بعيون رفيقة دربه.. خيرية شعلان عن رجائي الميرغني صاحب السيرة التي لا يغيبها الرحيل: ألقاك في كل التفاصيل التي أحببتها معك
“مرت الأيام سريعا منذ أن انتزعك من بيننا الموت بلا مقدمات، ربما لكي لا يكون بيننا سوى اللقاء، لقد اقتربنا بقسوة من موعد الرحيل، لكني ألقاك في كل التفاصيل التي أحببتها معك، وفى كل الزوايا العميقة للأشياء، وفي الأسماء والوجوه والكلمات، حتي القضايا الخاصة والعامة التي عشتها معك وحولك، وأسهمت في صياغتها والعناوين التي صارت حقائق صنعتها بكل ما أوتيت من طاقة على العطاء كلها تعبر أمامي لتقول لي: أنك هنا، لا تحزني إن رجائي حولنا ومعك، غادر بالجسد لكن الروح لم تزل تملأ المكان حياة وحيوية وصخب”.
ما تزال الكاتبة الصحفية الكبيرة خيرية شعلان بأن زوجها المناضل الصحفي والقيادي النقابي الراحل رجائي الميرغني، توقن أن حضور رفيق دربها باق رغم الغياب، يراها رغم افتراق الأزمنة والعوالم، مع مرور العام الثاني على رحيله في مثل هذا اليوم من عام 2020، تاركا وراءه إرثا لا يغيبه الرحيل.
تكتب خيرية يوميا لرجائي منذ رحيله، تراه في كل شيء: “ستظل ضوء باهرا ينبعث من ثنايا الذكريات، حاضرا بيننا تسقى زهورنا التي أنبتناها معا في البشر والشجر وحتى في الجماد، وبالمحبة والحكمة التي غرستها فينا عند وضع كل نبتة في موضعها”.
تخاطبه في ذكرى “يوم الحزن الكبير”: “إلى روحك التي عايشتها عبر مشوار حب ملأ الواقع والخيال بحيويتك وصدقك مع نفسك والناس والحياة، في ذكراك الثانية، كنت لي وطنا لم يغادرني أبدا، وإلهاما امتلك قلبي فصار كفراشة تعشق النور، وطائر فينيق ينبعث من تحت ركام الحزن والغياب معلنا وجودك المتجدد بيننا، روحا ثورية، عزما فتيا، ضميرا حيا، عقلا سويا وقلبا مخلصا وفيا، اهنأ بخلودك وروحك الطيبة”.
كان رحيل الميرغني في الثالث من شهر يونيو قبل الماضي صادما للكثيرين من أبناء المهنة وأحبابه وأصدقاء مشواره النضالي وتلاميذه، لكنه بالتأكيد كان أكثر وقعا على رفيقة دربه، التي كتبت في اليوم الأربعين لوفاته: “أربعون يوما مضت علي رحيلك يا رجائي، يا حبيبي وزوجي ومعلمي، أربعون يوما أتجرع الحزن وألم الفراق، أربعون يوما بكاك كل من عرفك حتي الجماد”.
“مازال صوتك يملأ أرجاء المكان، وبقايا أحاديثك لنا كيف نحب الحياة، وخطو قدميك وأنت تمشي الهوينا بلا صخب أو ضجيج، حتى أوراقك وأقلامك ورسوماتك وجريدة الصباح ما يزالون ينتظرونك لتطل عليهم كما عودتهم كل يوم بلا انقطاع، شريط طويل من الذكريات يمر أمامي كل يوم ، وحشتني يا أبو العيون الحنينة مليانة ابتسامة ويا أبو قلب نابض بالصدق والتسامح وعقل نابه ٱمن بأسمي المبادئ ولم يتخل يوما عما آمن به”، تكتب خيرية.
وتضيف: “وحشتني هدهدتك للأحفاد واللعب معهم، وحشتني رباعياتك وقهوتنا التي كنت تصنعها بنفسك، وبرامجنا اليومية وهوايتنا المشتركة، ولمساتك الفنية في كل ركن في بيتنا، لم تخلف لنا وعدا قطعته يوما، لكنك استعجلت الرحيل، نم يا حبيبي في سلام أينما كنت، سأظل أخت روحك وملاكك الحارس؛ ذلك اللقب الذي شرفتني به منذ توافق قلبينا علي الحب .. أما أنت فستبقي كما كنت ملء القلب والعين والروح”.
في 7 يونيو 2021، وبعد 4 أيام من الذكرى الأولى لرحيله، كتبت في صحيفة المصرية اليوم، تحت عنوان ” محطات فى حياة رجائى الميرغنى”:
لم يكن رجائي الميرغنى مجرد كاتب صحفى قدير رغم ثراء محطاته فى هذا المجال، فقد تنوعت هذه المحطات بين جولات مهمة فى الذود عن المهنة واستقلالها وخاض فى سبيل ذلك جولات وجولات، وفوق هذا كان إنسانا متجردا متفردا فى رقيه وإنسانيته مع الجميع، وكان زوجا وأبا وصديقا استثنائيا وبارا، جسد كل المعانى الراقية فى هذا السياق. وفى ذكرى رحيله يدفعنا الأمر لاستحضار سيرته ومسيرته والمحطات الفارقة فى حياته ونبدأها من الجذور.. فهو مولود فى المنيا فى 25 سبتمبر 1948 لأسرة وطنية لها دور بارز فى تاريخ مصر، حيث كان والده الشيخ محمد الميرغنى واحدا من قادة ثورة 1919 بمحافظة المنيا واختير عضوا فى اللجنة الوطنية التى أدارت شؤون بندر المنيا أثناء أحداث الثورة، وخاض الميرغنى الكبير انتخابات مجلس النواب وتصدر الدعوة إلى الأفكار الاشتراكية ضد الفقر والجهل والمرض بالمحافظة، وكان شديد الإيمان بالوحدة الوطنية فكان يلقى خطبه فى الكنائس والمساجد على السواء، كما حصل على شهادة العالمية من الأزهر الشريف فى 3 فبراير 1938 وعمل محاميا شرعيا بعد الحصول عليها.
تخرج رجائى الميرغنى من قسم الصحافة بجامعة القاهرة عام 1970 بتقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف. وكان من المشاركين فى الحركة الوطنية للطلاب منذ تفجرها فى فبراير 1968 وعمل محررا بقسم الأخبار بوكالة أنباء الشرق الأوسط عام 1970، وتنقل بين مختلف إدارات التحرير، وتخصص فى الشؤون الفلسطينية والعربية، عمل نائبا لرئيس التحرير بوكالة أنباء الشرق الأوسط عتبارا من 2007 والمسؤول عن شبكة المراسلين للوكالة داخل مصر وخارجها حتى 2013، وكان أثناء فترة تجنيده فى القوات المسلحة من عام 1972 حتى 1975 قد شارك فى حرب أكتوبر، وقاتل ضمن صفوف اللواء 16 مشاة معركة «المزرعة الصينية» بالدفرسوار، والتى تكبد فيها العدو خسائر فادحة فى الأرواح والمعدات، وأصيب بشظية مدفعية خلال هذه المعركة، وعاد لأرض المعركة مرة أخرى بعد تضميد إصابته.
فى فترة عمله فى الوكالة قاد مع زملائه حملة رفض إلحاق الوكالة بوزارة الإعلام عام 1984، والتى انتهت بإعلان الحكومة تخليها عن هذا المخطط ثم عمل مديرالمكتب وكالة أنباء الشرق الأوسط فى العاصمة اليمنية صنعاء خلال الفترة من 1988 إلى 1992، وكان قد دخل معترك العمل النقابى منذ عام 1980 وشارك فى معارك الدفاع عن حرية الصحافة واستقلال النقابة وقد انتخب عضوا فى مجلس نقابة الصحفيين لدورتين متتاليتين لمدة 8 سنوات بدءا من عام ١٩٩٥ وحتى عام ٢٠٠٣، فكانت الدورة الأولى من 1995 – 1999، حيث تميز بإسهامه الفكرى والقانونى فى التصدى لقانون اغتيال حرية الصحافة «93» لسنة 1995، كما شغل منصب وكيل أول مجلس النقابة خلال الدورة من عام ١٩٩٩ وحتى 2000 واختير وكيلا أول للنقابة ورئيسا للجنة القيد.
أسهم ضمن لجنة صحفية قانونية ضمت الأساتذة أحمد نبيل الهلالى والمستشار سعيد الجمل والدكتور نور فرحات وحسين عبدالرازق ومجدى مهنا فى صياغة إعداد «مشروع قانون الصحافة» فى مواجهة مشروع القانون الحكومى إبان أزمة «القانون 93» وقد شارك مع صلاح الدين حافظ وحسين عبدالرازق فى صياغة مشروع ميثاق الشرف الصحفى الذى أقرته الجمعية العمومية فى يونيو 1996.
تولى مسؤولية الحفاظ على تراث النقابة من الدوريات التى يرجع بعضها لزمن الثورة العرابية وكذلك الكتب القديمة والتاريخية التى ضمتها مكتبة النقابة، وقام الميرغنى بمساعدة أساتذة من كلية الفنون الجميلة بفك ونقل جدارية الفنان فتحى محمود التى كانت تزين مدخل مبنى النقابة القديم، وصيانتها والحفاظ عليها بالمقر المؤقت للنقابة بالأزبكية حتى تم إعادتها إلى المبنى الحالى وتركيبها فى قاعة الاجتماعات الرئيسية بالدور الرابع بالنقابة، وأسهم فى تطوير إجراءات القيد واعتماد معايير موضوعية للعضوية والتى كانت تعتمد على أساليب غير مناسبة للقيد بهذه النقابة العريقة وكان أبرزها نظام الكوتة فى اختيار الأعضاء بديلا عن المعايير المهنية والصحفية السليمة، وشارك فى لجنة الإشراف على إنشاء واستلام مبنى النقابة الجديد، وتحديث النظام الإدارى والخدمات المقدمة للأعضاء، أسهم فى أعمال اللجنة المكلفة بإعداد مشروع قانون إلغاء العقوبات السالبة للحرية فى جرائم النشر التى أشرف عليها الدكتور أسامة الغزالى حرب ورأسها المستشار عوض المر رئيس المحكمة الدستورية الأسبق.
اختير رجائى الميرغنى أمينا عاما مساعدا للجنة الدائمة للحريات بإتحاد الصحفيين العرب عام 2001، وحصل على ميدالية الاتحاد فى يوبيله الذهبى تقديرا لجهوده كما اختارته اللجنة التحضيرية للمؤتمر العام الرابع للصحفيين برئاسة النقيب جلال عارف أمينا عاما للمؤتمر، بمشاركة النشطاء من الجمعية العمومية خلال الفترة من 23-25 فبراير 2004 وكان من أهم المؤتمرات العامة للصحفيين بما خلص إليه من نتائج وأبحاث ودراسات كانت الأولى فى تاريخ هذه المؤتمرات. كما شارك فى المؤتمر التأسيسى للمنظمة العربية لحرية الصحافة الذى عقد فى لندن عام 2000. واختارته لجنة تفعيل ميثاق الشرف الصحفى مقررا لأعمالها فى يونيو 2007 وأعد كتاب «الصحفيون فى مواجهة القانون 1993» الذى صدر عن مؤسسة دار الهلال. نشر عام 2005 كتاب «نقابة الصحفيين» ضمن سلسلة النقابات المهنية التى يشرف عليها مركز الدراسات الاستراتيجية بمؤسسة الأهرام، وقد كرمته الجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة المجتمعية ضمن 34 شخصية عامة أسهمت فى تعزيز جهود التحول الديمقراطى خلال العقد الأول من الألفية الثالثة (2010)، وفى ديسمبر 2014 حصل الميرغنى على درع الشهيدة ميادة أشرف لـ «حرية الصحافة» من الاتحاد العربى للصحافة الإلكترونية بالتعاون مع نقابة الصحفيين الإلكترونى فى ختام أعمال المنتدى الرابع للصحافة الإلكترونية تقديرًا لجهوده فى العمل الإعلامى ومناصرة الحريات، وأهدته جامعة الأهرام الكندية درعها عام 2013 عن دوره فى الدعم الإكاديمى لطلاب كلية الإعلام بالجامعة. شارك فى مراجعة ومناقشة العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه فى الجامعات المختلفة وكلية الإعلام بجامعة القاهرة، واختارته نقابة الصحفيين كمحكم فى مسابقات التميز الصحفى لسنوات طويلة لعدد من فروع المهنة وحظيت ملاحظاته بالإسهام فى تطوير لائحة تنظيم المسابقة.
نال الميرغنى العديد من الأوسمة والدروع وشهادات التقدير من مؤسسات وهيئات مدنية وصحفية لدوره البارز فى أنشطة المجتمع المدنى المتصلة بقضايا حرية التعبير والصحافة وتطوير الإعلام وتكريما لمشواره النقابى والصحفى المتميز وانحيازه لحرية الصحافة والدفاع عن حق التعبير والنشر.
تولى الميرغنى منصب المنسق العام للائتلاف الوطنى لحرية الإعلام الذى شارك فى تأسيسه فى أعقاب ثورة 25 يناير (إبريل 2011) لتجميع وتنسيق جهود منظمات مجتمع مدنى، وناشطون إعلاميون مهتمون بتطوير الإعلام المصرى على قاعدة الاستقلال عن مختلف أشكال التبعية والاحتواء الحكومى والسياسى والاقتصادى.
أعد خطة فى سنة 2012 مفصلة لإنشاء هيئة وطنية للتنظيم الذاتى للصحافة ووسائل الإعلام المصرية بالتنسيق بين نقابة الصحفيين ومكتب اليونسكو بالقاهرة، وتعد الأولى فى مجالها فى مصر، لإيمانه بضرورة تكوين هيئة مستقلة للإعلام غير تابعة للدولة.
لقد كان الميرغنى شخصية موسوعية تميز بجانب نبوغه المهنى والصحفى بإبداعات فى مجال الشعر «الرباعيات» وكتابة القصة «أكتوبر» وممارسة النقد الأدبى، وله العديد من المقالات فى هذا المجال، وله العديد من اللوحات فى الفن التشكيلى والرسم الجرافيتى داوم على إبداعها رغم انشغالاته، كما وثق لتجربته الثرية بمشاركته فى حرب أكتوبر 1973 فى عمل روائى طويل إلى أن غيبه الموت عنا فى 3 يونيو 2020. تاركا فراغا كبيرا على كافة المستويات لكنه ترك وراءه آثارا وسيرة غنية تواصل حضورها. لقد كان رجائى الميرغنى فكرة والفكرة لا تموت.