“البكالوريا في الميزان”| خبراء التعليم يناقشون نظام الثانوية الجديد في ندوة بـ”الصحفيين”.. قفزة للأمام أم سقوط في المجهول؟!
كتب – أحمد سلامة
أثار مشروع الثانوية العامة الجديد في مصر، المعروف باسم “البكالوريا”، جدلًا واسعًا في الأوساط التعليمية والمجتمعية، وسط مخاوف متزايدة من تداعياته على مستقبل العملية التعليمية. فمنذ الإعلان عنه، تباينت ردود الفعل بين مؤيد يرى فيه خطوة نحو تحديث التعليم المصري، ومعارض يحذر من أنه قد يفاقم الأزمات القائمة بدلًا من حلها.
أبرز الانتقادات التي وُجهت للنظام الجديد تمحورت حول غياب الرؤية الشاملة والنهج التجريبي المستمر الذي تعاني منه منظومة التعليم، حيث يرى خبراء أن التغييرات المتكررة مع كل وزير جديد تؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار في السياسات التعليمية. كما حذر متخصصون من أن إلغاء بعض المقررات الأساسية، مثل العلوم الإنسانية والفنون، قد يؤدي إلى تقليص آفاق الطلاب الفكرية ويؤثر على قدرتهم على بناء وعيهم الثقافي والاجتماعي.
من جانب آخر، أثار إدخال المواد الدينية كمقررات إجبارية في النظام الجديد انقسامًا حادًا بين الخبراء، حيث يرى البعض أن ذلك قد يؤدي إلى تسييس التعليم وخلق تمييز بين الطلاب، فيما يرى آخرون أن التعليم يجب أن يركز على تعزيز المهارات والمعرفة العلمية دون أن يتداخل مع المعتقدات الشخصية.
وعلى الرغم من أن النظام الجديد يستلهم تجربة “البكالوريا الفرنسية”، إلا أن بعض الخبراء أشاروا إلى عدم تطبيقه بنفس المعايير العالمية، إذ تم استبعاد بعض العناصر الأساسية التي تجعل هذا النموذج ناجحًا في دول أخرى، مثل الحفاظ على “الجذع التعليمي الأساسي” الذي يضمن تكوينًا معرفيًا متوازنًا للطلاب.
في هذا السياق، جاءت ندوة نقابة الصحفيين لمناقشة النظام الجديد، حيث اجتمع نخبة من خبراء التربية والفكر لمناقشة تداعياته المحتملة، وتسليط الضوء على التحديات التي قد تواجه تنفيذه على أرض الواقع.
ونظمت اللجنة الثقافية والفنية بنقابة الصحفيين، ندوة تحت عنوان “الثانوية الجديدة (البكالوريا) في الميزان” شارك فيها د. نادية جمال الدين أستاذ التربية جامعة القاهرة، ومدير المركز القومي للبحوث التربوية الأسبق، د. سامي نصار أستاذ التربية، والعميد الأسبق لكلية الدراسات العليا للتربية جامعة القاهرة، د. أنور مغيث أستاذ الفلسفة جامعة حلوان، والمدير الأسبق للمركز القومى للترجمة، د. عماد جاد مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتجية، وأدارتها إيمان رسلان، الكاتبة الصحفية المتخصصة بشئون التعليم.
ونقاش الحضور مستقبل التعليم في مصر، وتحديدًا مشروع الثانوية العامة الجديد، حيث توالت الآراء المتباينة من الخبراء والمختصين حول تأثير هذا المشروع على الأجيال القادمة وطبيعة العملية التعليمية ككل.
وأكدت الدكتورة نادية جمال الدين، أستاذ التربية بجامعة القاهرة ومدير المركز القومي للبحوث التربوية الأسبق، أن التعليم يمثل عملية مجتمعية تمس حياة كل إنسان، وبالتالي لا يمكن استبعاد المواطنين من المشاركة في تقييم مشروع خدمي يمس مستقبلهم. في نظرها، التعليم كان دائمًا سُلمًا اجتماعيًا للمصريين وأداة للارتقاء، لكنه الآن أصبح مرهونًا بالقدرة المالية، ما يجعل الوصول إلى التعليم المؤهل لمجالات جديدة ميزة إضافية لا تتوفر للجميع.
ورأت نادية جمال الدين أن التعليم لا يجب أن يُختزل في كونه أداة لخدمة سوق العمل فقط، بل هو عملية أعمق تعنى بنقل التراث الثقافي والحضاري، بالإضافة إلى التنشئة السياسية والمعرفية وإتاحة الفرصة لتعلم المهارات التكنولوجية الحديثة. تضيف: “علينا أن نتوقف ونتساءل ماذا يمكن أن يحدث إذا لم نستجب للتغيرات السريعة التي يشهدها العالم؟ إننا بحاجة إلى تعلم مستمر لأن مجتمع المعرفة يختلف عن مجتمع المعلومات والصناعة والزراعة، ولكل مرحلة متطلباتها الجديدة”، كما انتقدت غياب التعليم الفني من المشروع الجديد، مؤكدة أن التغيير في الثانوية العامة يجب أن يبدأ من القواعد وليس من أعلى.
أما الدكتور سامي نصار، أستاذ التربية والعميد الأسبق لكلية الدراسات العليا للتربية بجامعة القاهرة، فرأى أن التغييرات في التعليم المصري تتم بشكل موسمي مع كل وزير جديد، ما يجعل الثانوية العامة محور النقاش الدائم.. مشددًا على حق كل مواطن في التعلم إلى أقصى حد بغض النظر عن ارتباطه بسوق العمل، موضحًا في الوقت ذاته أن التعليم يجب أن يبني شخصية قادرة على التعلم في أي وقت وبأي وسيلة.
وفي حديثه عن المشروع الجديد، أشار نصار إلى أنه قد يبدو في ظاهره تخفيفًا عن أولياء الأمور، لكنه في الحقيقة يثير تساؤلات حول إلغاء المقررات الأساسية التي تبني مقومات الفرد.
وانتقد نصار استبعاد العلوم الإنسانية والفنون، معتبرًا ذلك هدمًا لجوانب أساسية من التعليم، خاصة في ظل وجود مشكلات بنيوية تتمثل في نقص التمويل والمعلمين والمباني التعليمية.. مؤكدًا ضرورة التركيز على التعليم الفني، الذي يلتحق به حاليًا نسبة كبيرة من الطلاب، ويدعو إلى توحيد المرحلة الثانوية لضمان نظام تعليمي موحد وشامل.
من جانبه، أوضح الدكتور أنور مغيث، أستاذ الفلسفة بجامعة حلوان والمدير الأسبق للمركز القومي للترجمة، أن نموذج “البكالوريا” مطبق بالفعل في النظام الفرنسي ولكن مع الحفاظ على مقومات ما وصفه بـ”الجذع التعليمي الأساسي”.. لافتًا إلى غياب مواد مثل التاريخ والفلسفة في النموذج المصري، مما يؤدي إلى تضييق آفاق الطالب وتقليص قدرته على بناء هويته.
كما انتقد مغيث فكرة المواد الدينية، معتبرًا أنها تخلق تضاربًا في العلاقات وتتناقض مع طبيعة المواد العلمية، مشيرًا إلى التجربة الفرنسية التي تؤكد أن المدرسة مكان للمعرفة وليس للاعتقاد.
من جهته، تحدث الدكتور عماد جاد، مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، عن الجدل المثار حول إدخال الدين كمادة إجبارية في التعليم الثانوي. وقال جاد إن دور الدولة يجب أن يقتصر على توفير تعليم جيد وعدالة اجتماعية، وليس التدخل في المعتقدات الدينية للأفراد.. مشيرًا إلى أن محاولات التمييز بين المواطنين على أسس دينية تعود إلى سياسات بدأت منذ عام 1952 واستمرت في التأثير على بنية النظام التعليمي.. مُشددًا على أن تلقين الدين في التعليم يحوله إلى أداة سياسية، داعيًا في الوقت ذاته إلى احترام الدين بإبعاده عن أي استغلال سياسي.
وتطرق جاد إلى قضية الكتاتيب التي طُرحت مؤخرًا كحل لتعزيز التعليم، منتقدًا هذا الطرح في ظل التقدم العالمي في الذكاء الاصطناعي ووسائل التعلم الحديثة.. مُطالبًا بضرورة إطلاق حملة يقودها خبراء مختصون لمنع إضافة مادة الدين للمجموع، منبهًا إلى حتمية أن يبقى التعليم بعيدًا عن أي محاولات لإقحام الدين في تقييم الطلاب.