بيوت بلا سكان.. وسكان يبحثون عن بيوت| فخّ الأسمنت: لماذا لا يكفي «راتب كامل» لاستئجار شقة في عواصم العرب؟

كتب – يحيى الجعفري

بينما ترتفع ناطحات السحاب لتخترق السماء، وتتوسع رقعة المدن العربية بشكل أفقي ورأسي مذهل، تضيق الخيارات أمام المواطن البسيط للحصول على حقه في أمتار قليلة يسكنها، على نحو غير مسبوق. ففي دراسة مقارنة بين ثلاثة نماذج عربية (مصر، تونس، ولبنان)، ومقارنتها بدول الاتحاد الأوروبي، أظهرت الأرقام حقيقتها القاسية؛ إذ تحوّل السكن الآدمي من حق إنساني أصيل إلى أمنية، بل إلى رفاهية مستحيلة المنال للجيل الحالي.

الأزمة هنا لم تعد أزمة نقص في المساحات أو الجدران، بل “خلل بنيوي في توزيع الثروات وملكية العقارات”.

لغة الأرقام: سريالية الدخل في مواجهة الواقع العقاري

في مصر، ووفقاً لقاعدة بيانات Numbeo العالمية لعام 2025، يعيش المواطن فجوة سعرية غير منطقية؛ إذ يتراوح متوسط صافي الدخل الشهري بين 150 و220 دولار، بينما يبدأ إيجار شقة متواضعة في محيط القاهرة من 150 دولار، ليصل إلى 250 دولار في المناطق الحضرية الحيوية.

ما يعني أن الموظف يحتاج إلى إنفاق 100% من راتبه — وربما أكثر — لتغطية تكلفة السكن فقط، دون احتساب فواتير الكهرباء أو الغذاء أو الرعاية الصحية، مما يجعل العيش المستقل ضرباً من الخيال المالي؛ فإما أن تسكن، أو تأكل، أو تهتم بصحتك.

أما في لبنان الجريح، وبحسب تقارير البنك الدولي ومركز الدولية للمعلومات، فقد تحوّل السكن إلى أزمة «وجودية».. إذ أصبحت الإيجارات، كسائر المعاملات، قائمة على الدولرة، وتُطلب بالدولار النقدي (Fresh Dollars)، بمتوسط 400 دولار كحد أدنى، في وقت لا تزال فيه رواتب القطاع العام وجزء كبير من القطاع الخاص تترنح دون حاجز 300 دولار، مما خلق حالة من الاغتراب السكني القاسي للمواطن داخل وطنه.

رصد تاريخي: عقدان من الانفجار السعري (2005 – 2025)

لم تكن الأمور دائماً على هذا النحو، فبالرجوع إلى بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (CAPMAS) في مصر، نجد أنه في عام 2005 كان متوسط راتب الموظف في الطبقة المتوسطة يغطي إيجار الشقة بنسبة لا تتجاوز 30% من الدخل، وهي النسبة المثالية والآمنة عالمياً.

ومع حلول عام 2015، بدأت الضغوط التضخمية وتحرير أسعار الطاقة ترفع هذه النسبة، لتلتهم نحو 50% من الدخل.

وبالوصول إلى عام 2025، نجد أن أسعار الإيجارات قفزت بنسبة تفوق 1000% مقارنة بما كانت عليه قبل عشرين عاماً، بعدما فقدت العملة المحلية جزءاً كبيراً من قوتها الشرائية نتيجة موجات التعويم المتتالية، التي أعقبت تنفيذ سياسات صندوق النقد الدولي.

كان من الممكن قبول هذا الواقع لو رافقته زيادة مماثلة في الأجور، لكن هذا الانفجار السعري لم يقابله نمو حقيقي في الدخل، مما أدى إلى انزلاق فئات واسعة من الطبقة المتوسطة نحو مناطق ضعيفة الخدمات، فارتفعت أسعارها بدورها، واضطر الأضعف مادياً إلى العودة قسراً للسكن العائلي. وهو تدهور تاريخي في جودة الحياة لم يشهد الجيل السابق له مثيلاً.

لغز الشقق الشاغرة: لمن تعود ملكية «مدن الأشباح»؟

يتجلى التناقض بأوضح صوره عند النظر إلى أعداد الوحدات السكنية التي تقف خاوية. ففي تونس، كشف التعداد العام لعام 2024 الصادر عن المعهد الوطني للإحصاء (INS) أن نسبة المساكن الشاغرة بلغت 19.3%، أي ما يعادل أكثر من 826 ألف مسكن غير مستغل.

وفي القاهرة، تُظهر بيانات مرصد العمران أن نسبة الشقق الشاغرة في الأحياء القديمة تتراوح بين 33% و39%، بينما تقفز في المدن الجديدة — مثل القاهرة الجديدة وبدر — إلى مستويات صادمة تتراوح بين 70% و85%.

وتعود ملكية هذه الملايين من الشقق المغلقة إلى ثلاث فئات رئيسية تحرك السوق من الظل:

1. المستثمرون الأفراد والمغتربون:

   يستخدمون العقار كـ«ذهبٍ أسمنتي» لحماية مدخراتهم من تذبذب العملة، ويفضّلون تركه «على الطوب» دون تأجير، لتجنب استهلاك المرافق أو الدخول في نزاعات قانونية مع المستأجرين، خاصة في ظل التراجع الحاد لقيمة العملة خلال السنوات الأخيرة.

2. كبار المطورين العقاريين:

   يمتلكون مخزوناً ضخماً من الوحدات الفاخرة الموجهة إلى فئات تمثل أقل من 5% من المجتمع، مما يخلق فائضاً هائلاً في العرض «الفاخر» مقابل عجز حاد في «السكن الميسور».

3. وحدات الإيجار القديم:

   مئات الآلاف من الشقق المعطلة في أرقى أحياء العاصمة، نتيجة قوانين تاريخية أفرزت حالة جمود كاملة، حيث يفضّل الملاك إغلاقها على تأجيرها بأسعار زهيدة لا تتماشى مع الواقع التضخمي.

مفارقة العواصم: الفوارق الهيكلية مع الاتحاد الأوروبي

عند مقارنة هذه الأرقام بدول الاتحاد الأوروبي، تتضح فجوة عميقة في مفهوم «أمن السكن». فبحسب بيانات Eurostat لعام 2025، يعاني المستأجر في ألمانيا أو النمسا من ارتفاع الأسعار، إلا أن الإيجار لا يزال يدور في فلك 30% إلى 35% من متوسط الدخل القومي.

الفارق الجوهري أن الأزمة في أوروبا هي أزمة “ندرة معروض”؛ إذ لا تتجاوز نسبة الشقق الشاغرة في برلين مثلاً 1.5%.. أما في العواصم العربية، فالأزمة هي أزمة “حبس معروض”.

فبينما تتدخل بلدية فيينا بامتلاكها وإدارتها لنحو 60% من الوحدات السكنية لضبط الأسعار وضمان العدالة، تُترك الأسواق العربية رهينة للمضاربات العقارية، مما حوّل الشقة من خدمة اجتماعية أساسية إلى «سلعة استثمارية» تدر أرباحاً للملاك وتستنزف المستأجرين.

الآثار الاجتماعية والنفسية: مجتمع تحت الضغط السكني

أدى هذا العجز السكني إلى تحولات دراماتيكية في البنية الاجتماعية العربية.. فقد أصبح تأخر سن الزواج نتيجة حتمية ومباشرة، إذ يقضي الشاب ربما عقداً أو أكثر من عمره المهني في محاولة توفير مقدم شقة أو تأمين مبالغ الإيجار.

كما انتشر نمط “السكن التشاركي (Roommates)” بين موظفين في الثلاثينات من أعمارهم، بعدما كان يُنظر إليه سابقاً كخيار طلابي مؤقت، ليغدو اليوم ضرورة للبقاء، إضافة إلى العودة إلى سكن الأسرة الممتدة، كما رصد الباحثون.

علاوة على ذلك، تنامت معدلات «القلق السكني»، وهو شعور دائم بعدم الأمان والخوف من الطرد أو العجز عن سداد الزيادات السنوية، بما يهدد الإنتاجية الفردية والتماسك الأسري.

نحو سياسات إسكانية عادلة

إن الهوة بين الدخل وإيجارات السكن في العالم العربي ليست أزمة عقارية عابرة، بل قنبلة موقوتة تهدد الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي على المدى الطويل. نحن أمام واقع سريالي تختصر مأساته عبارة واحدة: “بيوت بلا سكان.. وناس بلا بيوت”.

الحل لا يكمن في تشييد المزيد من الكتل الأسمنتية، بل في تفعيل سياسات ضريبية تصاعدية على المستثمرين لدعم الإسكان، وطرحه بأسعار مناسبة لمن يحتاجه، سواء عبر الإيجار أو التمويل العقاري الميسر، مع إصلاح قوانين الإيجار بما يضمن حقوق الطرفين، وتوجيه الاستثمار الحكومي نحو “السكن الاجتماعي الحقيقي” بدلاً من التوسع في المنتجعات الفاخرة.

ومن دون تدخل سيادي حاسم، سيظل «السقف» حلماً مستحيلاً يستنزف أعمار ودخول الشباب العربي، ويحوّل المدن إلى كتل من الأسمنت الخالي من الروح، وربما يسقط هذا السقف يوماً على رؤوس من لا يزالون يدعون الله أن يجدوا مسكناً آمناً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *