“الأستاذ والإنسان”| في وداع القيادي الكبير عبدالغفار شكر: أحاديث قطعها الرحيل.. نلقاك في مكانٍ أفضل
كتب – أحمد سلامة
“الأستاذ/الإنسان”، بتلك الثنائية ودّع التلاميذ مُعلمهم، انهمرت الدموع في شكل كلماتٍ نعوا بها أنفسهم في غيابه قبل أن ينعوا رحيله، شعورٌ بالفقد شكّلته العبارات، إحساس بألم الفراق عززته الحروف.. وذكرياتٌ ستبقى خالدة كخلود شعاع النور الذي يشق قلب الظلام فجرًا.
بالأمس غيّب الموت السياسي والقيادي اليساري الكبير عبد الغفار شكر، نائب رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان السابق، عن عمر يناهز ٨٥ عاما،
شغل شكر عدة مناصب من بينها نائب رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان المصري، نائب رئيس مركز البحوث العربية والإفريقية بالقاهرة ورئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي السابق، أمين التثقيف في التنظيم الشبابي الاشتراكي السابق، وعضو المكتب السياسي لحزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي سابقا.
وليس من الإنصاف أن نقول إن المناصب التي تولاها شكر أضافت إليه، فربما كان جميعها أقل شأنًا من قيمته ومن تاريخه النضالي الذي استمر لسنوات طوال.. وقد يكون سبب ذلك أنه كان دائم الرفض للتفاوض على المبادئ، لم تكن في نظره محل مساومة.
غاب شكر عن الحياة، وهو قابض على المبادئ كالقابض على جمر من نار، لا يُهدرها ولا يخونها ولا يستبدلها بما هو أدنى، لذا ستبقى سيرته حيّة في قلوب من أحبوه.
– عبدالغفار شكر الإنسان
أحمد طلال شكر، نجل شقيق الراحل كتب يقول “رحل عنا اليوم عمي الغالي، من علمنا كل شئ بداية من كيف تكون إنساناً متسقاً مع مبادئك وقيمك وألا تخونها أبدًا مهما كلفك الأمر نهاية بمهما رُفع شأنك يجب أن تكون متواضعًا غير متعالٍ، علمني أيضاً كيف تكون شخصاً مستقلاً صاحب رأي حر مرناً في التفكير و مستوعباً للاختلاف.. وداعاً عبد الغفار شكر الأب الروحي نلقاك قريبًا في مكان أفضل”.
جمعة رمضان عضو مكتب السياسيات بحزب التحالف الشعبي الاشتراكي يروي عن الراحل “في عام 2012 وفي أول زيارة لمقر حزب التحالف الشعبي بوسط القاهرة بعد تأسيسه، بمجرد دخولي من باب المقر لمحت صديقي الأستاذ وائل توفيق بهيئته المميزة وهو يوجه حديثه محتداً إلى شخص وقور جالس أمامه لم أكد أتبينه إلا عندما اقتربت أكثر وإذ به الأستاذ عبد الغفار شكر رئيس الحزب ووكيل مؤسسيه جالسًا مبتسمًا ينصت ويهز راسه موافقًا ويعقب بصوت هادئ – حاضر يا وائل بس طول بالك شوية يا زميل ..اشفقت على الرجل من ثورية وائل وحاولت التهدئة فنظر إليّ بابتسامة صافية قائلا ماتشغلش بالك يا جمعة وائل ابني وحبيبي ودا العادي والطبيعي بيني وبينه في الأمور الحزبية، احنا بنبني حزب يساري وياريت كل الزملا في حماسة وائل ..وهذا ماتاكد لي بعدما عدت الى الصالة مرة اخرى ووجدتهما مستغرقان في وشوشة ودودة ووائل يناوله فنجان القهوة او كوب شاي لااتذكر ..قبلته جبينه وعدت الى غرفة التحقيق ممتثلا لاستدعاء الزملاء المحققين”.
ويضيف رمضان “في المرة الثانية وفي ذات العام يغني المشهد عن التفاصيل عندما رافقت الشيخ الجليل وهو يتحامل على نفسه ويتقدم مسيرة الحزب متأبطاً ذراع الاستاذ خالد علي المنضم حديثاً للحزب في مسيرة هائلة انطلقت من مقر الحزب في باب اللوق مروراً بعابدين والسيدة زينب وشارع القصر العيني وصولا الى ميدان التحرير.. في المرة الثالثة يؤثر على نفسه برغم آثار الجلطة التي ألمت به وخضوعه لعملية جراحية كبرى ليقف وسط رفاقه في مؤتمر الحزب الثالث حاضر الذهن ينصح ويوجه ويعرض رؤيته للظرف السياسي واستراتجية العمل في فترة مابعد المؤتمر، يلمس اسباب الخلل ويطرح سبل معالجتها بدقة قبل ان يسلم الراية الى الرئيس المنتخب الجديد لقيادة الحزب الاستاذ مدحت الزاهد”.
ويختتم رمضان “رحم الله الاستاذ الزميل عبد الغفار شكر الرئيس السابق لحزب التحالف الشعبي الاشتراكي ، رائد التثقيف السياسي في مصر، وأحد اهم صناع السياسات وبناء التنظيمات، ورمز هام من رموز الحركة الوطنية المصرية والعربية في تاريخها الحديث الذي غادر عالمنا صباح اليوم تاركًا ورائه تاريخا طويلا من النضال والاسهام الفكري والتنظيمي والتثقيفي في صفوف اليسار المصري والعربي”.
– عبدالغفار شكر الأستاذ
يروي القيادي اليساري حمدي عبدالعزيز ذكرياته مع الأستاذ عبدالغفار شكر فيقول “كان سبباً في تحول مهم في حياتي.. فقد كنت في بدايات شبابي في آواخر السبعينيات مجرد شاب قرأ عن الإشتراكية من بوابة الأدب واكتساب المعارف ثم السياسة بشكل هامشي، وكان أن انضممت لحزب التجمع باعتباره أقرب الأحزاب إلى افكاري وقتها، لم أكن امتلك القدرة على صياغة أفكاري، والوصول إلى ما هو مهم وجوهري عند طرح أي فكرة، ولم أكن أستطيع ترتيب أفكاري أو تنظيمها، كما أن ما أحصله من الأفكار والمعلومات لم يكن يتناسب علي الإطلاق مع كم ما أقرأ”.
يسترسل عبدالعزيز “تصادف في آوائل الثمانينيات أن بدأ الأستاذ عبد الغفار شكر الذي كان يتولي مهمة أمين ثقيف حزب التجمع أن بدأ تنفيذ مشروعه الذي وافقت عليه قيادة التجمع تحت عنوان (دورة إعداد الكادر السياسي) وأرسل إلى كل لجنة محافظة أن تحدد مجموعة من الأعضاء الشباب ممن يتوسم فيهم أن يكونوا كوادر المستقبل، كان اسمي ضمن المختارين عن محافظة البحيرة، وكانت المرة الأولى التي أخطو فيها بقدمي القاهرة بعد خمس سنوات من مغادرتها نهائياً أسرتي في 1973 “.
ويتابع “جمعنا الأستاذ عبد الغفار في قاعات مبيت بمراتب إسفنجية على الأرض تجاورها قاعة محاضرات في أعلى مبنى حزب التجمع في القاهرة مع إعاشة في حدودها المتقشفة تشبه إعاشة أعضاء معسكرات الكشافة غالباً ما تتكون من وجبات الفول والطعمية ولاتتجاوز في سقفها حدود اللانشون وثمرة البرتقال لكل دارس مع بونات لثلاثة أكواب شاي في اليوم من بوفيه التجمع، بدأها بمحاضرات أعدها هو حول كيف نتعامل مع المحاضرات وكيف نستقبل المعلومات وكيف نحللها وكيف نحدد الجوهري من المحاضرة والفكرة الأساسية للمحاضر، ثم كيف نطرح أسئلتنا وأفكارنا وكيف نتحاور وبحيث نتعلم كيف نطرح أفكارنا في أقل وقت ممكن بعد أن نرتبها ونحدد جوهرها، وكيف نكون موضوعيين أثناء تحليلنا للأحداث واستخلاص دروسها وما هو منهج الطرح المناسب الذي يضمن وصول افكارنا للطرف المقابل المتفاعل أياً كان أفرادًا أو مجموعات أو جماهير وبشكل واضح يضمن سهولة فهم المتلقي وتفاعله معها.. ثم كان يضعنا في اختبارات ويعين لنا أخطائنا المنهجية.. وهكذا..”.
ويُردف “ثم توالت المحاضرات في علوم الاقتصاد والاجتماع والتاريخ والعلوم السياسية على يد أساتذة وقامات علمية وسياسية إستثنائية في تاريخ مصر من أمثال الدكتور فؤاد مرسي والدكتور اسماعيل صبري عبدالله والدكتور سعد الدين إبراهيم والدكتور رفعت السعيد والكاتب الكبير لطفي الخولي والدكتور محمد خلف الله والدكتور سمير فياض والكاتب والمفكر البديع محمد سيد احمد والأستاذة أمينة شفيق والأستاذ حسين عبد الرازق رحمهم الله جميعاً”.
ويستكمل “ثم طور الأستاذ عبد الغفار الفكرة بإعداد كادر يقوم بنقل هذه المحاضرات إلى المحافظات، وعليه تم استدعائنا بعد فترة لدورة تالية لإعدادنا كقيادات تثقيف تنقل عملية التثقيف بكاملها إلى المحافظات وبحيث نتحول نحن الدارسين إلى محاضرين في محافظاتنا، وهكذا تم عقد دورة ثانية بجرعات تثقيفية مكثفة ثم اعقبها بدورات منضغطة المدي الزمني (خميس وجمعة) في عواصم أقليمية تجمع قطاعات جغرافية ثم دورات يتحول فيها المتدربين إلي محاضرين وهكذا إلي أن اصبحت هذه السلسلة من الدورات نقطة تحول في حياة الكثيرين من شباب حزب التجمع الذين اصبحوا قيادات ليس في حزب التجمع فقط وانما في كثير من الأحزاب السياسية المصرية منذ الثمانينيات وحتي تاريخه.. ظل الاستاذ عبد الغفار شكر يتابع عملية تربية وتدريب الكوادر منذ تأسيس حزب التجمع وحتي مطلع الألفية الثالثة، وظل على اتصال وثيق بتلاميذه لايبخل عليهم بالنصيحة ولا يكل من المبادرة بمتابعتهم ولو تطلب الأمر تحمل مشقة السفر من القاهرة إلى أبعد مكان في مصر ليلتقي لتلاميذه ويعلمهم ويدربهم بحيوية وحماس ونشاط ومثابرة ودأب شديد ، وحميمية إنسانية مع ضرب الأمثلة في التضحية بالجهد والوقت ونكران الذات ، والتواضع الجم ، والمبادرة الدائمة نحو فتح نوافذ الفهم حتي بين المختلفين في الافكار على نحو حاد وعميق”.
ويختتم عبدالعزيز “وكواحد من تلاميذ الأستاذ عبد الغفار شكر، وكواحد من المدينين له بالفضل العظيم.. أشهد أنه الرائد في واحدة من أهم تجارب التعليم والتدريب والتثقيف السياسي والفكري التي جرت في صفوف اليسار المصري والتي لو كان قد قدر لها الاستمرار والإمتداد إلى أجيال تالية لكان لليسار المصري شأن آخر، وأشهد على نحو يخصني أنه أحد أهم من أثروا في بنياني الذاتي، وعلموني كيفية التفكير العلمي والنظرة الموضوعية، والنقاش المبدع الخلاق للأفكار”.
– عبدالغفار شكر الإنسان والأستاذ
يقول المحامي الحقوقي نجاد البرعي عن عبدالغفار شكر “الرجل كان أكبر من كل ما شغله من مواقع منذ موقعه الأول كواحد من الآباء المؤسسين لمنظمه الشباب الاشتراكي وإلى موقعه الأخير كنائب لرئيس المجلس القومي لحقوق الانسان”.
يضيف البرعي “كتله من العلم المتواضع.. رجل يعرف قيمة ما لديه من علم ويبذله لمن يطلبه دون نظر إلى مغنم مادي أو معنوي.. آخر مرة التقيته جاء الرجل بصحبه حفيده.. كانت روحه أقوى من المرض.. تعرض لجلطة دماغية أفقدت جانبه الأيمن القدرة على الحركة ولكنه ظل يناضل ويكتب ويناقش وينصح ويمزح إلى النهاية”.
ويستكمل البرعي “الأعمال التي قدمتها معه يمكن أن اعتبرها من أهم ما قدمت في حياتي ولكن أهمها وآخرها كان قيامه معنا على تقديم استراتيجية وطنيه لمكافحه التعذيب ٢٠١٥-٢٠٢٠ . وهي الاستراتيجة التي كان أحد أهدافها وضع قانون لمناهضة التعذيب وأدى إلى التحقيق معي عامين لهذا السبب”.
ويتابع البرعي “كان عبد الغفار شكر إنسانًا بكل ما تعنيه تلك الكلمة.. تحدثنا معا منذ بداية وباء كورونا عشرات المرات وطلبت منه اللقاء ولكنه كان يخشي من الفيروس اللعين فيعتذر. لم يعد الموت يرهبني ولم أعد حتى أفتقد الأصدقاء الذين رحلوا قبلي فأنا أعلم أني لاحقٌ بهم عما قريب في رحاب الله وأن احاديثنا التي قطعها الموت ستعود وتتصل في رحاب الله.. وصدق الله العظيم إذ يقول ” وينجي الله اللذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السؤ ولا هم يحزنون ” صدق الله العظيم . وإنا لله وإنا اليه راجعون”.
الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي نعت السياسي والمناضل عبد الغفار شكر مؤكدة أنه كان أحد أبرز القامات العلمية والنضالية في مصر، مذكرة بسيرته الذاتية كواحد من أهم الباحثين العرب الذين تركزت أبحاثهم على قضايا التطور الديمقراطي.
وقالت الأمانة في بيانها “الراحل الاستاذ عبد الغفار شكر ولد عام 1936 وبدأ حياته السياسية مبكراً في عامه السابع عشر ، وتخرج من كلية الآداب جامعة القاهرة عام 1958، وفي العام نفسه التحق بالاتحاد القومي، ثم الاتحاد الاشتراكي عام 1963، وفي العام 1964 أصبح اميناً للتثقيف في تنظيم الشباب الاشتراكي، الذي كان يعتبر أحد الأجهزة المعلنة للاتحاد الاشتراكي، وكذلك انتمى للتنظيم الطليعي الذي أسّسه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر”.
وأضافت “الراحل الاستاذ عبد الغفار شكر عُرف ايضاً كأحد أبرز الباحثين العرب ، وتركزت ابحاثه على قضايا التطور الديمقراطي والمجتمع المدني بالوطن العربي وقضايا وخبرات العمل الحزبي والسياسي وقضايا التعاون والتنمية الاجتماعية وقضايا العولمة والرأسمالية وتأثيرها على الوطن العربي ، وصدر له عدّة مؤلفات منها ما صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية: الطليعة العربية -التنظيم القومي السّري لجمال عبد الناصر (1965-1986) ، وجزء ثاني عن الطليعة (1965- 1986) ، و منظمة الشباب الاشتراكي- تجربة مصرية في إعداد القيادات (1963- 1976)”.
واستكملت “وصدر له عن مؤسسات أخرى عدّة كتب عن اليسار العربي واليسار المصري ، وعن الديمقراطية وحقوق الإنسان العربي، كما كان من أبرز معارضي معاهدة (كامب ديفيد)، وكان من قادة ثورة 25 يناير ، وتولى عام 2013 منصب نائب رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر إلى جانب الشخصية القومية واحد مؤسسي المؤتمر القومي العربي الأستاذ محمد فائق ، وخلال هذه المهمة أعدّ مع عدد من أعضاء المجلس مقترحاً لعفو رئاسي عن المعتقلين غير المتورطين بأعمال عنف للإفراج عنهم ، كما رفض شطب الأحزاب التي لا تمثّل في البرلمان”.