جسر الجواسيس .. أو كيف تصنع فيلما ً شديد الجودة بلا أى قيمة مضافة ؟
رؤية – عبد الله محمد
يقول المخرج الإيطالي “مايكل أنجلو أنطونيوني” أن لكل مخرج فيلم واحد يصنعه، صاحب ” Blow up” لا يقصد هنا فيلما واحداً بعينه وإنما يقصد روحا واحدة تتلبس جسد كل أفلام صناع السينما الكبار، أسلوبا بعينه أو تيمة محددة مفضلة، تدور في رحاها كل أو أغلب قصصه ، لدى ” مارتن سكورسيزي” يمكنك أن تلاحظ ذلك الهوس الخاص بإعادة قراءة التاريخ والشخصية الأمريكية، بصورة بعيدة عن التفخيم والنعرة الوطنية الزائفة، البطل العدمي الذي يواجه ركام التاريخ الوطني “الفاسد “، لدى ” تورنتاوري ” : الصغير الذي يرى العالم بعينه، وذلك العالم في تناصه بين الواقع المتخيل والواقع المعاش، هنا لدى الأمريكي الكبير ” ستيفن سبيلبيرج ” الرجل الذي غيّر وجه السينما في العقود الثلاثة الأخيرة، يمكن أن نتحدث عن تجاوز الرجل لتلك القاعدة ، تجاوزاً حميداً يعبر عن أهم ملمح في شخصيته السينمائية : التنوع والإجتهاد اللامحدود.
يمتلك ” سبيلبيرج” – 70 عاماً في ديسمبر القادم- في جبعة أعماله السينمائية قرابة الثلاثين فيلماً كمخرج، لا تنتمي كل هذه القائمة لفصيلة أو نوع بعينه وإنما تتنوع بين ثلاثة : الفيلم السياسي ومن أبرز أفلامه ” قائمة شندلر 1993″ ، فيلم المغامرات أو الـblockbuster الذي غالبا ما يعرض في صيف كل عام، مثل حديقة الديناصورات وهي أفلام جيدة الصنعة عالية التكاليف وكذلك الإيرادات، وأخيراً فيلم الخيال العلمي، وهي نوع وسيط بين النوعين حيث القصة الجيدة ووجهة النظر الجادة والصنعة المبهرة.
حسنا إلى أي نوع ينتمي فيلم اليوم ” جسر الجواسيس ” الذي عرض للمرة الأولى في ديسمبر 2015، ورشح لخمسة جوائز أوسكار؟ – الظاهر أن الفيلم ينتمي لفئة الأفلام السياسية حيث يسرد قصة واقعية قادمة من ستينيات الحرب الباردة، عن المحامي الذي يذهب في مهمة رسمية/غير رسمية للتفاوض من أجل استعادة بعض المقبوض عليهم من قبل سلطة الاتحاد السوفيتي، الفيلم الذي يبدو من طبيعة موضوعه سياسيا إلا أنه يتجاوز المنطق التقليدي للأفلام السياسية التي تطرح قضية تاريخية، فالأصل في الأمور أن تمنح فيلمك قصة تاريخية ليس فقط لأجل التأريخ وإنما كل مرادك من ذلك أن تصنع من تلك القصة وذلك الفيلم مرآه تعكس عبرها وجهة نظر معاصرة، تبدي فيها رأياً في الواقع عبر التاريخ، وبعيدا عن التأويلات التي يمكن أن تفسر أى قصة في أى سياق ، فما الذي يمكن أن نقرأه نحن فى العشرية الثانية من الألفينات من عمل يحكى قصة الحرب الباردة الأمريكية- السوفيتية، في عالم صعد فيه بقوة كيان اللادولة متمثلاً في تيار متشدد مثل تنظيم الدولة الاسلامية ” داعش”، عالم لم تكتف تطورات الفجوة الزمنية التى تفصله عن زمن أحداث الفيلم – قرابة النصف قرن – بأن تخلصت من العالم ثنائي القطب وانما تحولت لعالم متعدد الأقطاب، بل ربما انتهى من الواقع وبالتالي من رؤية صناع السينما بالضرورة مفهوم الدولة التقليدي .. نعود للسؤال : ما الذي يمكن أن نقرأه نحن الآن من عمل يحكى قصة الحرب الباردة الأمريكية- السوفيتية ؟
الحقيقة أن الإجابة الموضوعية التي يمكن ان نراها أنه لا شىء .. الفيلم يسرد قصة معلقة في فضاء التاريخ لا يوجد لها أى تماس فعلي وحقيقي بالواقع الذي نعيشه وهي ثغرة في محتوى الفيلم ومضمونه : قصة وسيناريو وتناول ورؤية إخراجية ، لا تعرف كيف مرت على أسماء ثقيلة بقدر سبيلبيرج والأخوين كوين، وهم من هم.
يفتقد السيناريو لنقاط جذب قوية لديها القدرة على إمساك ذهن المتفرج وجره لإكمال الفيلم دونما الوقوع في فخ الملل، فبعيداً عن الدقائق العشر الأولى التي نري فيها تفاصيل مكثفة عن المحامي التقليدي الذي تضطره الظروف للقيام بمهمة غير تقليدية، والخيطين الآخرين للطيار والطالب الذين وقعا في أسر المعسكر الأحمر في الاتحاد السوفيتي وألمانيا الشرقية، يقع الفيلم في فخ الممل عبر استسلام صناعه لشرح كل تفصيلاته عبر الحوارت المطولة.. ربما نجحت موهبة توم هانكس الذي حمل عبء الفيلم على كتفيه وحيداً في محاولة تجاوز تلك الثغرة، لكن الحقيقة التي لا فكاك منها أن فيلم يحمل هذه التوليفه المشجعة أسقطه السيناريو في تعقيدات كان يستطيع تلافيها بسهولة، وهو أمر محبط وغريب للغاية خاصة إذا ما وضعت طاقم العمل في محيط تقييمك للعمل.
وسط كامل من اللمسات الأخيرة المفتقدة يأتي ممثل المسرح البريطاني شبه المغمور ” مارك ريلانس” الذي قدم دور الجاسوس السوفيتي، الدور الصغير الذي كان يمكن له ان يمر مرور الكرام احتاج جهداً غير عاديا من ممثل مقتصد في حركاته لكنه “أنيق” بلغة الأداء السلس، فأنت تراه وهو يكرر أمام الشاشة جملته المفتاحية : ” وهل سوف يفيد ذلك؟” في إشارة حوارية مميزة تعبر عن حالته التي تبدو للسطح غير مبالية، بينما هو من الداخل يستعر بأفكار معقدة ومتراكبة، والذكاء المضاعف أيضاً، ربما على الورق أيضاً يحسب للسيناريو براعته الشديدة في رسم تفاصيل شخصية ” رودلف أبل / الجاسوس السوفيتي” والتي كانت على عكس مباشرة شريط الفيلم، شديدة القوة والتكثيف فالرجل الذي يبدو عليه عدم القلق يمنحك احساس بأنه لا يشعر بالفارق الضخم بين سجن في الولايات المتحدة وحرية في الاتحاد السوفيتي، وهي رسالة ذكية ومبطنة من السيناريو، وفي حين انه يرفض خيانة بلده بالتعاون مع جهاز المخابرات الأمريكي، فهو كذلك يرغب في العودة لأرضه الأم لا لدواعي وطنية بقدر ما دفعه لذلك رغبته في البقاء جوار أسرته، وهو مدخل قوي لشرح طبيعة لعبة الكبار السياسية ومدي ” هرسها ” للإنسان العادي أيا كانت جنسيته أو لغته.
سبيلبرج هو الآخر ليس في كامل لياقته، ربما الرجل الكبير الذي أصبح صانع للأفلام في إطار المنتج الفني أكثر منه مخرج، لم يقدم عملاً مؤثراً لسنوات طويلة، لكن هذه المرة أضاع صاحب ” قائمة شندلر” على نفسه فرصة جيدة لاستعادة الطريق مرة أخرى، المخرج أداوته كثيرة : إدارة ممثل، حجم لقطات، ايقاع هو مسئول عنه مع المونتير، وأحد أهم هذه الأدوات هو “الحالة العامة ” للفيلم ، أو كما يسمي فى الدارج ” المود Mode” الخاص بالعمل ، الحالة التي تصبغ كل شىء وتمنح ملامحه خصوصية وتفرد ما، على سبيل المثال ، التتابع الأول في الفيلم هو تتابع القبض على الجاسوس السوفيتي وقد تم تنفيذه جيداً وتقطيعه مونتاجياً باحترافية عالية للغاية، لكن اللمسة الحقيقية التي منحت للتتابع قوته هي اختيار سبيليبرج أن تدور مشاهد التتابع دونما موسيقي تصويرية أو مؤثرات على شريط الصوت، وهو ما منح للمقطع قوة مضاعفة، لكن الحقيقة المرة أن ما بدأه المخرج لم يكمله فـ تاه الفيلم وسط مشاهد تقليدية بروح مكررة وجمل سينمائية شبيهة بنظيرتها في معظم الأفلام شبه الدعائية التي قدمت للترويج لأمريكا في فترة الحرب الباردة .