إلهامي الميرغني يكتب : دميانة نصار أم ماريو.. المرأة المصرية المعيلة بين الإنكار والإقرار
عرضت في كتابات سابقة لواقع وابعاد الفقر المتعدد الأبعاد في مصر ومن واقع التقارير الرسمية المنشورة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. وعادة نستخدم المصادر الحكومية الرسمية للمعلومات حتى لو اختلفنا على طريقة الحساب.
انزعج بعض الفنانين في مهرجان الجونة عند عرض فيلم “ريش” للمؤلف والمخرج عمر الزهيري الذي اعتمد على ممثلين هواة وغير محترفين لتجسيد معاناة أسرة مصرية فقيرة في صعيد مصر، واختار قرية دير البرشا إحدى قري محافظة المنيا مكان لأحداث الفيلم الذي قامت ببطولته فنانة تلقائية من القرية اسمها دميانة نصار والفيلم لم يعرض تجارياً حتى الآن.
حصل الفيلم على جائزة في مهرجان كان كما كرمت وزيرة الثقافة صناع الفيلم. ورغم الضجة التي أثيرت خلال عرض الفيلم في مهرجان الجونة السينمائي إلا إنه حصل على جائزة من المهرجان تضاف للتقدير الذي يحظى به الفيلم. وإذا كان البعض يعترض بأن الممثلين هواة فهذه ميزة للعمل وإيجابية للمنتج والمخرج لأن تحريك الممثلين غير المحترفين وتجربتهم الأولي في الوقوف أمام الكاميرا تستوجب تحية للمنتج محمد حفظي والمخرج عمر الزهيري ولكل صناع الفيلم وعلى رأسهم السيدة دميانة نصار بطلة الفيلم والتي بدأت علاقتها بالتمثيل في فرقة هواة تقوم بعروض مسرح الشارع في القرية.
تدور أحداث الفيلم حول معاناة أسرة فقيرة في قرية فقيرة بمحافظة المنيا يغيب عائلها وتقوم زوجته بتحمل مسئولية الأسرة والإصرار على حماية الأسرة وعبور الأزمة رغم التحديات.
الفقر في الريف المصري
نتائج بحث الدخل والانفاق والاستهلاك الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء يرصد الفقر في الريف المصري ومعدلاته التي تتراوح بين 3% في قرية بلوس الهوى مركز السنطة بمحافظة الغربية و92% في قرية العلاقي بمحافظة أسوان، ومن بين أفقر 1000 قرية يعيش 12 مليون نسمة منهم 8 مليون فقراء وفق معدلات الفقر التي يعتمدها الجهاز (67% من سكان هذه القري). ومن بين أفقر 1000 قرية هناك 236 قرية في سوهاح (تمثل 87 % من إجمالي القرى في سوهاج) و207 قرية في اسيوط (تمثل 88 % من إجمالي القرى في اسيوط)، و163 قرية في المنيا و155 قرية في البحيرة ،60 قرية في قنا.
تمثل القري الفقيرة في محافظة المنيا 47% من قري المحافظة وفقاً لبحث الجهاز المركزي المنشور من أعلي مصدر معلومات رسمي في الدولة ورغم ذلك ينكر البعض حقيقة الفقر ومعاناة الفقراء ويعتبرونها إساءة لسمعة مصر. والأفضل ان يرجعوا للتقارير الدولية عن التنمية البشرية والفقر ويمنعوهم من نشر بيانات الفقر وتوزيعه واعبائه في مصر فهو فقر متعدد الابعاد ولكن البعض يرفض الاعتراف بالحقيقة ويعتبرها إساءة، بينما الإساءة الحقيقية هي عدم تحديد ابعاد الفقر وخريطة توزيعه ووضع خطط لمواجهته وعلاجه والقضاء عليه.
دميانة نصار تجسد معاناة المرأة المعيلة
جسدت الفنانة دميانة نصار في الفيلم دور المرأة الصعيدية الأمية المسيحية الفقيرة التي غاب زوجها لسنوات في ليبيا ثم عاد وفي الفيلم يحدث اختفاء ثاني للزوج الذي يسحره ساحر القرية ويعجز عن إعادته فيعود في شكل دجاجة و عبء إضافي علي أم ماريو التي تضطر لإعالة الأسرة والزوج “الفرخة”. قد لا يعرف رواد الجونة من ساكني كموبوندات زد في الشيخ زايد والتجمع الخامس أوضاع الفقراء ومدي معاناتهم من أجل توفير ضرورات الحياة ويصبح كل هدفهم هو مجرد الاستمرار بالحد الأدنى للمعيشة.
منذ سنوات طويلة عرف علماء الاجتماع ظاهرة ” تأنيث الفقر” وكذلك ظاهرة المرأة المعيلة والتي يتم حصرها ضمن تعداد السكان. وإذا نظرنا إلى نتائج دراسة السكان لعام 2019 نجد أنه يوجد 5.4 مليون أسرة تعولها النساء وهن يمثلن 30% من الأسر في مصر وتصل النسبة الي 57% في المناطق العشوائية وفق بعض الدراسات، إذا الدور الذي جسدته دميانة نصار في فيلم ” ريش” هو تعبير عن معاناة 5.4 مليون أسرة مصرية تعولها نساء. وتفيد نتائج التعداد بإن الأميات منهن 59.1 % من إجمالي الإناث رؤساء الأسر يليها الحاصلات على مؤهل متوسط 17.6 %، ثم الحاصلات على مؤهل جامعي بنسبة 8.5 %.
كما أوضحت نتائج التعداد أن 70.3 % من إجمالي الإناث رؤساء الأسر أرامل، المتزوجات بنسبة 16.6 % ثم المطلقات 7.1 %. كما توجد العديد من المؤشرات التي تعكس وضع النساء في مصر ومنها أن 30.8% يعانون الأمية. كما أكدت نتائج بحث القوي العاملة ان نسبة الأمية بين النساء تصل إلى 41% في البحيرة، 45.7% في بني سويف،44.5% في الفيوم،48.3% في المنيا،41.7% في أسيوط،45% في سوهاج،40% في قنا،40.2% في الأقصر، 40.9% في مطروح.
كما أوضح الباحث الدكتور خالد محمد السيد حسنين في دراسته ” استخدام أسلوب العصف الذهني القائم على القبعات الست للتفكير في خدمة الجماعة لتنمية مهارات حل المشكلة لدي المرأة المعيلة”، وفي محافظة الشرقية اتضح أن 19% من الأسر تعيلها نساء، 89% منهن أرامل ومطلقات. وفي الدراسة التي قام بها الباحث في عام 2019 توصل الي أن المشكلات الاقتصادية هي أهم ما يواجه المرأة المعيلة والتي تتمثل في تراكم الديون، وعدم وجود فرصة عمل، وانخفاض الدخل لعدم وجود خبرة أو تدريب على حرفة وارتفاع الأسعار. ولعل ظاهرة النساء الغارمات التي انتشرت في السنوات الأخيرة هي أحد مظاهر معاناة المرأة المعيلة.
ووفقا للبيانات الأولية لبحث القـوى العاملة عام 2020، بلغت مساهمة المرأة في قوة العمل 14,3% من إجمالي قوة العمل (15سنة فأكثر) مقابل 67,4% للرجال، وبلغ معدل البطالة للإناث 17,7% مقابل 6,0% فقط للذكور. وأفاد المركزي للإحصاء في بياناته بأن نسبة النساء اللاتي تشغلن مهنة الأخصائيات والمهن العلمية بلغت 37,5% من إجمالي المشتغلين، بينما مثلت القائمات بالأعمال الكتابية 33.5%، أما نسبة الفنيات ومساعدي الأخصائيين 25,9%، والمشتغلات في الزراعة والصيد 18,6%، بينما كانت نسبة العاملات في الخدمات ومحلات البيع 13.6%، وكانت نسبة للعاملات في المهن الحرفية هي الأقل بواقع 1,5%.
من يرغب في التعرف على معاناة النساء المعيلات وكيف يواجهن الفقر عليه ان يطلع على دراسة الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء حول أثر فيروس كورونا على الأسر المصرية حتى مايو 2020.
لجأت 92.5% من الأسر إلى الاعتماد على أنواع أرخص من الطعام، 90% اضطروا الي تخفيض استهلاكهم من اللحوم والطيور والاسماك، 36% لجأوا إلى تقليل كميات الطعام، 20% قللوا عدد الوجبات اليومية، 14.2% اضطروا إلى تقليل غذاء البالغين لإطعام الأطفال، 2.8% اجبروا على قضاء بعض الوقت بدون طعام.
هذه عينة من معاناة الطبقة التي عبرت عنها أم ماريو وكيف تأثرت بأزمة كورونا وانعكاسها على أنماط طعامها الأساسي. وهي نفس النتائج التي أكدها تقرير الجهاز في أكتوبر 2020.
كما توصلت دراسة مرفت صدقي عبد الوهاب السيد “أساليب التكيف المعيشى للمرأة المعيلة في ظل ظاهرة تأنيث الفقر ببعض المحافظات المصرية” والمنشورة في 2٠١٦، المجلة المصریة للبحوث الزراعية إلى نتائج من أهمها:
- من أهم أساليب التكيف المعيشى الإيجابية التي تتبعها المرأة المعيلة في ظل ظاهرة تأنيث الفقر إعداد أنشطة منزلية مدرة للدخل خاصة بالإنتاج الغذائي بنسبة ٣٦ %، والعمل عند الغير بالزراعة بنسبة ٨٨ %، بينما كانت من أهم أساليب التكيف المعيشى السلبية إيقاف تعليم الأبناء بنسبة ٤٤.٧%، والاتجاه نحو زواج الفتيات المبكر بنسبة ٢٧.٦%.
- من أهم المشكلات التي تقابل المرأة المعيلة عدم وجود المال الكافي لتوفير الغذاء للأبناء بنسبة ٦١ %، وعدم الحصول على الإرث من زويها بنسبة ٥%.
إذا ووفقاً للبيانات والإحصاءات الرسمية لدينا 5.4 مليون أسرة تعولها النساء، وتبلغ البطالة بين النساء 17.7% كما تعاني 59.1% من النساء المعيلات من الأمية، 18.6% منهن يعملن في أعمال الزراعة والصيد.
لذلك فإن نموذج دميانة يعبر عن هموم 5.4 مليون أسرة تعولها النساء وإذا ربطنا ذلك بمعدلات الفقر وتركزه في الريف ومعدلات البطالة والأمية بين النساء نجد أنه على الرغم من كل ما تم من محاولات تمكين النساء لا تزال لدينا فجوة كبيرة تتعلق بالنوع الاجتماعي.
الظاهرة موجودة في تقارير الأجهزة الحكومية سواء التعبئة والإحصاء أو المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية. وما جسدته دميانة أم ماريو برؤية المخرج عمر الزهيري هو واقع فعلي تعيشه ملايين الأسر المصرية التي تعولها النساء. وأن إنكار الحقيقة والتغطية والإنكار لا يلغي الواقع الذي يعيشه الملايين، ولن تحل المشاكل بالإنكار بل بالاعتراف بوجودها وبحث أسبابها ودراستها وتحليلها وصولا لحلول عملية مناسبة لواقعنا وثقافتنا.
تحية إلي أم ماريو التي كانت صادقة في التعبير عن معاناة شريحة من النساء في مصر تريد حلاً. وتحية وتقدير الي كل النساء المعيلات وعاملات الزراعة وعاملات المنازل اللائي يتحملن أعباء أسرهم ويحرصون على تعليم أبنائهم. إنكار الحقيقة لن يلغيها ولكن الاعتراف والإقرار بها أولي الخطوات على طريق العلاج.
إلهامي الميرغني
21/10/2021