المحامي أحمد أبو علم يكتب: محمد منير .. حدوتة مصرية (المطرب الذي لازال قادرا على أن يمثلني)
استمع وانصت واصغي إلى هذا الرجل منذ ثلاثين عاماً – بشكل متواصل- ومازال قادراً على أن يُسعدني، ومازال قادراً على أن يُخرجني من أي حالة نفسية سيئة (بيغيّر مودي) ومازال قادراً على تمثيلي أمام نفسي ووطني وعالمي. انه محمد منير، هذا الصوت الرنان، الذي يخطفك لأول وَهلة (سمعية) والذي تشعر حين تسمعه انك لا تحتاج إلى موسيقىَ لتكون خلفية له.
لن أتحدث كثيراً عن سيرته الذاتية، لأنها متاحة لدىٰ الكافة، وسيتركز حديثي عن وجهة نظري في هذه الحالة.
فهو مواليد العاشر من أكتوبر ١٩٥٤، في قرية منشيه النوبة بأسوان، تلقى تعليمه المبكر وقضى فترة الصبا في أسوان، قبل أن يهاجر مع أسرته للعاصمة، بعد غرق قرى النوبة تحت مياه بحيرة ناصر التي خلفها السد العالي.
تخرج في قسم الفوتوغرافيا والسينما والتليفزيون من كلية الفنون التطبيقية جامعة حلوان، وأثناء أو بعد دراسته استمع إليه زكي مراد، الشيوعي النوبي، فأوصىٰ عبد الرحيم منصور ، الشاعر المعروف آنذاك بالاستماع إليه، وكبرت الدائرة لتشمل أحمد منيب، الذي لم يكن أحد قد سمع به، فأخذ في تدريب منير على أداء ألحانه وألحان غيره النوبية، ثم بدأ في الاستعانة بكلمات معارفهم من الشعراء عبد الرحيم منصور وفؤاد حداد.
وهكذا اجتمع الثلاثي الأسطورة (منير – عبد الرحيم – منيب) وما أن إستمع عبد الرحيم منصور وأحمد منيب إلى محمد منير ، حتى شعروا إنهم أخيراً وجدوا ضالتهم في هذا الشاب الصغير، وأدركوا أنهم في طريقهم إلى صنع أسطورة غنائية حقيقية ، لا يتبقى لها إلا التوفيق والنجاح حتىٰ تكتمل.
كان أول ألبوم لمنير هو (علموني) والذي أنتج عام ١٩٧٩ ألبوم (شبابيك) عام ١٩٨١… وتوالت الأعمال والنجاحات.
وأكتفي بعرض هذا الجزء اليسير من سيرته (المنقولة) لأركز على وجهة نظري في هذا الرجل… الذي قلت في البداية أنه (حالة) فريدة من حالات المزيكا والإنسانية.
#فمحمد_منير أول مطرب مصري يغني بتيشرت وجينز، وأجمل ما فيه تلقائيته وبساطته (حقيقي مش مُزيف)، ولم يتقيد ابداً بلبس البدلة، أو الوقوف ثابتاً أمام الميكروفون، ودائماً ما ينفعل انفعالات عصبية تعبر عن احساسه (وكان ذلك سبب سخرية العديد منه ).
أول شعورين تشعر بهما عندما تسمع هذا الرجل، هما الصدق والتحدي، اللذان ينفذان إلى أعماق روحك بشكل مباشر وخفي.
قام بعمل مزج -مدهش- بين مزيكا الجاز والسِلم الخماسي (النوبي) والموسيقى الشرقية، وكان أهم ما يميزه عن أبناء جيله أنه الوحيد الذي كان يحمل مشروعاً متكاملاً (صوت وصورة ومضمون).
تعامل منير مع (الكبار) سواء شعراء او ملحنين، ولن أتحدث هنا عن الشعراء الذي تعامل معهم، لأنه محل مقال مستقل، ولكني سوف أقف أمام الرائع الراحل عبد الرحيم منصور ، الذي توفى عن سن ٤٢ عاماً، ولكن كان له بالغ الأثر في تكوين شخصية منير ، وكان صاحب معظم أغانيه الشهيرة في البدايات، وهو المؤلف الرئيسي لمعظم أغاني العملاق أحمد منيب.
اما الملحنين، فسأقف أمام الرائع كمال الطويل، الذي رفض أن يلحن لأي شخص بعد عبد الحليم حافظ، حتىٰ تعامل مع منير بداية من أغنية (بَرة الشبابيك) ثم أغاني فيلم المصير وأهمها علي صوتك بالغنا، والمصير :
وحلمنا لو ينضرب
هنصد ونرد ولابد
يبقى المصير في اليد
كان له موعد مع السينما، عندما تعامل مع المخرج (المُختلف) يوسف شاهين، الذي أضفىٰ عليه بُعد من العمق والرمزية، فقدم الطوق والإسورة، واليوم السادس، والمصير.
وكانت له تجربة رائعة في فيلم حكايات الغريب عن نكسة ٦٧، وأتذكر هنا هذا المقطع الرائع في أغنية (سلام للعسكري) الذي يربط بين الحب والهزيمة والفقر :
سلمىٰ يا سلامة يا سلامِلا
كلنا هنا على نفس المِلة
فقرا إنما محناش قِلة
كلنا عاشق كلنا مبتلي
وكان له موعد اخر مع المسرح، عندما قدم مسرحية (الملك هو الملك) للكاتب العملاق سعد الله وَنوس، والتي كانت سبب تسميته بالملك (الكينج) والذي ألف أغانيها الشاعر الكبير احمد فؤاد نجم، ولحنها الملحن الكبير الراحل حمدي رؤوف (والد صديقي الملحن الرائع وكيبورديست منير والحجار Ahmed Hamdy Raouf
قولي يا مخ يا صنع الكيف
زي ما بين الشتا والصيف
ايه الفارق والشتان
بين الفارس والسلطان
#تعامل منير مع الوطن باعتباره الحبيبة والعشيقة الأولىٰ، فكان غير مُتكلفاً او متصنعاً، وكان دائماً هائماً وجريحاً من أجل هذا الحب :
قلب الوطن مجروح لا يحتمل اكتر
نهرب وفين هنروح لَمّا الهموم تكتر
وله جملة تستوقفني دائماً في هذه الأغنية، موجهاً حديثه إلى مصر (انا حبي ليكي صلاة) … قمة الروعة والخشوع في الحب.
تكلم عن الأحلام والفرصة والحرية والتمرد والجنون والحياة والعشق الصوفي ، وكانت أغانيه المُحفز الأول في الميدان (إبان يناير العظيم) :
حدوته مصرية، وساح يا بداح، انتي بلاد طيبة، عروسة النيل، اتكلمي، تعالى نلضم اسامينا، اتكلموا، هيلة هيلة، شبابيك.
يامّا مواويل الهوا يامّا مواليا
طعن الخناجر ولا حكم الخسيس فيا
غنى أغنيته التى أصبحت أيقونة للثورة فيما بعد (ازاي)….
ازاي انا رافع راسك
وانتي بتحني في راسي
ازاي ؟!
حاول منير ان يدعم الأقليات والمُهمَشين والبسطاء واليائسين والمكبوتين من البشر :
لا يهمني اسمك.. لا يهمني عنوانك
لا يهمني لونك.. ولا ميلادك.. مكانك
يهمني الانسان.. ولو مالوش عنوان
يا ناس يا مكبوتة.. هي دي الحدوتة
حدوتة مصرية
حاول منير ان يبث روح التمرد والتغيير في كل أغانيه ، وكان مُحفِزاً لاستخراج الطاقة الكامنة فينا :
لو هقدر أغير راح أغيّر
لو مش قادر
انا لازم أغيّر وأتغير
خوفك مش قدر وهروبك مش طريق
قلوعك لو ورق متنجيش غريق
طير زي النسور م النخل للكافور
غوص جوة البحور وهات اللؤلؤة
كل المفروض مرفوض
أثبت للعالم انك موجود
الدنيا لو جارحة
لوّنها لون فرحة
وكتير كتير من الكلمات القادرة على إفراز هرمون الدوبامين بغزارة وسهولة.
#اما_عن_الجانب_الرومانسي في أغانيه، فقد جاء منير بشكل مختلف للحب، ليس كمثل الأشياء النمطية، فعندما أراد أن يخبر حبيبته انه يحبها قال :
مِش عايز احبك مِش عايز
وعندما قرر أن يغازلها قال :
بالظبط الشَعر اللي بحبه
الطول واللون والحرية
وعندما كان يناديها ، كان يناديها ب :
يا انا
وعندما أراد أن تستمر معه ، قال :
يا ليالي الحزن بلاش
الفرحة دي مش ببلاش
وعندما أراد أن يستقر معها ، قال:
دا منايا.. يا هنايا
أسكن فيك وطن
حتجيني تلاقيني
ساكن في الوطن
وعندما فارقها ، وحزن على بعدها ، قال :
دي عنيكي دول مرايات مرسوم انا فيهم
يا ضيعة الحكايات ع اللي انكتب فيهم
مشروخ يا ناي متغنيليش
زعقك وجعني وانا مكفانيش
#أعترف أني أعشق هذا الرجل، واعترف أن له الفضل في تشكيل جزء من وجداني، وعشقي لبلادي، وتمردي، وثورتي، ويقيني.. بحلمي وهدفي وذاتي.
#شكراً_محمد_منير
#صوت_مصر_في_الأرض