“جميلة” أرملة المغني الثوري التونسي”الهادي قلة”: اللقاء الوحيد مع الشيخ إمام كان متوترا لكن “الهادي” ظل يحبه ويغني له
أجرى الحوار في تونس: كارم يحيى
كان “الهادي قلة” (1951 ـ 2012) من أبرز المغنيين الثوريين أصحاب الأغنية السياسية في تونس. واشتهر بتلحين وأداء أغنية باللهجة العامية لبلاده مازالت حيه لليوم. وهي أغنية “وابور زفر.. خش البحر” ( أغنية الهجرة) من كلمات العامل المهاجر إلى فرنسا “مولودي زليلة”، والذي كان أيضا بين أوساط اليسار التونسي الجديد في باريس نهاية الستينيات وطوال عقد السبعينيات. وفي تلك الفترة كان هذا الفنان التونسي يدرس الترجمة بين الإنجليزية والفرنسية والعربية بجامعة “السربون”، ثم احترف العمل بها.
وبدوره كان “قلة” ـ وتنطق بالتونسية “جلة” ـ جزء من حركة طلابية شبابية تونسية وعربية وأممية تفور بالحيوية. وكان بدوره متأثرا ومتفاعلا مع احتجاجات الجامعات والمدارس العليا في تونس أولا بحلول مارس 1968، ثم في فرنسا اعتبارا من صيف العام نفسه. وهي حركة التقت وقضاياها وهمومها وسريعا مع أغنيات الشيخ “إمام” كي تسهم في التعبير بالفن عن الاحتجاج ضد الظلم الاجتماعي والاستبداد والدولة الوطنية البوليسية القمعية ، وكذا التضامن مع نضالات شعبي فلسطين وفيتنام،
وهكذا تبنت هذه الحركة الطلابية التونسية اليسارية بدورها ومبكرا أغنيات هذا الصوت القادم من ضفاف النيل وحي “الغورية ” الشعبي بالقاهرة. وراحت ترددها إلى جانب أغنياتها هي باللهجة التونسية في جامعات و ميادين وفضاءات العمال المهاجرين التونسييين بخاصة، والمغاربة بصفة عامة بفرنسا وضواحي باريس، ودعما لإضرابتهم عن الطعام (إضرابات الجوع بالتونسية). ولذا كانت أغنيات الشيخ إمام حاضرة خلال نضالات المهاجرين في الضواحي الباريسية المهمشة من أجل حقوقهم وتحسين أوضاعهم الصعبة في سوق العمل وشرعية وجودهم كمهاجرين قادمين من الضفة الجنوبية للبحر المتوسط.. وأيضا ضد كل أشكال التمييز العنصري اللاحق للتحرر الوطني من الاستعمار في عقد الخمسينيات من القرن العشرين.
ولعل ختام أغنية / قصيدة “وابور زفر” تترجم هذه المعاني حين تقول:
” بابور سافر
تحت الضباب
مجشي معبي بخير الشباب
وسقوه للأجنبي بلا حساب
مثل الدواب
الفرق بينه وبين البقر
جواز سفر”.
ولا يعرف المرء إن كان “الهادي قلة” المولود بعد الشيخ إمام بنحو 33 سنة كان واعيا برابطة أخرى تجمعه بالشيخ “إمام” المولود عام 1918. وهي أن والد هذا الطالب التونسي المهاجر إلى فرنسا كان مغرما بدوره كما “إمام” بالتراث الموسيقي والغنائي الكامن في الموشحات الدينية. فقد كان الوالد “حسن قلة” من أبرز المنشدين للمقامات التونسية، ومنشدا لمدائح وأذكار الطريقة “السلامية” الصوفية، وأيضا عضوا بفرقة مدرسة “الرشيدية” للغناء والموسيقى التي تأسست عام 1934 بتونس. لكن المؤكد أن الابن ” الهادي قلة” كان على وعي تام بما تمثله أغنيات الشيخ “إمام” من مضامين ومعان ووشائج واحدة تجمع بين نضالات الشعوب. ولذا أصبح من بين أشهر من يغنيها بين التونسيين في المهاجر الأوروبية وداخل وطنهم .
وفي هذا الحوار مع السيدة “جميلة بن رمضان” أرملة “الهادي قلة” ورفيقة دربه وحياته محاولة لإدراك ما بين “إمام” و”قلة”، وفي سياق تأثير الأول على ذائقة التونسيين ووعيهم، وهو تأثير ممتد لليوم. وأجرى هذا الحوار معها يوم 19 أغسطس 2018 بمقهى حديقة “البلفدير” بوسط مدينة تونس. ونص الحوار بين ملاحق كتاب يصدر لاحقا يقدم فيه الكاتب/ المحاور رؤيته وفهمه كمراسل صحفي عاش في تونس لحضور الشيخ “إمام” اللافت والممتد والمؤثر في حياة التونسيين لليوم، وجيلا بعد جيل منذ بداية سبعينيات القرن العشرين.
وهذا الحوار هو الخامس والأخير من مجموعة جرى نشرها بين ذكرى وفاة الشيخ إمام ( يونيو 1918) وبين ميلاده (2 يوليو 1995). وهي تأتي بين ملاحق كتاب عكفت على جمع مادته في تونس ( شهادات حية ووثائق ومشاهدات) على مدى سنوات حتى عام 2018 . كما أعتبر أن النشر هنا في موقع جريدة “درب” اليسارية بمصر بمثابة تقدير لنضالية كل من واجه ومازال قمع الحجب من النشر في بلادنا.
استمعت لإمام أولا وعمري بين 12 و 13 سنة
ملحوظة :” العديد من الصور المرفقة هنا للشيخ إمام مع المغنيين الثوريين التونسيين خميس البحري ونبراس شمام في باريس 1985، وهي مهداة من أرشيف البحري، فله جزيل الشكر”
*كيف تحفظ ذاكرتك وتعتقدين من هو أول من اكتشف الشيخ إمام بين التونسيين؟
ـ المخرج المسرحي التقدمي الفنان “توفيق الجبالي” هو عندي أول من اكتشف أغانيه. كان في باريس. وأظن أنه سافر إلى مصر وعاد ومعه شرائط “كاسيت” في بداية عقد السبعينيات على ما أظن.
*وكيف سمعت عنه أنت ؟
ـ كان شقيقي الأكبر “أحميد بن رمضان” يدرس علوم سياسية، ويعمل صحفيا في باريس. وهو الذي أرسل إلى الدار عندنا شرائط “كاسيت” تحمل أغنيات الشيخ “إمام”. وكان هذا مع أصدقاء له عادوا من باريس إلى تونس بين عامي 73 و 1974. وقتها تعرفت ـ وكنت تلميذة عمري بين 12 أو 13 سنة ـ على أغنيات مثل: ” الخط ده خطي”، و” بقرة حاحا”، و”مصر يا امه يابهية”، و”واه ياعبد الودود”وغيرها. وفي التوقيت نفسه تعرفت على أغنيات “للهادي قلة” بدأ غناءها بدوره في فرنسا، وبخاصة أغنية “وابور زفر”. لكن لم أكن أعرفه أيضا ولم أقابله مباشرة.
والحقيقة أن أغنيات “إمام” و”قلة” في هذا الزمان كانت أمرا جديدا. لم أكن كغيري من أبناء جيلي ( المولود بعد استقلال تونس عام 1956/ المحاور) قد سمعنا من قبل أغنية ملتزمة، أو نعرف شيئا عن هذه الإغنيات. وبالفعل كانت هذه الأغنيات لاتباع بعد في الأسواق داخل تونس. وهكذا عرفناها واستمعنا إليها للمرة الأولى عندما جاءتنا في شرائط كاسيت من باريس. وفعلا لم أكن بعد أعرف “الهادي” نفسه.
*ومتى عرفت “الهادي قلة” إذن؟
ـ أول مرة رأيته على المسرح في عام 1980 خلال مهرجان قرطاج الدولي الذي تنظمه سنويا ومنذ عهد “بورقيبة ” وزارة الشئون الثقافية بتونس. ولكنني تعرفت عليه مباشرة وكإنسان وفنان في عام 1984. وقتها جاء ليغني مرة أخرى في دورة مهرجان قرطاج لهذا العام. والحقيقة أن هذا المهرجان الذي ترعاه الدولة التونسية كان قد استضاف في الثمانينيات أيضا الفنان اللبناني صاحب الأغنية الملتزمة “مارسيل خليفة”، وجاءت معه زوجته الفرنسية “دومنيك”.
وكنت محظوظة لأنني كنت أعمل في الطاقم المشرف على هذا المهرجان، وكنت حينها “كاتبة” وزير الثقافة (مديرة مكتب الوزير). والطريف أنني كنت على خصام مع الوزير في هذا التوقيت، واخذت إجازة من العمل لمدة ثلاثة أشهر بدون مرتب. لكن علاقتي كانت جيدة بمدير مهرجان حينها “سمير العيادي”، وكنت قريبة من أنشطته.
وتعرفت على “الهادي قلة” بشكل مباشر، وتقاربنا حتى حدث الزواج بين عامي 87 و 1988. وكان فنانا بدوره للأغنية الملتزمة مع عمله واتقانه للترجمة، وعمل بالأمم المتحد ة في جنيف، وبعدها مع منظمة التحرير الفلسطينية من مكاتبها في تونس.
*هل يمكن أن تتذكرين لمن استمعت أولا من فرسان الأغنية الملتزمة في المنطقة؟
ـ أولا “الشيخ إمام”، ثم “الهادي قلة”، ثم استمعت إلى “مارسيل خليفة”. وكان هذا هو الحال بالنسبة لصبية ففتاة شابة تعيش في تونس السبعينينات والثمانينيات.
*ومتى رأيت الشيخ إمام، واستمعت إليه في حفل حي ؟
ـ عندما جاءنا عام 1984. حضرت وأنا صبية حفلة “قبة المنزه”. وكنت وقتها أعمل في وزارة الثقافة. وقتها بدا لي وكأنه يغني أغنيات جديدة. وربما تضايقت حينها لأنه لم يغن أغنياته القديمة التي نعرفها. وقد يكون هذا لأن الخلاف بينه وبين أحمد فؤاد نجم ( شاعره الأول / المحاور) كان قد وقع للتو قبلها وهما معا في الجزائر.
شاهدة على لقاء وحيد
*وماهي شهادتك على تأثر “الهادي قلة” بالشيخ إمام؟
ـ كان الشيخ إمام بالنسبة “للهادي” بمثابة “زكريا أحمد”، وليس له أخ في التلحين والغناء في العالم العربي. وكان دائما يغني له في السهرات الخاصة مع الأصدقاء، وبخاصة أغنية ” قيدوا الشموع”.
*متى التقى “الهادي ” مع الشيخ إمام؟
ـ لا أعرف ما إذا كانا قد القتيا قبل زواجي بـ “الهادي” أم لا. لكننا ألتقينا ثلاثنا في باريس، وبعد زواجي مباشرة وفي غضون شتاء 1988، وبحلول نهاية هذا العام. وعلى كل حال أنا لاأتصور أنه اللقاء الأول بينهما.
*هل قابله “قلة” في القاهرة مثلا؟
ـ هو لم يقم مطلقا بزيارة القاهرة. زار “الهادي ” معظم الدول العربية، لكن القاهرة لا.
*نعود إلى لقاء نهاية عام 1988.. كيف تتذكرينه؟
ـ هذا هو اللقاء الوحيد الذي أعلم يقينا أنه كان بينهما. وكنت حاضرة. وأتذكر أن الشيخ “إمام” قام بلوم “الهادي” على أساس ما وصل إلى مسامعه بأنه تقريبا يحتكر أداء أغنياته في تونس. لكن في الحقيقة فإن “الهادي” كان قد غنى أيضا ولحن أغنيات خاصة به ومن أشعار التونسيين “أبي القاسم الشابي” و”الصغير أولاد أحمد” و الفلسطيني “محمود درويش”، وإلى جانب غيرهم شعراء آخرون كثيرون. وأتذكر أن “الهادي” رد على هذا اللوم مشيرا إلى أنه أسهم في انتشار الشيخ “إمام” في تونس وبين التونسيين. وفي الحقيقة فإن “الهادي” خرج من هذا اللقاء الذي سعى بشغف إليه وهو مصدوم من أن الشيخ إمام ( متغشش.. وبالتونسية تعني متضايق أو زعلان) من كونه يغني أغنياته.
لكن ومع هذا، ظل “الهادي قلة” يعشق الشيخ إمام ويغني أغنيات له. و”الهادي” شخص يحب ولا يعرف أن يكره.
*إلى أي حد تركت هكذا مقابلة أثرا عندك و “الهادي قلة”؟
ـ بالنسبة لي كانت صدمة أن يسلم الشيخ إمام على “الهادي” ببرود. هذا حز في نفسي مع أنني بقيت أحب “إمام”. ومن وجهة نظري فإن “الشيخ إمام” أساء “للهادي”، وحتى أنني ونحن نغادر اللقاء لم أسلم عليه. وأكيد أن هناك من أوقع بينهما.
مع هذا ظل “الهادي” يغني للشيخ “إمام” ويحفظ تراثه. وغنى له أغنية “قيدوا الشموع ياأحبه” في آخر حفلة له، وكانت في المدينة العربي العتيقة بمدينة تونس. وأظنها كانت بين نهاية التسعينيات وأوائل الألفية الجديدة.
*كم من الوقت دامت هذه المقابلة الوحيدة؟
ـ مقابلة الشيخ إمام و”الهادي قلة” الوحيدة جرت لنحو النصف ساعة في باريس، وبحضور توانسة آخرين. وأتذكر منهم ” الهاشمي بن فرج” أول من سجل وعمل على انتاج أسطوانة لأغنيات الشيخ إمام ومن باريس.
*ماهي الأغنيات التي اهتم بأدائها “الهادي قلة” للشيخ إمام في حفلاته؟
ـ أكثر ما غناه وكان يأتينا في شرائط كاسيت “للهادي ” خلال السبعينيات من باريس كانت أغنيات: “بقرة حاحا” و” الخط ده خطي” و”واه ياعبد الودود” و”قيدوا الشموع” و” مصر يا امه يابهية”. هذه كانت أبرز الأغنيات التي جاءت إلينا هنا في تونس من خلال شرائط الكاسيت في السبعينيات.
*هل تتذكرين أن الشيخ إمام غنى أغنيات “للهادي قلة” مشهورة عند التونسيين؟
ـ لا .. لا أعرف ولا أظن .. ربما لم يحدث.
صوت “إمام” من الإذاعة التونسية
*ماهي ذكرياتك عن تعامل الدولة التونسية ووسائل إعلامها مع أغنيات الشيخ إمام؟
ـ شخصيا بحلول الثمانينيات تنبهت إلى تكراربث أغنيات للشيخ إمام بصوته هنا من الخدمة الفرنسية للإذاعة التونسية ومن خلال برنامج ” الحبيب بلعيد”. وبعدها جاء البث خلال عقد التسيعينات من إذاعة “المنستير” بواسطة “الحبيب شغام”، ثم جاء صوت الشيخ “إمام” من الإذاعة الوطنية نفسها (بمثابة البرنامج العام في مصر).
وأنا أرى أن الرئيس “بورقيبة” كان منفتحا. وهو سمح “للهادي قلة ” بالغناء خلال حكمه في الجامعات. وأيضا غنى في مهرجان قرطاج. كما غنت فرقة “ناس الغيوان” المغربية في هذا المهرجان، وهي المعروفة بأغانيها الاحتجاجية الملتزمة.
وتفسيري أيضا أن الحركة الطلابية والعمالية في تونس كانت قوية في عهد “بورقيبة”.وهي التي تقبلت أغنيات الشيخ “إمام”، وساهمت في انتشارها بين التونسيين.