الطيب النقر يكتب : قصة البلاغة
أضحى علم البلاغة من العلوم التى يلتقطها الطلاب فى يسر، ويتداولونها دون تعقيد، بعد أن أرسى دعائمها جهابذة من أقطاب اللغة والأدب على مر العصور، ذلك النفر الذي غاص في أعماق هذا العلم، ودقق في محيطه اللجب، واستجلى أخباره من خطفات الأحاديث، ونتاف الكتب، التي تحتوي على الفكر المشرق، والبيان الجميل، فالبلاغة دوحة سقاها النبل الخالص، وغذاها الكرم المحض، وتعهدتها اليد الأمينة، ورعاها الكتاب الحق الذي فصل من لدن حكيم خبير، فلقد ألهم الأدباء، واستهوى الشعراء، وتكالب على مرعاه الخصب، وبستانه النضر، وفود الفقهاء، ونجد أن البلاغة التي نطق بها أناساً لم تثبت لهم قدماً فى أرض، ولم تطمئن لهم نفس في بقعة، أتخذت مفهومين لا ثالث لهما هما المفهوم الأدبى للبلاغة كما فى العصور المنصرمة، والمفهوم العلمي الذي تبلور نتيجة لتعاقب الحقب فى عصرنا الحالى.
المفهوم الأدبى للبلاغة:
مالا يند عن ذهن، أو يغيب عن خاطر، أن البلاغة كانت في بداية نشئتها عبارة عن صفة تلازم الأديب أو البليغ، الذي كانت له جلالة تغشى العيون، وقداسة تملأ الصدور، لأن الكلام الذي يتفوه به تنزه عن شوائب اللبس، وخلص من أكدار الشُبهات، وبرئ من وصمة التعقيد، فالبلاغة لم تكن تدل على معنى اصطلاحى كما هو شائع الان، وذلك لأن العرب الأقحاح أساطين الفصاحة قد طبعوا على جزالة الألفاظ، وفخامة الأساليب، ولم يتلقوا هذه الأفانين من النثر المشرق الإسلوب، والشعر المحكم الأداء، والزجل الجيد الحبك، والخطب الناصعة البيان، من أساتذة يظهرون مكنونها،أو يفصحون لهم عن مضمونها، وإنما أدركوه بفطرتهم التي ليس فيها كدر ولا عيب، ولا إفك ولا ريب، وبسليقتهم التي لم تطبع على ضعف، أو تعكس على كلال، أو تدل على ركاكة، ولعل الدلائل التي تؤكد صحة هذا الزعم تفوق الاحصاء، ولقد نقلت إلينا مدونات الأدباء تلك الجواهر النفيسة التي لا تخلق ديباجتها، ولا يخبو بريقها العديد من هذه الصور والعوالم، التي لا تضاهى فى حسن رونقها، وشدة طلاوتها، ومن ذلك “ما يروى عن طرفة بن العبد أنه استمع وهو في معية الصبا، ولم يبلغ بعد مبالغ الرجال، إلى المسيب بن علس ينشد احدى قصائده وقد ألمّ فيها بوصف بعيره على هذا النحو:
وقد أتناسى الهم عند ادكاره *** بناج عليه الصيعيرية مكدم
فقال طرفة: استنوق الجمل. وذلك لأن الصيعرية سمة خاصة بالنوق لا بالجمل وتكون عادة في أعناق النوق” وعندما جاء الإسلام ومعه معجزته الخالدة القرآن الكريم، ذلك الكتاب المحكم النسج، الدقيق السبك، الجزل العبارة، المتناسق الأجزاء، الذى يأخذه بعضه برقاب بعض، ووقف حيال فصاحتة وأية براعتة، من خلعت عليهم الفصاحة زُخْرفها، مبهورين مبهوتين لا يلوون على فعل شئ رغم أن حروفه وألفاظه نظمت من تلك اللغة التي استقامت لهم، وجرت على ألسنتهم، ولكن في تراكيب لم يألوفوها، وأساليب لم يعهدوها، الأمر الذي جعل الوليد بن المغيرة صاحب الذوق المصقول، والذي لا يباري في مجافاة الحق الذي قُدِم له بصادع البرهان، ذلك الشيخ الذي كان يخاصم الرسول الخاتم عليه الصلاة والسلام، ويغالي في خصومته، و يعمل على تأريث تلك الخصومة بين بهاليل قريش وسادتها، يقر في عجز وصغار ببلاغة هذا الكتاب الذي أنعش الذاوى من قيم، وجدد البالي من عدم، وأحيا موات الأنفس التي تضطرب في الحياة، فقال بعد أن أفحمته آيات من سورة “فصلت” وأعيته قوة سبكها وحسن نظمها وسلاسة معانيها لصناديد قريش:”والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، أن له لحلاوة، وأن عليه لطلاوة، وأن أعلاه لمثمر، وأن أسفله لمغدق، وأنه يعلو ولا يعلي عليه”.
لقد كانت البلاغة فيٍ القرون الغابرة، والعهود المندثرة، لا تخرج عن كونها مجرد مهارات للإبانة والإفصاح عما يجيش فى نفس المتكلم من معان، بحيث يتم توصيلها إلي نفس السامع على نحو محكم محسن، يبرهن على ذكاء المتكلم، وإدراكه لمتطلبات الموقف، بالإضافة إلي مؤثرات شخصية أخرى، تتعلق بشمائل المتكلم وسنه وسمته، وجماله وطول صمته”. ونحن إذا استفرغنا الوسع فى معرفة كنه البلاغة لأدركنا الصلة الوثيقة التي تجمع بين مفهوم البلاغة، ومفهوم التوصيل، فلقد قرر بعض القدماء فيما رواه ابن رشيق في كتابه العمدة فى محاسن الشعر وآدابه ونقده:”قيل لبعضهم:ما البلاغة؟ فقال:إبلاغ المتكلم حاجته، بحسن إفهام السامع، ولذلك سميت بلاغة”إذن البلاغة هي “تحبير اللفظ وإتقانه، ليبلغ المعنى قلب السامع أو القارئ بلا حجاز، كما أنها إهداء المعنى إلي القلب في أحسن صورة من اللفظ” ونجد أن عبدالله بن المقفع أجرى الكُتاب قريحة، وأغزرهم مادّة، وأطولهم باعا،ً والذي يرجع إليه الفضل في إقرار الحقائق اللغوية والأدبية، زعم أن البلاغة:”اسم جامع لمعان تجرى في وجوه كثيرة، فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها يكون فى الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جواباً، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون شعراً، ومنها ما يكون سجعاً، وخطباً ومنها ما يكون رسائل” و البلاغة في السكوت التي أشار إليها بن المقفع الكاتب المترسل في فنون الإنشاء ليست هي البعد عن المناقشات الفجة، والأصوات الناشزة، بل في الصمت الذي يعد أحياناً أبلغ من الكلام كما قال الشاعر رياض الحفناوى:
ولربما سكت البليغ لحاجة*** وسكوته ضرب من الإفصاح
فالبلاغة في أوضح صورها، وأدق معانيها، كما ذكر أبوهلال العسكرى الذي يعد من أوائل البلاغيين الذين تناولوا هذا اللفظ تحديداً لمفهومه، وتعريفاً لمعناه، أنها تعنى: “بلوغ الغاية، والإنتهاء إليها، فمبلغ الشئ:منتهاه، ثم ذكر أنها سميت كذلك لأنها: تُنْهِى المعنى إلي قلب السامع أو عقله، ولو أتى هذا المعنى عن طريق الصمت المطبق، وعدم تحريك اللسان بالكلام، “فالبلاغة كلّ ما تبلغ به المعنى قلب السامع فتمكنه في نفسه كتمكنه في نفسك مع صورة مقبولة ومعرض حسن” وعرفها الآمدى صاحب الموازنة أنها:إصابة المعنى، وإدراك الغرض، بألفاظ سهلة عذبة، سليمة من التكلف، لا تبلغ الهذر الزائد على قدر الحاجة، ولا تنقص نقصاناً يقف دون الغاية…فإذا اتفق مع هذا معنى لطيف، أو حكمة غريبة، أو أدب حسن فذاك زائد فى بهاء الكلام، وان لم يتفق فقد قام الكلام بنفسه، واستغنى عما سواه”.
المفهوم العلمى للبلاغة:
إن البلاغة علماُ قديماً ضارب بأطنابه في عمق التاريخ، منذ أن تهيأ النابغة الذبيانى للفصل بين الشعراء، بعد أن يصغى لأشعارهم في خيمته التى نسجت حبالها من الآدم الأحمر، ثم يفصح عن رأيه في كل بيت نظمه جهبذ، وفي كل قصيدة دبجها قطريف، فالبلاغة كانت شائعة في المدن والأسواق، وفي القرى والطرقات، وظلت على تلك الهيئة إلي أن جاء العهد العباسى الذي كانت ممتزجة فيه بمسائل علم النحو واللغة والنقد فهيأ الله لها رجل لا تعزب عنه مادة فى اللغة، ولا معضلة في الأدب، ولا مبهمة في النحو، فأماط عنها اللثام، وجردها عن عزلتها، وإن كانت تدب بين الأنام حين سطر أبوعبيدة معمر بن المثنى كتابه الذى يعده البلاغيون قاطبة أول كتاب في البلاغة أسماه”مجاز القران” الذى ألفه عقب سؤاله عن سر بلاغى يتعلق بإحدى آيات القرآن الكريم وهى قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} الصافات: ٦٥ في تشبيه طلع شجرة الزقوم برؤس الشياطين التي لم يتسنى للبشر رؤيتها إلا في يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وبرر بن المثنى السر في ذلك، أن الله عزوجل أجرى كلامه الأزلي المقدس على غرار العرب في كلامهم، فامرئ القيس يقول:
أيقتلنى والمشرفى مضاجعى*** ومسنونة رزق كأنياب أغوال
والعرب لم ترى الغول قط إلاّ في مخيلتهم وأساطيرهم”
وكتاب ابن المثنى الذي انتظمت ألفاظه، واتسقت عباراته”مجاز القرآن” لم يكن يرمي من كلمة مجاز الوصف البلاغي الذي تعارف عليه علماء البلاغة فيما بعد، وإنما كان ينشد “طريق الوصول إلي فهم المعانى القرآنية، يستوى عنده أن يكون طريق تفسير الكلمات اللغوية التي تحتاج إلي تفسير بالجملة الشارحة، أو بالمرادف المفسر من المفردات، وما كان عن طريق الحقيقة بمعناها، أو طريق المجاز بمعناه عند البلاغيين” ثم تقاطرت مؤلفات العلماء كوكف المطر، تحمل في ثنياياها أسرار البلاغة وقد دمجت خيوطها الموشية مع اللغة والأدب كما في “الكتاب” لسيبويه المتوفى عام 180هـ، وكذلك كتاب “البيان والتبيين” للأديب الذى كان يحرص على الأدب حرص الشحيح على المال، واللغوى المتصرف بأعنة الكلام، والمتفنن في ضروب الخطاب الجاحظ المتوفى عام 255هـ، ثم أعقبه فطحل من صاغة الكلام، وعلماً من الأعلام مازال كتابه “الكامل فى اللغة والأدب” تتهافت لإقتنائه الأنفس، وتشرئب لمطالعته العيون، محمد بن يزيد المبرد المتوفى عام 285هـ صاحب السمع الواعي، واللسان البليغ، وكتاب “البديع” الذى سطره يراع بن المعتز يعد باكورة التأليف المقنن في البلاغة حيث تحدث فيه مؤلفه باسهاب عن سبعة عشر فناً من فنون البلاغة.
ولعل الحقيقة لتى لا يماري فيها أحد أن القرن الرابع كان من أزهى عصور البلاغة، فقد راجت فيه أنماطها، بعد أن أجلى عنها الواغش رجال ذو عقلية فذة، وعزيمة شماء، تعهدوا ألفاظها، و تدبروا معانيها، الأمر الذى أكسب مؤلفاتهم التي اتسعت آفاقها، وتعددت معانيها، مذاق يلذ العقل، ويغذى الوجدان، على نحو ما نقف عليه في “عيار الشعر”لابن طباطبا المتوفى عام322هـ، و”نقد الشعر” لقدامة بن جعفر المتوفى عام337هـ، والموازنة بين أبي تمام والبحترى للآمدى المتوفى عام 371 والذي وازن فيه بين شاعرين قرظوا الآذان، وشنفوا الأسماع، بعقود بعيدة الغاية، رفيعة الطبقة، وكذلك كتاب الوساطة بين المتنبى وخصومه، لعلى بن عبدالعزيز الجرجانى، المتوفى عام 392هـ، ثم كتاب الصناعتين لأبى هلال العسكرى، المتوفى عام 395هـ، والذي فصل في سفره بين موضوعات النقد ومباحث البلاغة،
بلغت البلاغة أوج عظمتها، وحققت أسمى غاياتها، على يد العالم الثبت، واللغوى النحرير صاحب”أسرار البلاغة” و”دلائل الإعجاز” الذى زلل العقبات التي تكتنف هذا العلم، وأنار ليله المدلهم ببوارق من ضياء قلمه، وأرسى قواعده بعلمه الغزير، الذى تجلى فى تحليله للشواهد والأمثلة التي تجعلنا نقف على ينبوع يضخ الجمال، ويورد الفتنة، يقول الشيخ المراغى عن فضل “عبدالقاهر الجرجاني” على البلاغة:”الذي جمع متفرقات هذا العلم، وأقام بناءها على أسس متينة، وأملى فيه كتابيه “أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز” وأحكم بناءها بضرب الأمثلة والشواهد، مع التحقيق العلمي البديع الذي حاكه بلسان عربى مبين، وقرن فيهما بين وضع القواعد الفنية، وصوغها بالأساليب الأدبية، فجمع بين العلم والعمل، إذ هو جد عليم بأن مسائل الفنون إن لم تؤيد بالأمثلة والشواهد لا تتضح حق الوضوح، ولا تتمثل فى الأذهان تمام التمثيل”
ثم بدأ هذا الوهج يخبو، ويتداعى البنيان الوثيق الأركان، الذى شيده الجرجانى بذهنه المتقد، ونظره الثاقب، وساعده المفتول، على”يد علماء غير أدباء ركزوا همهم في جمع قواعدها، وتحديد مصطلحاتها، على حساب النص العربى، والذوق الأدبي، وقد بدأت هذه المرحلة”بنهاية الإيجاز فى دراية الاعجاز للرازى المتوفى عام606هـ، وبلغت غايتها فى”مفتاح العلوم”لأبى يعقوب السكاكى المتوفى عام 626هـ ، والذي جرى الدرس البلاغى في فلكه فترة من الزمن غير قصيرة”، ثم خلف من بعدهم خلف، أضاعوا الأصالة، وذبل فى عهدهم محيا البلاغة، بعد أن كان يتلألأ كفلقة البدر على صفحة الماء، والسر لا يكمن فقط في القرائح التي جهدت، أو العقول التى تراجعت، بل لأن مدونات ذلك النفر قطع جامدة، لا صخب فيها ولا حياة، لقد كانت البلاغة في عصر الجرجانى وأصحابه الغر الميامين، دوحة باسقة الأفرع، ريا الأماليد، وأمست في عهدهم مسخ لا يورق لها غصن، ولا يخضر لها مرعى، ومما زاد الأمر ضغثاً على إبالة، أن أدباء تلك المرحلة اتسموا بالغثاثة والهزال، فأضحت البلاغة على عهدهم أحكاماً يجترونها في رتابة كما تجتر الدابة طعامها في كلال، أو معارف تعاكفوا على صياغتها وحفظها” فقد ابتدأ”الفخر الرازى” بتلخيص كتب الجرجانى تلخيصاً أخذ يبتعد بالبلاغة عن النصوص، ويقترب بها من الحدود والقوانين والأحكام والقواعد، ثم استكملت تقعيدها على يد”السكاكى” فى كتابه مفتاح العلوم” ونجد أن ديدن العلماء الذين جاءوا من بعد السكاكى هو شرح العبارات الصعبة، ووضع المختصرات حوله، لا ومضة من فكر تجول فى ذهن كاتب ، ولا صورة تتمثل فى مخيلة شاعر، بل هو الابتذال، ووضع الحواشى على المتون، والشئ الذى لا يغفل عنه الخاطر، أن قبيلة الشراح كانوا من أطياف شتى، فمنهم الفقيه والمتكلم والنحوي، وقد ظهر جماع ذلك فى ما سالت به أقلامهم، وجرت عليه تعليقاتهم على كتاب السكاكى”مفتاح العلوم” الذى ظل محور للتأليف البلاغي حقبة من الزمان، ونجد أن التلخيصات والشروح لهذه التلخيصات أدت في نهاية المطاف إلي أن ينزوى مفهوم علم البلاغة حتى عصرنا الحالى في ثلاثة أقسام هي علم المعانى، وعلم البيان، وعلم البديع، والقطوف التي نجنيها من خلال هذه الجولة السريعة بين حواشى البلاغة ومراتعها، أن البلاغة مرت بعدة مراحل الأولى هى مرحلة الذوق والفطرة، ثم مرحلة الصقل الأدبى والنضج البلاغى، ثم مرحلة الاضمحلال وانزواء الأدب، الذى غاب خلف أكداس الشرح، وقراطيس الحواشى.