الطيب النقر يكتب: نزوة.. خيال له أشباه من الواقع (ابداعات)
سعت جاهدة بأن تخفف من حدة شوقها إلي رؤياه، وكلفها بمقابلته، فهي قلقة ما في ذلك شك من هذه المشاعر الغامضة التي تنتابها تجاه شخص تجهله كل الجهل، ولا تظن أنه سيتاح لها أن تعرفه في يوم من الأيام، لتمتع ناظريها من وسامته ونضارته وروائه، ينبغي أن تدعو نفسها إلي شيء من القصد والإعتدال، وأن تترك هذه النزعة التي أخذت تعم وتشيع، يجب أن تقاومها وتتصدى لها، وتنزه نفسها عنها تنزيها، نعم عليها أن تكف عن الاستئناس ببرنامجه الذي يقدمه في التلفاز وتوطن نفسها على ذلك، وتتذكر أنها متزوجة من رجل أحاسيسها نحوه متفاوته بين المقت والإعجاب، صحيح أن اعجابها بزوجها ضئيل شديد الضآلة لا تكاد تحسه، ولكنه يصل إلي أقصى ما يمكن أن ينتهي إليه من هدير وحدة وعنفوان، إذا أحسّت أن زوجها المكتنز العضلات، الصارم التقاطيع، عاشقاً لها، وبها شغوفا، ولكن الزوج البليد الحس، الخامد العاطفة، المطبق الشفاه، لا يجثو أمامها ويلاطفها ويذعن لها أشد الاذعان إلا إذا كان يروم أن يختلي بها، وما أن يقضي وطره، ويرضي شهوته، حتى ينتزع نفسه من بين يديها وقد بلغ بها الأسى والتأثر أقصاه، حينها تود لو أنها تستطيع أن تقتل نفسها، فما هي عنده إلا جسد مستعر يثير كوامن فحولته ليس إلي اتقائه من سبيل، أما عاطفتها المتأججة فهي بعيدة كل البعد عن دائرة عنايته واهتمامه، لقد حاولت كثيراً أن تلفت انتباهه إلي عواطفها الجياشة التي يزدريها ويستخف بها أشد الاستخفاف، حتى أخذت تمقت الالتفات والتنبيه، ووجدت ضالتها في ذلك القسيم الوسيم الفارع الطول، الذي يخضع الناس له، ويتأثرون به، وهو يلح في اللوم، ويسرف في العتاب، لكل زوج أو عاشق لا يرفق بمحبوبته، ويلاطفها ويغازلها على الدوام، كانت تتكلف الجهل والغفلة، لسيطرة هذا الرجل الذي لا تراه إلا عبر الشاشة على تفكيرها، الرجل الذي تحسه، وتشعر به، وتتخيله مقبلاً إليها، ناثراً حولها الأزهار، هامساً في أذنها بأروع الأشعار، حملها على العمل والجد، بعد أن أمضت عدة سنوات بعد زواجها في الدعة والخمول، لقد عادت زهرة ناضرة متوهجة بعد أن كاد بريقها أن ينطفيء، وردة صارعت الجفاف والذبول لأربعة أعوام، حتى أمست تعتقد أن الزواج موئل شقاء وليس مصدراً للسعادة، ولأنها لا تستطيع أن تمضي في هذا العنت، طلبت من زوجها الطلاق، وحينما ألحّ في الرفض خلعته وتركته ذاهلاً لا يعرف ما هي الأسباب التي دفعتها لاتخاذ هذا المنحى، أقبلت ريهام على حياتها الجديدة فرحة بها مبتهجة، بعد أن طوت صفحة زوج تستطيع أن تحصي ألفاظه التي تفوه بها على مدار الأربعة أعوام، لم يكن طليقها مازن سيئاً، ولكنه رجل يركن إلي الصمت ويتدثر به، ولا يفصح لها عن دخيلة نفسه إلا إذا رام شيئاً من ضرورات الحياة، هو الان محزون يغالب حزنه، وحتى ينسى ريهام التي كان يحبها دون أن تنم عنه امارة تظهر هذا الحب، حرص على الزواج من أخرى بعد أسبوع من مفارقتها اياه، لقد غاظها فعلاً زواج طليقها بعد عدة أيام من قرار المحكمة التي حققت لها ما ترجوه، ولكنها استأنفت فرحتها، وسارت في دروب واقعها الجديد، وهي راسمة على محياها ابتسامة آسرة مضيئة، احتملت فيها في غير ضعف ولا وهن، عبارات اللوم والاستهزاء، ونظرات الشك والاستعلاء، ولم تأثر فيها الزوابع والأنواء، كما لم تسقط فريسة في شباك أصحاب العبث والأهواء، وانقضى عامها الأول، وقد دار حول فلكها أقطاب في القمة، أذاقتهم ألواناً من الذل، وأخضتعتهم لضروب من الخسف، لأنهم لم يشرئبوا إلا للذة، ولم يطوفوا إلا على أهداب الجسد.
استطاع غسان حسن مقدم البرامج الشهير أن يعيش على أسلات قلمها، وفي بطون مذكراتها، التي تدونها عشية كل يوم، كانت أحيانا تقرظه بعبارات المدح والثناء، وتمطره في أخرى بحمم القدح والهجاء، لأنه قد تمادى في التغزل في ممثلة استضافها، أو في غانية تباهى باكتشافها، هي تعلم حق العلم أنها لن تظفر من كل هذا بشيء، فغسان الذي يفوق عدد عشيقاته الاحصاء، تلح في عتابه، وتسرف في استعطافه، في هدأة كل ليل، لأنه لم يترك لها أن تعيش حياة هادئة مطردة، يمنعها عن الافصاح له بمكنون صدرها انخزال نفسها، وخور قلبها، ولأنها تعي أن سجية العفاف عنده كليلة مثلومة الحد، وهو حتما إذا رأها أو أصاخ بسمعه لها، فسوف يختزلها في اطار المتعة، وهي تربأ بنفسها عن ذلك، إذن لا مناص لها سوى أن تكتم هذا الحب المضني في سويداء فؤادها ، وأن تتكلف الجلد، لقد عاشت ريهام متألفة مع أتون خصام محتدم بين عقلها الذي يأمرها بوأد مشاعرها الجوفاء، وقلبها الذي يمنيها بالضجيج والعجيج، لهذه الأسباب لم تتخذ ريهام وسائل للوصول إلي مبتغاها، ولم تسعى قط أن توقع غسان في حماها، رغم جمالها الآخاذ، وفتنتها الطاغية، ولكنها دأبت على اظهار شغفها بغسان لصويحباتها حتى تنامى هذا الشغف لصاحب الشأن الذي اعتاد على سماع هذه القصص التي كان ينصت لها في رتابة وملال، ولكن ما أن شاع اسم صاحبة هذا الكلف حتى صفق في جزل، وابتسم في سعادة، فمن تكن لها عشقاً محضا، وغراما عنيفا، صدت في اباء وشمم، أحد أصدقائه الأثرياء الذين يقارفون أعظم الآثام وأضخمها، هذا الصديق الفاسق سبق له أن سلب غسان فتاة كان مولعاً بها، ونشر ذلك في كل صقع وواد، لقد حان للنجم الفارع الطول أن يثأر لكرامته المهدرة، وأن ينتهي سجاله مع ذلك العتل إلي غايته.
التقى الوجيه غسان بريهام في بهو الشركة التي تعمل بها، وفاجأها بضروب من اللوم والتأنيب، لأنها لم تخبره بحقيقة مشاعرها تجاهه، ولم تهاتفه أو ترسل له خطابا يفصح عن عواطفها النبيلة، ظلت ريهام تحاول أن تبقى متماسكة أمام هذه الوقائع التي لم تكن في البال،فلم يدر في خلدها مطلقاً أن يأتي يوماَ ترى فيه حبيبها شاخصاً أمام بصرها، استطاعت بعد لأي أن تبقي دموعها على مأقيها، وأن تنتزع صوتها من محبسه، وأن ترد في خفوت واضطراب بأنها لم تكن ترى طائلاً من ذلك، كان غسان يضغط على يدها في شدة، وعينيه العابثتين تصولان في حواشي جسمها البض، ولم يتركها إلا بعد أن ظفر بميعاد، وحفظ في ذاكرة جواله الباهظ الثمن رقم هاتفها السيار.
استدار غسان وقد وقع في نفسه اعجاب بجمال ريهام ورشاقتها وأناقتها وطريقتها في التفكير، أما ريهام فقد انتحت مع صديقة لها ناحية وأخذت تحادثها في مواضيع شتى، وذاكرتها تسترجع كل لحظة أمضتها مع غسان في حديث الذّ من الشهد، وأنضر من الذهب، اعتادت ريهام على رؤية غسان بعد لقائهم الأول، والتحدث معه لساعات طوال عبر الهاتف الجوال، ولكنه انقطع عن زيارتها بعد اسبوعين، فاضطربت لذلك أشد الاضطراب، وجزعت لذلك أشد الجزع، ترددت ريهام على كل الأماكن التي يمكن أن تجد فيها غسان بعد أن باءت كل محاولات سماع صوته عبر هواتفه بالفشل، ولكن دون جدوى، وبعد عدة أيام ظهر رقم غريب على شاشة جوال ريهام التي ردت في لهفة وأنفاسها تتسارع، فتسمع صدى صوت حبيبها غسان آتياً من بعيد، فتبكي العاشقة المكلومة في حسرة، وتتنهد في فرح، أخبرها غسان بعد أن نجح في تهدئتها أنه قد حصل على اللوتري، وأنه سوف يمكث في الولايات المتحدة حتى يحصل على الجواز، وأنه سوف يرسل لها قريباً حتى تمكث معه عدة أسابيع في الولايات المتحدة، فأجابته في حزم أنها لا تستطيع أن تشاركه حياته دون مسوغ شرعي، ويبدو أنه تذكر جمالها وروعتها وحزّ في نفسه أن يغادر بلده دون أن يغنم من ذلك بحظ، فأجابها في اندفاع المحبين أنه ليس رافضاً لهذا الأمر، ولكن يجب أن نعطي لأنفسنا فترة من الوقت حتى يتخذ كل منا القرار الصائب، فضحكت ريهام في تهكم وأخبرته بأنها قد اتخذت قرارها منذ أن كانت في معية زوجها الأول، وصارحته بأنها لن تستطيع أن تثق فيه، أو تتطمئن إليه، إلا بعد أن يعقد قرانه عليها، وأنها لن تتورط معه في دنيئة أبداً،لم يسع ريهام بعد انهاء مكالمتها مع غسان إلا أن تغتبط بحزمها، وقوة شكيمتها، أمام من تحب، فهي تعلم أن غسان لا ينشد إلا أن يغريها، ويملك عليها أمرها، فيلهو بها أيام قد تقل أو تطول، وبعد ذلك ينصرف عنها، ويتركها لحياة كلها جحيم، ما تخشاه تلك العاشقة المتدلههَ التي تعلم أن حبيبها سوف يتمهل بعد هذه المكالمة، ويتيح لنفسه التفكير بعمق في الكيفية التي يوقععها بها في براثن قبضته، أن تضعف لشدة ما قاومت، وأن تتهاوى لشدة ما كبحت من جماح عاطفتها، هي إذن ماضية في الرفض، وممعنة فيه، حتى لا ينالها غسان بأذى، وهو عازم على الا يتعجل الفوز، ويظهر آثامه ومخازيه، يكفي أن يعزف على ايقاع عاطفته الملتهبة، وأن يخبرها بعزمه على الزواج منها، متى ما وطئت أقدامه أرض الوطن، فتنطلي عليها تلك الحيلة، فتخر وتستكين، فيزدريها ازدراءاً منكراً بعد أن يجوب في أقاريز مدنها العصية، ويعتلي صهوة خيولها الأدهمية، وتنطلق ألسنة الناس بالكلام، والناس غلاة مسرفون في هذه الأمور، هي لا تعلم بأنه ضيق الذرع بهذه الحياة المنتظمة التي تجرى على وتيرة واحدة، فحياته محطة تلتقي فيها الأجناس المختلفة، والطبقات المتباينة، فعلاما يتجشم مشقة الاحتشام؟ ويزدرد علقم الفضيلة، ويرضى بحياة خاملة متواضعة، لا خناً فيها ولا فجور.
لم يسلك غسان هذا السبيل من قبل مع طرائد اللذة، وصريعات النشوة، فهو ليس في حاجة إلي بذل الجهد، وإجهاد النفس، لأشباع نزواته، فما أن يُخطِر الحسناء بما يقاسيه من علل الغرام، حتى تتجرد عن أسلحتها وتمضي معه في استسلام إلي مخدعه، أما ريهام فلم تُجدي معها الأصوات الهامسة، والمس الرقيق، فهي تريد أن تستأثر بحياة من تحب، ولا يرضي غرورها إلاّ أن تكون وحيدة خالدة عنده وهي شامخة عزيزة الجانب، همّ غسان أن يتحول عنها، ويعصم نفسه من وصمة الاخفاق التي لم يتجرعها من قبل، فهو يدرك جلياً أنها تسوس أمرها معه بالحزم، وتستقبل كل حركاته وسكناته بالتحفظ، ولكن ماذا يصنع مع كبريائه الذي له مكبر، وبه مختال، وعليه حريص، وكيف لا يجعل صديقه اللدود تمزق قلبه الحسرات، بعد أن يؤوب إلي حصنه وقد أحال أسطورة ريهام إلي هباء تذروه الرياح.
إنه أمر لا غرابه فيه، ولا مشقة في فهمه، أنا عدت من أمريكا من أجل غاية واحدة، كنت أحسب أنها قمينة بأن تجعل ثغرك يومض بالابتسام، ولم أكن أعتقد قط أنها سوف تملأ نفسك جزعاً و هلعا وارتيابا، فأنت إذن تنظرين إلي زواجي منك بأنه بلاء نازل، وشر ماثل، وعذاب متصل، وقفت ريهام واجمة تنظر إلي قرص الشمس وقد أزفّ على الرحيل، عبر نافذة غرفتها الشاهقة، وقد تعاضدت الأسباب، وتكالبت العلل، لتذرف كل ما في عينيها من دموع، وغسان يزداد اطمئناناً إلي خطته، وبراعة في ثمثيله، كلما أبصر مظاهر اللوعة والشجن على محيا ريهام التي تشفق على نفسها من هول الفراق، الذي لم يجد غسان شيء من المشقة والجهد في طرحه، لقد ظهر غسان على سجيته، فهو يساومها بين نزولها على طلبه، أو الاختفاء التام عن حياتها، يخيرها بين الموت والحياة، لقد أشاع الكآبة على قلبها الزاخر بحبه، حينما أخبرها بعزمه، الذي كله اعوجاج والتواء، لم تكن مهيأة لشيء كهذا، لم تكن تظن أن حبيبها سوف يتجاهل ويجحد ويحارب ما يجعلها تنقطع إلي السعادة، وتنعم بالهناء ، أمهل غسان ريهام أياماً ثلاثة قبل أن يغادر منزلها للرد عليه، ومضت تلك الأيام التي لم يزورها النوم فيها إلا غرارا، لتجيبه راضخة على مبتغاه بالبكاء.
عاشت معه مطمئنة مبتهجة عدة أشهر في شيكاغو، ولكنها اضطرت إلي العودة إلي وطنها حينما استفحل الخلاف بينهما بشأن التوأمين اللذان تورط غسان في رفضهما، والتشكيك في صلتهما به، هي الان تجوب المحاكم في وطنها وبلاد العم سام، وبحوزتها ورقة يتيمة بخط غسان يغالي العربيد النزق في انكارها.