انفراد| القصة الكاملة لتحرر الرهائن المصريين في السودان.. تفاصيل احتجازهم القسري والمعاناة ومواجهة الموت: حكايات الألم والصمود بين جدران مجهولة
كتبت – أميرة الطحاوي
في قلب الخرطوم المشتعلة، حيث تتلاشى ملامح الحياة خلف أزيز الرصاص ودوي القذائف، قبع رجالٌ خلف جدران منسية، لا يعرفون إن كان الغد سيحمل لهم الحرية أم سيفتح عليهم أبواب المجهول.. لم يكونوا جنودًا في معركة، ولم يحملوا سلاحًا في صراع، لكنهم وجدوا أنفسهم أسرى حربٍ لم يخوضوها، محتجزين في زنازين لم تكن سوى محطات انتظار للمجهول.
على مدار شهور من الاعتقال، مضي كل يوم وهو يحمل معه وجعًا جديدًا لوجوه شاحبة أرهقها الخوف، وعيون تترقب نافذةً تُفتح، علّها تحمل خبراً يُعيد إليهم الأمل. هناك، حيث امتزج صوت القصف بصراخ المعذبين، وحيث كان الجوع أقسى من القيود، ظل هؤلاء الرجال يقاومون بشيء من الصبر، وكثيرٍ من الإيمان بأن ليل المحنة مهما طال، فإن للفجر موعدًا لا يُخطئ.
عددٌ من المصريين الذين أُفرج عنهم مؤخرًا بعد احتجازهم في السودان منذ عام 2023، كشفوا لـ”درب” أن قرار إخلاء سبيلهم صدر في 21 يناير الماضي، إلا أنهم تُركوا بالقرب من موقف حافلات في شرق النيل، حيث صادفهم عدد من العسكريين التابعين للجيش السوداني.
وكانت قوات الدعم السريع قد احتجزت مجموعة من العمال والتجار والمهندسين المصريين في فترات متفرقة خلال شهور أبريل ويونيو وأغسطس 2023، بعد اندلاع القتال في السودان. وقد ظل المحتجزون قيد الاعتقال القسري في عدة معسكرات، حيث استُخدموا كرهائن، فيما لقي ثلاثة منهم على الأقل مصرعهم خلال فترة الاحتجاز. وفي 6 مارس الجاري، أُعيد المفرج عنهم إلى مصر على متن طائرة، بترتيب من القنصلية المصرية بالتنسيق مع حكومتي القاهرة والخرطوم.
- تفاصيل الاعتقال والإفراج
أفاد أربعة من المفرج عنهم أن أسماؤهم أُدرجت في قوائم لإطلاق سراحهم أثناء احتجازهم داخل أحد المعتقلات بحي الرياض في الخرطوم، وكان من المفترض أن يتم الإفراج عنهم بوجود مندوب، لكن عدم توفر وسيلة نقل حالت دون تنفيذ القرار، ليبقى ثمانية منهم قيد الاحتجاز. في الوقت ذاته، تمكن اثنان آخران من مغادرة المعتقل بعد دفع عائلاتهم مبالغ مالية تُقدر بـ 40 ألف دولار، مع وعود بتحويل مبالغ إضافية لاحقًا وتأمين حافلة لنقل بقية المعتقلين.
وأوضح المفرج عنهم أنهم تعرضوا لضغوط نفسية كبيرة داخل المعتقل، حيث كانوا يتلقون تهديدات مستمرة من عناصر الدعم السريع لدفع الفدية، قائلين لهم: “ادفعوا وإلا ستطول مدة احتجازكم”. كما ذكروا أنهم سُمح لهم في وقت لاحق بالتواصل مع مسؤول في السفارة المصرية عبر هاتف أحد الضباط في المعتقل.
وبحسب شهادات المحتجزين، فإن أكثر ما عانوا منه خلال فترة اعتقالهم هو سوء التغذية، والتعذيب الجسدي، والضرب العشوائي، حيث كانوا يُعاقبون جماعيًا عند وقوع أي حادث، وقال أحدهم: “كانوا يضربون الجميع بلا سبب.. وكنا نتساءل: أين كنتم طوال الـ 18 شهرًا التي قضيناها في هذا الجحيم؟”.
- أماكن الاحتجاز والتنقلات القسرية
طوال فترة احتجازهم، نُقل المعتقلون بين عدة مواقع، أبرزها رئاسة استخبارات الدعم السريع: مبنى قريب من مقر الجامعة العربية المفتوحة، حيث احتُجزوا منذ 18 يونيو 2023 حتى 5 مايو 2024، عنبر في مبنى جنوب جهاز الأدلة الجنائية بحي الرياض: قضوا فيه تسعة أشهر، سجن سوبا: أُعيدوا إليه لمدة 16 يومًا، وخلال هذه الفترة، تعرض خمسة منهم لتعذيب وصفه أحدهم بأنه “تشريفة وصول”، دون ذكر مزيد من التفاصيل المهينة، مقر احتجاز في الكلاكلة شرق: نُقلوا إليه ليوم واحد فقط، مبنى سكني في الرياض: أمضوا فيه يومًا واحدًا قبل الإفراج عنهم.


- الاحتجاز وسط القصف والمعارك وتفاصيل صادمة
أحد المفرج عنهم وصف الظروف القاسية التي عاشوها داخل المعتقل، مشيرًا إلى أن الدعم السريع كان يستخدم المدفعية الثقيلة والراجمات في قصف مواقع الجيش السوداني، بينما كانت الطائرات المُسيّرة والقذائف المضادة ترد من الجانب الآخر، مما تسبب في سقوط القذائف داخل مقر الاعتقال نفسه. وأكد أن أحد المحتجزين، ويدعى ماجد معوض، أُصيب بشظية خلال عمليات القصف، فيما كان الجميع يعيشون في حالة رعب يومي.
وذكر المحتجزون أنهم أُبلغوا عدة مرات بقرار الإفراج عنهم، لكن التنفيذ كان يتأجل في كل مرة، حتى أنهم اضطروا ذات مرة للاستحمام وارتداء ملابس نظيفة استعدادًا للمغادرة، إلا أنهم أُعيدوا إلى داخل المعتقل من بوابته.

وفي إحدى الحوادث الخطيرة، تعرض أحد المحتجزين، ويدعى محمد شعبان، لاعتداء وحشي من قبل أحد أفراد الدعم السريع يُدعى فضل، وهو ابن عم القيادي في الدعم عيسى بشارة. استخدم فضل سيفًا حديديًا لضرب شعبان، مما أدى إلى كسر مفصل إصبعه، وسط حالة من الفوضى والذعر داخل المعتقل. وقال أحد الشهود: “كان شعبان يحلق رأس زميله عندما دخل فضل فجأة وانهال عليه ضربًا.. كاد أن يقتله”.

على إثر هذا الحادث، قررت قيادة الدعم السريع ترحيل المصريين المحتجزين حفاظًا على حياتهم، حيث نُقلوا إلى سجن سوبا، حيث تعرضوا لجولة جديدة من الترهيب والعنف، قبل أن يتم الإفراج عنهم نهائيًا في فبراير.
- شهادات مؤلمة عن المعاناة
أكد المفرج عنهم أن ظروف الاعتقال كانت بالغة السوء، سواء من ناحية نقص الطعام أو المعاملة القاسية التي تعرضوا لها. وأحدهم وصف المشهد الأخير قبل مغادرتهم الخرطوم، قائلاً: “من خلف زجاج الحافلة، رأينا الدمار الهائل الذي لحق بالعاصمة.. لم نصدق أننا سنغادر أخيرًا بعد كل ما مررنا به”.
وأشار آخر إلى أن بعض المحتجزين السودانيين كانوا يُعاملون بعنف أشد، وقال: “كان هناك شبان في سن 15 عامًا يحملون رتبًا عسكرية، وكانوا شديدي العنف مع بعض المعتقلين السودانيين مقارنة بنا”.
أفاد أحد المحتجزين المصريين في السودان بأن مقر احتجازهم كان يقع بالقرب من مواقع مدفعية ثقيلة وراجمات تابعة لقوات الدعم السريع، والتي كانت تشن قصفًا مكثفًا على مقر القيادة، بينما كان الجيش السوداني يرد بهجمات باستخدام الطائرات المسيرة والراجمات، ما أدى إلى سقوط القذائف داخل فناء المعتقل. وأوضح أن أحد زملائهم، ويدعى ماجد معوض، أصيب بشظية نتيجة القصف، في حين عانى جميع المعتقلين من حالة رعب يومية بسبب الاشتباكات المستمرة.

وعلى الرغم من صدور قرار بالإفراج عنهم في 21 يناير، فقد تنقل المحتجزون المصريون بين عدة أماكن احتجاز، حيث قضوا 16 يومًا في سجن سوبا، حيث تعرض خمسة منهم لتعذيب شديد، وصفه أحدهم بأنه “تشريفة وصول”، قبل أن يُنقلوا إلى مركز احتجاز في الكلاكلة شرق ليوم واحد، ثم إلى مقر سكني في حي الرياض ليوم إضافي.
يروي أحد المحتجزين أنه في أحد الأيام نادى عليهم أحد العسكريين، وأخذوا أسمائهم بترتيب الأكبر سنًا، وأبلغوهم بقرار الإفراج عنهم، إلا أن التجربة كانت مألوفة لهم، حيث سبق أن تم إبلاغهم عدة مرات بأمر الإفراج، وفي إحدى المرات طُلب منهم الاستحمام وارتداء ملابس نظيفة، فقط ليعادوا من بوابة السجن دون تنفيذ القرار. وأكد المحتجز أنه عند سماع خبر الإفراج عن اثنين منهم، شعروا بالخوف من أن يكون مصير البقية مجهولًا أو خطيرًا.
خلال وجودهم في المعتقل، تعرضوا لهجوم من أحد المحتجزين السودانيين ويدعى “فضل”، وهو ابن عم لأحد المسؤولين هناك. هاجم فضل المصريين في الفناء وضرب أحدهم، محمد شعبان، بسيف حديدي، مما أدى إلى كسر مفصل إصبعه. وصف المعتقلون الموقف بأنه كان عصيبًا، حيث بدأ فضل بالصراخ قائلاً: “أنتم لستم رجالًا، سأقتلكم بنفسي.” وتسبب الهجوم في فوضى كبيرة، أعيد على إثرها المصريون إلى زنازينهم دون إغلاقها.
وفي مساء اليوم ذاته، أبلغوهم بأنه سيتم نقلهم. يرجح أحدهم أن السبب في ذلك هو إبعادهم حفاظًا على حياتهم بعد الهجوم. وأوضح أحد المعتقلين أن فضل كان يكنّ لهم كراهية شديدة، وكانوا يتجنبونه تمامًا، لكنه علم على ما يبدو بقرب الإفراج عنهم.
بعد قرار الإفراج، استمر المحتجزون في التنقل بين عدة أماكن. أشار أحدهم إلى أنه خلال الفترة الممتدة من 23 يناير وحتى الأسبوع الثاني من فبراير، سُمح لهم ببعض الحركة أمام الميز. كما تواصلوا عبر هاتف أحد المسؤولين السودانيين مع مسؤول في السفارة المصرية عدة مرات.
في مساء يوم محاولة قتل محمد شعبان، نُقلوا إلى سجن سوبا، حيث وصلوا قبل منتصف الليل. وأفاد أحدهم بأنه صُدم عند رؤية الخرطوم من خلف زجاج الحافلة، بسبب حجم الدمار الذي طال المدينة.
في اليوم التالي لوصولهم إلى سوبا، تعرضوا للضرب العنيف، خصوصًا خمسة منهم. بعدها بيومين، زارهم قائد في استخبارات الدعم السريع يُدعى “جنابو الطيب”، واعتذر عما حدث لهم، مؤكدًا أن الإفراج عنهم مسألة وقت. وأشار إلى أنهم كانوا يعلمون بتواصل المحتجزين مع مسؤول مصري عبر الهاتف قبل نقلهم إلى سوبا.
لاحقًا، تم تصويرهم فرديًا لاستخراج وثائق سفر، لكن عند استفسارهم لاحقًا، أفادت السفارة المصرية بأنها لم تتلقَّ أي شيء، مما اضطرهم إلى إعادة تصويرهم داخل السفارة.
وبعد نحو 10 أيام، عاد “جنابو الطيب” إليهم مرة أخرى عند الواحدة صباحًا ليؤكد أنهم سيُطلق سراحهم قريبًا. وعندما طلبوا السماح لهم بالخروج بأنفسهم، رفض ذلك. وفي 4 أيام أخرى، ومع اقتراب الجيش السوداني من سوبا، قررت قوات الدعم السريع نقلهم مجددًا دون إخبارهم بالوجهة، بينما أُفرج عن معتقلين سودانيين آخرين في الوقت ذاته ضمن عملية وثّقتها قوات الدعم السريع إعلاميًا.
تم نقل المحتجزين المصريين إلى مقر اعتقال ثالث قرب الاحتياطي المركزي بالكلاكلة شرق، حيث واجهوا ظروفًا مأساوية. في هذا المعتقل، كان المعتقلون السودانيون يتقاتلون للحصول على حفنة أرز سقطت على الأرض، ولم يكن يُسمح لهم سوى بشرب الماء مرتين يوميًا.
خلال وجودهم هناك، شهد المحتجزون وفاة أحد المعتقلين السودانيين، حيث بقي جثمانه مربوط اليدين والقدمين بالقرب من الحمام لمدة يوم كامل، بينما ظلت جثة أخرى لمدة أربعة أيام دون دفن.. كان الوضع أشبه بالجحيم، حيث كان هناك نحو 300 معتقل في عنبر واحد، معظمهم مدنيون تعرضوا لتعذيب وتجويع شديدين، وأصبحوا أشبه بهياكل عظمية.
في صباح أحد الأيام، تم نقلهم بميكروباص إلى وجهة غير معروفة. وفي مشهد غريب، توقفوا في أحد الشوارع وتلقوا عصائر كنوع من المجاملة قبل أن يتم نقلهم إلى فيلا في حي الرياض، حيث قضوا الليلة الأخيرة لهم في الاحتجاز.
في اليوم التالي، جاءهم “جنابو الطيب” مجددًا، وعندما طلب أحدهم استعادة بعض ممتلكاته التي كانت في سوبا، رُفض طلبه.. ثم تم نقلهم وسط حراسة مشددة، قبل أن يُطلب منهم القسم على المصحف بألا يوجهوا أي انتقادات لقوات الدعم السريع. بعدها، أُخبروا بأنهم لن يُرافقوا إلى وجهتهم النهائية، حيث كان الجيش السوداني على بعد كيلومترين فقط.
بعد الإفراج عنهم، وجدوا أنفسهم في منطقة خالية تمامًا، بلا أوراق ثبوتية أو مال، ولم يكونوا متأكدين من موقعهم الجغرافي. اضطروا للسير لمسافة طويلة حتى صادفوا جنودًا سودانيين، الذين لم يكونوا على علم بوصولهم إلى تلك المنطقة.
بعد نقلهم بين عدة مناطق، تمكنوا أخيرًا من الوصول إلى معسكرات الجيش السوداني، حيث تلقوا معاملة حسنة ورعاية طبية، خصوصًا لأحد المصابين الذي نُقل إلى المستشفى. ومن هناك، تم نقلهم إلى بورتسودان، حيث قضوا عدة أيام داخل السفارة المصرية. كان من المقرر ترحيلهم في 4 مارس، لكن تم تأجيل ذلك لأسباب فنية، إلى أن نُقلوا أخيرًا في 6 مارس إلى مصر، ليعودوا بعد رحلة من الاحتجاز القاسي امتدت لأكثر من 18 شهرًا.
- رحلة الهروب: شهادات حية من السودان

يقول أحد الناجين: “توجهنا إلى الموقف لنستقل وسيلة نقل إلى شندي، ومن هناك إلى المعبر ثم إلى مصر. غير أن ما رأيناه في الشوارع أصابنا بالذهول. أثناء رحلتنا على العربة الكارو، أوقفنا جنود من الجيش السوداني وسألونا عن هويتنا. أخبرناهم بأننا كنا محتجزين، وأن بيننا شخصًا مريضًا للغاية، محمد جمعة، الذي كان يعاني من ورم ومشاكل في الأوردة الدموية في الأشهر الأخيرة.
ويضيف: طلبوا منا التوجه إلى استخبارات الجيش بسبب وجود نقاط تفتيش عديدة. نُقلنا إلى معسكر حطاب حيث قضينا الليلة هناك، وقد عوملنا برحمة. في اليوم التالي، تم نقلنا إلى مقر تدريب في الكدرو، بالقرب من فناء المضادة، حيث بقينا أسبوعًا كاملاً دون أن نعرف ما سيحدث أو سبب عدم نقلنا إلى شندي كما كنا نخطط.. في 17 فبراير 2025، التقى جيش الكدرو وحطاب مع جيش الإشارة عند قنطرة حلة كوكو، متجهًا نحو كوبري المنشية، خلال هذه الفترة، جاء رائد في الجيش السوداني وطلب منا المكوث للاستراحة. شكرناه، لكنه أخبرنا بأن علينا مقابلة اللواء بشر في الجيش”.

ويتابع: بعد ذلك، تناولنا الغداء وجلس معنا، وكانت المعاملة طيبة، مما بدد مخاوفنا.. ثم تم نقلنا بميكروباص جيد إلى عطبرة، حيث استقبلتنا دار ضيافة القوات المسلحة السودانية، وهناك تم تزويد محمد جمعة بالمحاليل الطبية ونقل الدم له. في صباح اليوم التالي، تحركنا إلى بورتسودان، حيث كان هناك طيران متجه إلى مصر.
وأردف “في السفارة المصرية، وجدنا الشقيقين عماد وماجد، اللذين كانا محتجزين هناك منذ عشرين يومًا دون أن يتمكنا من مغادرة المقر. أوضح أحد المفرج عنهم أن السفارة كانت تنتظر اكتمال لمّ شمل المجموعة قبل تسفيرهم معًا. وقد قامت السفارة والمخابرات المصرية بتسهيل إجراءات استخراج أوراق العبور لهم، لكن، وقبل الإفراج عنهم، أصر أحد قادة الدعم السريع الميدانيين على أن يقسم المحتجزون بعدم التحدث بسوء عن خاطفيهم. هذا الإجراء تكرر خلال تنقلاتهم من مكان إلى آخر خلال الشهرين الأخيرين، مما تركهم في شك حول ما إذا كان الأمر مجرد تلاعب بأعصابهم”.
- شهود على التعذيب والموت
خلال شهور الاحتجاز، شهد بعض المحتجزين سقوط قتلى بسبب الضرب أو التعذيب.. يقول أحدهم: “رأينا أشخاصًا يدخلون بصحة جيدة وبأجساد رياضية، ثم يتعرضون للضرب من أربعة أو خمسة أشخاص، لنجدهم في اليوم التالي جثثًا هامدة”، كما وقعت وفيات جراء أمراض لم تُشخّص أو تعالج، يُرجّح أنها الكوليرا.

في بعض الأحيان، كان آمر المعتقل يرفض استقبال المصابين أو المرضى.. أحد المحتجزين يروي أنه عندما حاولوا الاحتفاظ بزميل مريض بينهم، رفضت إدارة المعتقل ذلك.
يضيف أحد الناجين: “أضرب أحدنا عن الطعام، وأخبرنا طبيب سوداني معتقل معنا أن أحد المرضى لم يمهله المرض سوى خمسة أيام قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، بعد أن تم نقل مجموعتنا من مقر الجامعة المفتوحة إلى الأدلة الجنائية.”

ويروي أحد الشهود: “عندما نقلونا من الاستخبارات، كان عماد وعلي يجلسان بالقرب من عبد القادر وخالد، لأن الأخيرين كانا مريضين وموضوعين على مراتب، بخلاف بقية المجموعة، ليكونوا قريبين من الأطباء (أو من يُطلق عليهم أطباء).”


يضيف شاهد آخر عن أحد المرضى: “كان ضعيفًا جدًا، وزنه انخفض إلى أقل من 50 كيلوغرامًا، وكان يعاني من هزال شديد وطفح جلدي. في الأشهر الأخيرة، تدهورت حالته، وظهرت بقع حمراء وحبوب صغيرة على جسده بالكامل. لم تُجرَ له أي فحوصات، ولم يكن هناك علاج. زادت حالات الكوليرا في أبريل ومايو 2024.”
أما عم خ.، فقد كان يعاني من جلطة وورم في الساق، لكن لم يكن هناك أطباء، وكان المرضى يُعرضون على طالب في السنة الثانية من كلية الطب أو على ممرض. لم تكن هناك أدوية ولا أجهزة أشعة.
- رفض استقبال المرضى
يقول أحد المفرج عنهم: “بعد مرض ع. وخ. بـ15 يومًا، قالوا لنا إنهم سينقلوننا. حملناهم إلى العربة، لكن جنابو موسى، آمر مقر جنوب الأدلة الجنائية، رفض استقبالهم. من بين الأوراق كان هناك توقيع لعيسى بشارة كتب فيه: ‘تمنياتنا بالشفاء، وحسب التعليمات، يرجى الانتظار’، مما يعني ترك المرضى خلفنا.”
في سجن آخر، يروي أحد المفرج عنهم: “كنت مصابًا بالملاريا أو بإعياء شديد، فنقلوني إلى غرفة المرضى، وهي غرفة مفتوحة بلا باب. رأيت هناك معتقلًا سودانيًا كان معنا سابقًا وسألته عن ع. وخ. فقال لي: مات أحدهما (ع.)، ثم لحقه الآخر بعد بضعة أشهر، بعد تعرضه لعنف شديد.”
ويضيف: “في اليوم التالي، قابلنا الدكتور ج.، وهو طبيب أسنان سوداني معتقل، فقال لنا: ‘احمدوا الله، فقد بدأت الكوليرا بعد رحيلكم. الآن هناك 15 جثة يوميًا.’ ع. مات بعد خمسة أيام من مغادرتنا مقر الجامعة المفتوحة. خ. صمد لعدة أشهر قبل أن يُنقل إلى بدروم في مبنى الاستخبارات، حيث توفي هناك.”
أما المهندس ب.، فقد كان يعيش في وسط الخرطوم، حيث كانت المعارك ضارية، ولم يكن هناك طريق للخروج دون المخاطرة بالموت. فاضطر لتسليم نفسه لأول جنود قابلهم، وكانوا من ميليشيا الدعم السريع، ليصبح أقدم المحتجزين.

- مناشدة لمعرفة المصير
فيما يخص عبد القادر عجمي، أحد الرهائن المفقودين، ناشدت أسرته السلطات المصرية اطلاعهم على مصيره، أو تسلم جثمانه ودفنه بطريقة تليق به، إذا ثبتت وفاته. يقول أفراد عائلته: “لا نريد سوى معرفة مصيره وتكريمه بما يليق.” عجمي كان يعول أسرة مكونة من خمسة أفراد، بينهم ثلاث فتيات في سن الدراسة وصبي، واضطر الأطفال للعمل بسبب مرض والدتهم، التي تعاني من الصرع، فيما تحتاج إحدى بناته إلى جراحة في فقرات الظهر.
وفي حوادث سابقة خلال أبريل ومايو 2023، حين اعتُقل عمال وباعة مصريون من منازلهم في الخرطوم، أصر مستشارو الدعم السريع على تلقي اتصال من السفارة المصرية قبل تسليمهم إلى جهة دولية محايدة أو إطلاق سراحهم، وهو ما لم يحدث آنذاك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة من المحرر: بمراجعة ومقارنة وتدقيق رواية ثلاثة على الأق من الرهائن المحررين؛ فإن تحديد التواريخ قد يختلف يوما أو اثنين نظرًا لانقطاع تواصلهم مع العالم الخارجي واعتمادهم على طرق بدائية في تسجيل التواريخ ولكون حوارنا معهم قد جرى قبل تعافيهم ذهنيا من صدمة وأهوال ما عاشوه ووجود بعضهم في الحجر الصحي والمستشفيات بمصر حتى الآن للعلاج.