الدبلوماسية السودانية وسد النهضة.. كيف بدأ البشير ضد مصر وكيف غيرت الثورة المسار؟
مع بدايات أزمة سد النهضة رفضت السودان الانضمام إلى اتفاقية عنتيبي.. لكنها البشير بدأ تحولا في اتجاه أديس أبابا
في 2013 استضاف البشير رئيس وزراء إثيوبيا ديسالين.. والرئيس السوداني دعا مصر إلى “الاستفادة المتوقعة من السد”
الثورة السودانية تُغير المؤشر في اتجاه القاهرة.. وإثيوبيا ترد بتحرشات عسكرية على الحدود
وزير الري والموارد المائية السوداني أعلن في يونيو الماضي أن بلاده “تشترط” توقيع اتفاق قبل بدء ملء سد النهضة
كتب – أحمد سلامة
علامة استفهام كبيرة، وضعها المراقبون والمحللون، حول أداء الدبلوماسية السودانية من أزمة سد النهضة، ففي حين يرى كثيرٌ منهم أن السد سيكون وبالا على دولتي المصب (مصر/السودان) أبدوا اندهاشهم من المواقف السودانية المتأرجحة بين القاهرة وأديس أبابا.
داخل السودان، يرى عدد من الخبراء أن الخرطوم تسعى للعب دور توفيقي بين مصر وإثيوبيا، وهو ما اعتبره البعض تجاهلا للأضرار التي ستلحق بالسودان.. لكن البعض الآخر اعتبره دور هام وضروري لدفع جميع الأطراف إلى مائدة الحوار مرة أخرى للوصول إلى حل نهائي يرضي جميع الأطراف.
هل اتفاقية الحريات الأربع هي السبب أم مثلث حلايب؟
مع بدايات أزمة سد النهضة رفضت السودان الانضمام إلى اتفاقية عنتيبي، وهي الاتفاقية التي تم توقيعها بالأحرف الأولى في مايو 2010، بين 4 دول من حوض نهر النيل، في مدينة عنتيبي الأوغندية، من ممثلي إثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا من أجل تقاسم أفضل للمياه.
وأثارت الاتفاقية جدلاً كبيراً وتسببت في خلافات بين دول حوض النيل التي وقف أغلبهم بجانب اثيوبيا التي تتبنى الاتفاقية، بدعوى أن حصة مصر التاريخية مجحفة لباقي دول حوض النيل ولابد من مراجعتها وإعادة تقسيم مياه النيل.
غير أن الرئيس عمر البشير، الرئيس السوداني حينذاك، بدأ في التدرج نحو مواقف أكثر ميلا في اتجاه ترجيح كفة الجانب الإثيوبي والإنحياز إليه ما دفع البعض حينها إلى وصف الموقف السوداني وكأنه موقف “الوسيط” وليس “شريكا” في الأزمة.
البشير أدلى بعدة تصريحات طوال هذه الفترة حول عدم وجود أية أضرار يحملها السد على الجانبين المصري والسوداني، وأنه لن تتأثر حصة البلدين جراء إقامة هذا السد، وأن الدراسات الفنية أكدت أن آثار السد الإيجابية تفوق بكثير آثاره السلبية. بل ذهب لأبعد من ذلك، بقوله إن سد النهضة سوف ينظم النيل الأزرق ويمنع فيضاناته التي تغرق السودان سنويا حتى الخرطوم.
البعض رجح أن يكون السبب في موقف البشير في ذلك التوقيت هو الضغط من أجل البدء في تنفيذ اتفاقية الحريات الأربع التي توقفت بسبب خشية مبارك من زيادة أعداد اللاجئين السودانين، وهي الاتفاقية الموقعة مع مصر في أبريل من العام 2004، وتشمل حرية الدخول والخروج والتنقل والامتلاك بين البلدين.
بينما يشير البعض إلى أن الموقف السوداني من مصر -فيما يتعلق بسد النهضة- في ظل حكم البشير/مبارك جاء نتاجًا طبيعيا لتوتر العلاقات بعد محاولة اغتيال الرئيس المصري في أديس أبابا عام 1995، كما أنه ربما يكون ورقة ضغط لحل قضية منطقة مثلث حلايب وشلاتين الغني بالمعادن وهو أحد التحديات المزمنة التي تواجه علاقات البلدين منذ عام 1902.. لكن ماذا عن الموقف السوداني بعد رحيل مبارك؟
موقف البشير بعد رحيل مبارك
بعد فترة هدوء نسبي بسبب ما قامت به الدبلوماسية الشعبية المصرية في أديس أبابا والخرطوم، عاد البشير مرة أخرى إلى التصريحات الأكثر ميلاً إلى الجانب الإثيوبي، بعد توترات شهدتها علاقات البلدين بسبب الاتهامات التي لاحقت السودان باستضافة بعض عناصر الإخوان الذين فروا عقب ثورة 30 يونيو واتخاذها نقطة انطلاق إلى قطر وتركيا.
ففي ديسمبر 2013، استضاف عمر البشير رئيس الوزراء السوداني هيلي مريام ديسالين، حيث شدد الرئيس السوداني على أن بلاده وافقت على قيام سد النهضة الإثيوبي نافيًا أن يكون ذلك لأسباب سياسية وإنما فقط لأسباب اقتصادية.
البشير قال مخاطبا حشدا من الجمهور بمنطقة القضارف شرقي السودان بحضور رئيس الوزراء الإثيوبى هيلي مريام ديسالين إن السودان سيحقق مكاسب اقتصادية كبرى من قيام السد.
واعتبر البشير -حينها- أن السد سيكون له فوائد كبرى ستعود على دول المنطقة بما فيها مصر نافيا ما تردد حول وجود مضار له على الدول المحيطة به؛ داعيًا مصر إلى “الاستفادة من الفوائد المتوقعة من السد”.. في الوقت الذي أكدت فيه الخارجية السودانية أن تحويل إثيوبيا لمجرى نهر النيل “لا يسبب أي أضرار” للسودان.
لم يتوقف البشير، ومضى يعلن أن البلدين اتفقا على قيام منطقة تجارية حرة في الحدود المشتركة في منطقتي القلابات والمتمة، كما افتتح المسؤلان مشروع ربط كهربائي بين البلدين في منطقة القضارف حيث تبيع أديس أبابا الكهرباء للخرطوم بأسعار تفضيلية.
الأمر دفع “بي بي سي” إلى التعليق قائلة إن ثمة توافقا بين السودان وإثيوبيا حول سد النهضة الإثيوبي على النيل الأزرق على عكس مصر التي لديها اعتراضات وتحفظات على قيام السد الذي قد يقلص حصتها من مياه النيل.
ورغم نفي البشير للأسباب السياسية كمحرك في توجه إلى أديس أبابا إلا أن الكاتبة أماني الطويل تقول في مقال نشرته “اندبندنت” البريطانية، “وظف البشير ملف سد النهضة في عمليات الابتزاز المشهور بها في السياق الإقليمي، ومارس ضد مصر ضغوطا غير محمودة على مدى سنوات، ولكنه تراجع عنها في يناير 2019 حينما عجز عن تطويق الثورة السودانية ضد نظام حكمه، وكان بحاجة إلى الدعم المصري المباشر لإسناده”.
وتضيف “على المستوى الجيوسياسي، تجاهل البشير مصالح السودان في الإقليم، وضرورة التوازن في العلاقة ما بين مصر وإثيوبيا على أسس موضوعية حتي يلبي أمرين؛ الأول مصالح السودان الاستراتيجية كلاعب إقليمي له دور تاريخي بين العرب والأفارقة، وبوابة كل فريق للآخر. الأمر الثاني الاستجابة الواقعية للهوية السودانية ذات المكونين العربي والأفريقي معا، إذ إن طغيان أحدهما على الآخر يخلق مشكلات داخلية وصلت إلى حد المواجهات المسلحة، وخارجية تفقد السودان القدرة على التفاعل مع الإقليم العربي صاحب إمكانات الدعم اللوجيستي للسودان في كل المجالات”.
الثورة السودانية وتغير نسبي.. وتحرشات إثيوبية
في أعقاب الثورة السودانية، بدا أن هناك تغيرا نسبيا في أداء الخرطوم تجاه أزمة سد النهضة، فحدة التصريحات أصبحت أعلى وإن كان البعض يرى أنها لم تصل إلى المستوى المأمول خاصة في ظل المراوغات الإثيوبية، غير أنها تشكل ضغطا على أديس أبابا من أجل الوصول إلى حل عادل.
ففي تصريح لـ“عبدالله حمدوك”رئيس وزراء السودان، لجريدة الأهرام المصرية مطلع العام الجاري، أكد أن “موقف السودان من سد النهضة هو نفسه موقف مصر بل إنه معها في كل خطوة، فالسودان دولة في المنتصف بين إثيوبيا وبين مصر، وأي تأثير لسد النهضة سيكون السودان أول المتأثرين”، مؤكداً أن بلاده، لن تسمح بحدوث أي ضرر لمصر، والسودان، وأن مصالح الخرطوم تتفق مع رؤية مصر من السد، وبالتالي لا بد من التفاهم والتنسيق بين الدول الثلاث في إدارة وتشغيل السد.
ملامح التحول السوداني، دفعت إثيوبيا إلى عمليات تحرش عسكري على الحدود، ففي أواخر في أبريل الماضي، تصاعد التوتر بصورة خطيرة على الحدود السودانية الإثيوبية حول منطقة الفشقة، حيث أعاد الجيش السوداني انتشاره في المنطقة على خلفية توغل الجيش الإثيوبي في منطقة شرق سندس بالفشقة الصغرى في مساحة تقدر بحوالي 55 ألف فدان وهي منطقة مشاريع زراعية تخص مزارعين سودانيين.
ثم في شهر مايو، أطلقت القوات الإثيوبية النيران على معسكر أسفر عن مقتل ضابط سوداني، واتهم الجيش السوداني صراحة نظيره الإثيوبي بمساندة الميليشيا والمشاركة في الاشتباكات.. وعلى خلفية الحادث،استدعت وزارة الخارجية السودانية، سفير إثيوبيا لدى الخرطوم، احتجاجًا على خرق الحدود عند منطقة “الفشقة”.
وفي 21 يونيو، هاجمت مجموعة مسلحة إثيوبية معسكر الأنفال في السودان، مع قصف مدفعي للجيش الإثيوبي استهدف المعسكر الواقع بولاية القضاريف شرقي السودان.
لكن التحرشات الإثيوبية، لم تمنع الدبلوماسية السودانية من المسار المختلف الذي اتخذته، واستمرار مطالبها -المزعجة للجانب الإثيوبي- بتدخل أطراف قارية وأممية لحل المشكلة المتصاعدة؛ حسب تصريحات وزير الري السوداني ياسر عباس.
المسودات والشروط السودانية والتوجه لمجلس الأمن
التغير الملحوظ في سياسات السودان تجاه سد النهضة لم يكن مجرد تصريحات تم الإدلاء بها هنا أو هناك، لكنها تجاوزت ذلك إلى وضع “شروط” فيما يتعلق بالأزمة.
ياسر عباس وزير الري والموارد المائية السوداني، أعلن في 24 يونيو الماضي أن بلاده “تشترط” توقيع اتفاق قبل بدء ملء سد النهضة، وأضاف في مؤتمر صحفي، أن الحكومة السودانية “تواصل جهودها لتنوير الرأي العام المحلي والعالمي بتطورات ملف سد النهضة وموقف السودان منه”، وأشار إلى أنه اجتمع، مع وزير الدولة بوزارة الخارجية، عمر قمر الدين إسماعيل، ورؤساء البعثات الدبلوماسية المعتمدة في السودان، لإخطارهم بآخر تطورات الملف.
تقدمت السودان بثلاث مسودات للإتفاق الشامل في 10 و 12 و 14 يونيو 2020، واستندت هذه المسودات إلى الإجماع الذي تم تحقيقه حتى منتصف فبراير 2020 في واشنطن، بالإضافة إلى المناقشات الفنية الثنائية والمفاوضات الثلاثية التي عُقدت خلال الفترة من 19مايو2020، حتى17 يونيو2020.
وفي خطاباته، اقترح السودان أن يتم ملء السد على مراحل، مع تسريع الملء أو تباطؤه وفقًا لكمية المياه في النهر، على أن تتم التعبئة خلال شهري (يوليو وأغسطس)، وربما في سبتمبر، إذا كان مستوى المياه خلال ذلك الشهر أعلى من المتوسط. وبمجرد ملء سد النهضة للمرة الأولى، سيتم تعبئته بعد ذلك موسميًا خلال موسم الفيضان (يوليو، واغسطس، وربما سبتمبر)، وفي حالة حدوث جفاف، يتبنى مقترح السودان تدابير التخفيف من خلال الرجوع لقواعد الملء الأول، والاستفادة بالمخزون الاستراتيجي المحجوز في السد، حيث يتم تحريره لتوليد الطاقة. ومع ذلك، فإن حالة سنوات الجفاف (شبه) الطويلة، وكيفية التعامل معها، لا تزال قيد المناقشة من قبل الدول الثلاث.
وأكدت الخرطوم أن الأطراف الثلاثة أحرزت تقدمًا كبيرًا في أكثر من 90% من القضايا الفنية الرئيسية، ولا سيما الملء الأول، والتشغيل السنوي، وتدابير التخفيف.. إلا أن فجوة كبيرة ظهرت في القضايا ذات الطبيعة القانونية الملزمة للاتفاقية بما في ذلك التعديلات، وآلية حل النزاعات.
مندوب السودان في الأمم المتحدة، عمر الصديق، كشف -في كلمة ألقاها أمام مجلس الأمن في30 يونيو الماضي- رفض الخرطوم لأي إجراء أحادي بشأن ملء خزان سد النهضة الإثيوبي، لحين الوصول لاتفاق بين الدول الثلاث مصر والسودان وإثيوبيا.
وشدد المندوب السوداني، على إثيوبيا أن تتعاون وتتفاوض لحل مشكلة سد النهضة، مضيفا “التوصل إلى اتفاق قبل ملء سد النهضة ضروري جدا كي نتجنب الإضرار بالملايين من الناس”.
كما شدد على أن الجانبين المصري والسوداني يتعرضان للضرر في حال التعامل الأحادي لذا يجب الوصول إلى تفاوض شامل.
التحولات الإعلامية السودانية في تناول القضية
ومثلما حدث تحول كبير في الدبلوماسية السودانية من قضية سد النهضة، كذلك أظهرت المعالجات الإعلامية والصحفية السودانية تحولات في الموقف السوادني، الذي كان مدفوعًا بمدركات متحيزة في السابق.
الكاتب السوداني، محجوب محمد صالح، في مقال بصحيفة الراكوبة، أشار إلى ضعف الدور السوداني منذ بداية النزاع، على الرغم من أنه صاحب مصلحة، فيما بذلت القاهرة الجهد الدبلوماسي الأكبر في الأزمة، متسائلًا عن دور السودان في الفترة القادمة.
فيما يرى الكاتب السوداني “خالد التيجاني، في مقال بصحيفة إيلاف” أنه لا أحد يعرف على وجه الدقة حقيقة موقف السودان، وإن كان له موقف من معادلة سد النهضة في ظل حسابات ومصالح استراتيجية بالغة التعقيد وسباق أجندات متقاطعة أحياناً ومتناقضة في أخرى.
بينما قال كمال حسن بخيت الكاتب والمحلل السياسي السوداني في تصريح لـ”سبوتنيك”، إن مصر والسودان بلد واحد ولا يمكن لأحدهما أن يترك الآخر لأن المصير مشترك. ويرى أنه لن تتأثر حصة السودان بالفعل، لكن هناك مشكلات تتعلق بالتصميم وعدم صلاحية الأرض المقام عليها السد، مما قد يؤدي إلى اندفاع المياه المحملة بالرواسب ومخلفات الانهيار الأرضي والصخور إلى دولتي المصب، فضلًا عن التحديات المناخية، الذي يؤثر على البدائل الأخرى للمياه التي تعتمد عليها السودان، كمياه الأمطار، التي تغيرات كمياتها، وأماكن هطولها عن السابق، وبالتالي لا غنى عن مياه نهر النيل في التنمية الزراعية السودانية مستقبلًا.
خلاصة القول، أن هناك تصورات جديدة تماما عن الموقف السوداني من أزمة سد النهضة، بما يدفعه في اتجاه مغاير لما كان عليه سابقًا، إذا بات واضحا التحول التدريجي في رأي الخرطوم من الانحياز الكامل إلى إثيوبيا إلى الدور الوسيط الأقرب إلى الحفاظ على حقوق الشعبين المصري والسوداني.