظاهرة الإماراتية على نحو 49.4% من أراضي المشروع”.
وأرجع الباحث محمد رمضان سبب ذلك إلى أن الشركات الخليجية مدفوعة في عملية الاستحواذ على الأراضي في دول مثل مصر والسودان وأثيوبيا باستراتيجيات قومية للأمن الغذائي تواجه بها شح المياه على أراضيها، فعمليا لا تشتري تلك الشركات الأرض ولكن المياه التي تروي الأرض، أو ما يسمي بالمياه الافتراضية.
وأضاف “الفكرة تبدو بسيطة، معظم السلع الزراعية والصناعية تستهلك مياه من أجل أن تنتج، بالتالي خفض كلفة المواد بالاستحواذ على مصادر المياه نفسها. يعني ذلك أن الشركات الخليجية التي تشتري في مصر المتر المكعب من المياه بمتوسط 2 جنيه ( حوالي 12 سنت) تحقق أرباحا مهولة.
إن لدى مصر مشكلة في المياه الافتراضية تلك، إذ تستورد سنويًا، حسب التقديرات شبه الرسمية، زهاء 40 مليار متر مكعب من المياه الافتراضية عبر استيراد السلع الزراعية والصناعية، ومن أهمها القمح”.
ويتابع رمضان “إننا هنا إزاء تناقض صارخ، حيث تؤمن المياه المصرية الأمن الغذائي لدول الخليج العربي، فيما يتحمل عجز الميزان التجاري المصري كلفة استيراد السلع الزراعية والصناعية التي يحتاجها المواطن المصري بأسعارها العالمية.
تستهلك شركة الراجحي السعودية وشركة الظاهر الإماراتية حوالي 210 مليون متر مكعب من المياه سنويًا لزراعة 29 ألف فدان من الأراضي التي تمتلكها في مشروع توشكي، تلك الكمية من المياه تكفي لزراعة ما يقارب 84 ألف فدان من القمح لإنتاج نحو 62 ألف طن من القمح”.
لكل ذلك، يؤكد الباحث عبدالمولى إسماعيل بالقول “نحن بحاجة إلى استراتيجيات مختلفة في الصيد والزراعة والتصنيع، لكن يبدو أن هذا الأمر مرهون بأمور أخرى، نحن نعالج الأزمة الاقتصادية بأساليب نقدية لكن المشكلة بحاجة إلى آليات جديدة من أجل وضع علاج جذري”.
يتفق الباحث عبدالمولى إسماعيل مع ما ذهب إليه دكتور فؤاد سراج الدين من إمكانية تحقيق قدر من الإكتفاء الذاتي في عدد من السلع، إذ يقول في تصريحات لـ”درب” إن “استغلال أي من إمكانيات الدولة في توسيع الرقعة الزراعية كفيل بتضييق فجوة عجز المحاصيل بشكل كبير، حتى ولو كان حل الفجوة بالكامل ليس سهلا”.
يضيف عبدالمولى “هناك العديد من الدراسات التي يمكن الاستفادة منها في تحقيق اكتفاء ذاتي من بعض المحاصيل، مما يضيق الفجوة الغذائية، وبالتالي يقلل من عملية الاستيراد التي تُهدر عملة صعبة نحن في أمس الحاجة إليها”.. وضرب الباحث مثلا بـ”الذرة الصفراء” قائلا “كان من الممكن الاستعاضة عن استيراد الذرة بالزراعة محليًا، نحن نستورد ذرة صفراء بنحو 2.3 مليار دولار، هذا المبلغ لو تم استخدامه في إحداث استراتيجية زراعية مختلفة عن الوضع الحالي كان يمكن أن تقل فجوة الغذاء”.
توجيه الإنفاق الحكومي نحو المشروعات العقارية جاء على حساب زيادة الرقعة الزراعية، وهذا ما أشار إليه عبدالمولى إسماعيل حين قال “المشكلة الحقيقة الآن لا تتوقف على الغذاء وإنما لدينا مشكلة في ميزان المدفوعات، والمديونيات، وسداد الأقساط، وهو الأمر الذي كان يستدعي استراتيجية مختلفة في التصنيع والزراعة على وجه التحديد وبالتالي سداد تلك المديونيات، لكننا الآن نقترض من أجل سداد القروض”.
🛑 قصة الموارد المائية ورؤية مختلفة لمحطات التحلية؟
يطرح الدكتور زهدي الشامي، الخبير الاقتصادي، سؤالا بديهيًا حين يقول “ما الأولى بأن يكون مشروعًا قوميًا.. عاصمة إدارية أم مشروع قوي للري والزراعة؟”.. ويجيب “”أولويات التنمية والإنفاق الحكومي هي الموضوع الذي يستأثر باهتمام المصريين بفضل ما يلاحظه الجميع من اختلال واضح للغاية في هذا المجال، معالمه عديدة، ولكن من أبرزها ما يسمى العاصمة الإدارية الجديدة وأخواتها من علمين جديدة وقطارات متنوعة”.
ويضيف الشامي “للأسف الشديد حاول الحكم في مصر الترويج لمثل تلك المشروعات العبثية التي لا يستفيد منها سوى قلة من المحاسيب، على أنها مشروعات قومية، في حين أنها لا تمت لكلمة قومية بشئ.. في الماضى كان المشروع القومي هو مشروع كالسد العالي، وهو بالفعل مشروع قومي ملهم، لأنه مشروع ينهض بمختلف مجالات الاقتصاد المصري من زراعة وطاقة وصناعة، نفس ما تفعله إثيوبيا اليوم بما تسميه سد النهضة الإثيوبي، والذى هو المضاد الموضوعي لسدنا العالى والذي يخشى بشدة أن يحيد تأثير سدنا العريق”.
يستكمل الخبير الاقتصادي “وفي ظل تلك الظروف المعلومة للكافة، هل كان من الرشد أن تتبنى السلطة الحاكمة كهدف قومي تلك المشروعات الترفية العقارية التبديدية كالعاصمة الجديدة، أم بالعكس تجعل من المياه والزراعة مشروع مصر القومي الأول، لمواجهة للمخاطر المحدقة بالنيل وتطويرا لأنظمة حديثة للترشيد المائى والتوسع الزراعي؟”يستكمل الشامي “من المؤسف أن الاختيار كان بالفعل للعاصمة الإدارية وأشباهها وبالدعاية الجوفاء للزراعة والري.. أنفقت الدولة على مشروعات العاصمة وأخواتها ما يقرب من ١.٥ تريليون جنيه، في حين كانت مخصصات الزراعة سنويا ما بين ٤٠ إلى ٨٠ مليار جنيه فقط، وتم الإعلان عن خطط وهمية لاستصلاح ٤ مليون فدان، فشلوا في تحقيقها، فخفضوا الرقم إلى ١.٥ مليون فقط، وفشلوا أيضا في تحقيقه.. فوفق بيانات وزارة الزراعة فإن المساحة المزروعة في عام ٢٠٢٠ وصلت إلى ٩.٤ مليون فدان في مقابل ٨.٩ مليون عام ٢٠١٤، أي كل ما تم استصلاح في تلك السنوات ٥٠٠ ألف فدان فقط، وبمعدل يقل عن ١٠٠ ألف فدان في العام”.
ويضيف “ويسألني البعض ماذا لو وجهت نصف الأموال التي أنفقت على العاصمة وأخواتها على للزراعة، كم فدانا كان يمكن استصلاحها؟ والإجابة واضحة.. نصف تلك المبالغ تعني حوالي ٧٥٠ مليار وبافتراض أن تكلفة استصلاح الفدان تصل حتى إلى ٢٠٠ ألف جنيه، كان بالإمكان استصلاح ٣.٧٥ مليون فدان بتلك المبالغ”.
ويستدرك “غير أن المشكلة ليست فقط مشكلة زراعة، بل قبلها مشكلة مياه.. ومن المؤسف أن وزراء الحكومة المصرية ببرروا وهللوا للخطة الدعائية الأولى لاستصلاح ٤ مليون فدان رغم عدم توفر المياه، بالزعم كذبا أن عندنا خزان للمياه الجوفية المتجددة يكفى لري تلك المساحة الكبيرة، وبالطبع كانت إثيوبيا تتلقف تلك التصريحات التبريرية الكاذبة للبرهنة على صحة موقفها في سد النهضة وأن مصر ليست عندها مشكلة في المياه، خلافا لحقيقة أن مصر دخلت بالفعل مرحلة الفقر المائي حيث بلغ نصيب المواطن ٥٦٠ مترا فقط سنويا وهو حوالي نصف حد الفقر المائي العالمي الذي يصل إلى ١٠٠ متر مكعب، وأن مصر تعتمد بنسبة ٩٧ % على مياه النيل”.
ويتابع الشامي “لهذا كان المفروض أن تكون قضية المياه ومنذ البداية هي القضية القومية الأولى في مصر، وللأسف هذا لم يحدث.. ويتضمن هذا قبل أي شئ الدفاع المبكر عن حصة مصر التاريخية في مياه النيل، وهى حصة لا يمكن لأي جهود أو استثمارات أخرى أن تعوض فقدها بأي حال من الأحوال.. ولكن للأسف تأخر الحكم في مصر وتراخى كثيرا في هذا الملف، حتى وصلنا لما نشاهده اليوم من فشل كبير، وفرض إثيوبيا أمرا واقعا بدون أي اتفاق أو التزام مع مصر، بما يهدد بتقليص حصة مصر السنوية البالغة ٥٥ مليار متر بمقدار ٢٠ مليار على الأقل وتلك كارثة كبيرة”.
ويتابع “كل المشروعات الأخرى في مجال المياه كان ينبغي البدء بها مبكرا ومنذ العام الأول، تعاونا مع دول النيل في تطوير المنابع، وتطويرا لنظم الري وتعظيما للاستفادة من المياه وخلافه، وكل هذا كما أسلفنا مهم جدا ولكنه عامل مساعد فقط بالمقارنة بالحفاظ على حقوقنا في مياه النيل”.
ويشدد الخبير الاقتصادي بالقول “يجب أن نعرف أن تلك المشروعات مكلفة جدا، وأن حصيلتها محدودة بالمقارنة بمياه النيل.. ووفقا لأرقام منشورة على لسان مسؤولين في الإسكان والري، فإن خطط تحلية المياه، والتي هي في الواقع خططا لمياه الشرب لا الزراعة تستهدف أرقاما بملايين وليس مليارات الأمتار، وهى تفيد أن المستهدف في مجال التحلية حتى عام ٢٠٥٠ يصل إلى ٦.٤ مليون متر مكعب في اليوم، أي حوالي ٢مليار متر فقط سنويا.. والمتوقع لمشروعات معالجة المياه يدور حول نفس الرقم ٦ مليون متر مكعب يوميًا.. أي أن تلك المشروعات المكلفة للغاية بما يصل لمئات المليارات من الجنيهات، لن تغطي سوى نسبة لا تزيد عن ٢٠% مما يمكن أن نفقده من مياه النيل التي كنا نحصل عليها مجانا”.
يختتم الشامي حديثه مع “درب” قائلا “يتبقى أن أقول أنه من المؤسف جدا أنه بينما تأخرنا في كل ذلك، وأهدرنا الأموال على ما لا ينبغى أن نوجهها له، فعندما قررت الحكومة إطلاق مشروع لترشيد استخدام المياه، والذي سموه مشروع تبطين الترع، كان بدوره هو المشروع الخطأ نتيجة لغياب الدراسات الجادة، وبعد أن رصدت له في عهد الوزير السابق مبلغ ٧٠ مليار جنيه لتبطين ٢٠ ألف كيلو من الترع، تبين أن هذا الأسلوب خاطئ فنيا لأنه تم بشكل غير مدروس وتعميم استخدام الأسمنت، وبعد أن تم تبطين حوالي ٦ آلاف كيلومتر، أعلنت الوزارة في عهد الوزير الحالي عن وقفه لإعادة الدراسة، بعد أن تبينت أخطاؤه الفنية الجسيمة.. الواقع مؤلم، والفهلوة والدعايات الجوفاء لا تجدي، ولابد من إعادة الاعتبار للدراسة الاقتصادية والفنية بمفهومها الصحيح وبشفافية وعلنية ومشاركة شعبية حقيقية”.
وللحديث بقية عن الفرص الضائعة.. لكن هذه المرة عن ملف التعليم