الأزمة تتفاقم| شرق آسيا على حافة الانفجار: تصعيد خطير بين الصين واليابان يهدد استقرار المنطقة
كتب – أحمد سلامة
تشهد العلاقات بين الصين واليابان واحدة من أكثر مراحل التوتر خطورة منذ عقود، في ظل تصعيد متسارع يجمع بين الخطاب السياسي الحاد والإجراءات الاقتصادية والأنشطة العسكرية الميدانية.
هذا التصعيد لا يبدو حدثًا عابرًا، بل يشير إلى تحوّل عميق في طريقة تعامل البلدين مع بعضهما ومع البيئة الإقليمية المحيطة، خاصة في ما يتعلق بملف تايوان والجزر المتنازع عليها في بحر الصين الشرقي، وهي قضايا تُعد شديدة الحساسية لدى الطرفين، وكذلك لدى الولايات المتحدة، القوة الأكثر حضورًا في المنطقة.
وتعود شرارة الأزمة الأخيرة إلى السابع من نوفمبر، عندما أطلقت رئيسة الوزراء اليابانية الجديدة، ساناي تاكايتشي، تصريحات قوية في البرلمان تحدثت فيها عن أن أي هجوم صيني على تايوان سيُعد “تهديدًا وجوديًا” لليابان، الأمر الذي قد يجعل طوكيو مجبرة على التدخل عسكريًا إلى جانب الولايات المتحدة.
جاءت هذه التصريحات في وقت يشهد داخليًا صعود تيارات يمينية داخل اليابان تدعو إلى سياسة دفاعية أكثر حزمًا، وزيادة الإنفاق العسكري، وتعديل الدستور السلمي الذي فرضته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.
من جانبها، اعتبرت بكين هذه التصريحات استهدافًا مباشرًا لها، متهمة اليابان بإحياء “النزعة العسكرية القديمة”، ومذكّرة بما تصفه بـ“الجرائم التاريخية” التي ارتكبتها طوكيو خلال الغزو الياباني للصين في ثلاثينيات القرن الماضي.
لم تمضِ أيام قليلة حتى بدأت الصين في اتخاذ خطوات عملية تعكس مستوى الاستياء الرسمي، ففي الخامس عشر من نوفمبر، أصدرت سفارتها في طوكيو تحذيرًا شديد اللهجة لمواطنيها بعدم السفر إلى اليابان بسبب “مخاطر أمنية خطيرة”، وهو قرار تسبب في إلغاء آلاف الرحلات السياحية، وهو ما شكّل ضربة كبيرة لقطاع السياحة الياباني الذي يعتمد بدرجة كبيرة على الزوار الصينيين.
وتبع ذلك إجراء أكثر حساسية حين أعلنت بكين تعليق استيراد جميع المأكولات البحرية اليابانية بدعوى مخاوف متعلقة بالمياه المعالجة من مفاعل فوكوشيما. وعلى الرغم من أن الصين كانت قد فرضت في عام 2023 حظرًا جزئيًا على بعض المنتجات البحرية، إلا أن التوسّع الحالي يُعد الأكبر من نوعه، ويحمل أبعادًا سياسية واضحة.
كما اتخذت بكين قرارًا مفاجئًا بوقف عرض الأفلام اليابانية في دور السينما الصينية، وهي خطوة تُعد جزءًا من أدوات الضغط الثقافي التي تستخدمها الصين أحيانًا للتعبير عن استيائها من سياسات الدول الأخرى.
أما اليابان، فقد حاولت بداية التعامل مع التصعيد الصيني بنبرة متوازنة، لكنها اضطرت في الثامن عشر من نوفمبر إلى إصدار تحذير سفر لمواطنيها في الصين يدعوهم إلى تجنب الأماكن المزدحمة والتجمعات العامة.
ورغم أن طوكيو لم تتخذ إجراءات اقتصادية مضادة، إلا أنها اتجهت سريعًا نحو تعزيز قدراتها الدفاعية، خصوصًا في المناطق القريبة من نقاط التوتر، حيث أعلنت وزارة الدفاع رفع مستوى التأهب في جزر أوكيناوا، وبدأت تسريع خطط نشر أنظمة صواريخ مضادة للسفن يمكنها استهداف القطع البحرية التي تقترب من الجزر المتنازع عليها.
وفي الوقت ذاته، قامت الصين بإرسال سفن تابعة لحرس السواحل قرب جزر سينكاكو (التي تسميها الصين دياويو)، في أحدث سلسلة من التحركات البحرية التي تتزامن عادة مع الأزمات السياسية.. كما نفذت تدريبات عسكرية واسعة في بحر الصين الأصفر، شملت مناورات جوية وبحرية، فسرها الخبراء بأنها رسالة مزدوجة: الأولى لليابان ردًا على تصريحات رئيسة الوزراء، والثانية للولايات المتحدة التي تراقب المشهد عن قرب.
اقتصاديًا، تبدو تداعيات الأزمة ثقيلة على البلدين، لكن اليابان تواجه حتى الآن كلفة أكبر.. فالصين كانت قبل التصعيد أكبر مصدر للسياحة الوافدة إلى اليابان، كما تُعد سوقًا ضخمًا للمنتجات البحرية اليابانية.. وقد قدّر محللون الخسائر المباشرة في قطاعي السياحة والتصدير بمليارات الدولارات، وبالفعل شهدت أسهم العديد من الشركات اليابانية العاملة في قطاعي السياحة والتجزئة تراجعًا حادًا خوفًا من استمرار الأزمة لفترة طويلة.
من جهتها، تستفيد الصين من كونها شريكًا تجاريًا لا يمكن لليابان تجاهله بسهولة، وهو ما يمنحها مساحة واسعة لاستخدام الاقتصاد كأداة ضغط سياسي، خاصة في ظل اعتماد جزء كبير من الشركات اليابانية على السوق الصينية في التصنيع أو التوزيع.
إقليميًا، تتابع دول آسيا والمحيط الهادئ الأزمة بقلق بالغ، الولايات المتحدة أعلنت دعمها غير المشروط لليابان، ونفذت تدريبات عسكرية مشتركة قرب تايوان، فيما عبّرت كل من كوريا الجنوبية وأستراليا عن قلقهما من أن يؤدي أي سوء تقدير إلى مواجهة مباشرة. أما دول آسيان، فقد دعت الطرفين إلى ضبط النفس، خاصة أن أي توتر في بحر الصين الشرقي قد ينعكس سريعًا على بحر الصين الجنوبي، الذي يشهد أصلًا نزاعات معقدة.
ويرى خبراء أن الأزمة الحالية ليست مجرد رد فعل متبادل، بل هي انعكاس لتغيّر أعمق في البيئة الاستراتيجية في آسيا.. اليابان أصبحت أكثر استعدادًا لمغادرة سياسة “الحياد العسكري النسبي”، فيما تشعر الصين بأن الولايات المتحدة وحلفاءها يسعون لتطويقها عسكريًا واقتصاديًا.. وبين هذا وذاك، تبقى المخاوف الأكبر من حدوث احتكاك عسكري غير مقصود بين سفن أو طائرات البلدين، ما قد يضع المنطقة أمام مواجهة لا يريدها أي طرف لكنها قد تندلع بشكل مفاجئ.
ومع غياب مؤشرات للتهدئة، واستمرار الخطاب المتشدد في بكين وطوكيو، يبدو أن الأزمة قد تكون مقدمة لمرحلة جديدة من إعادة رسم موازين القوى في شرق آسيا، في منطقة يُنظر إليها أصلاً على أنها مرشحة لتكون بؤرة التوتر الكبرى في العالم خلال السنوات المقبلة.

